بقلم حسام المطوري
قبل عدة أيام، نشر أفراد يحملون توجهات شوفينية من المستوطنين الفرس في الأحواز رسالة موجهة إلى الرئاسة الإيرانية. في هذه الرسالة، حذروا من تصاعد المد القومي والحراك الثقافي والهوياتي في الأحواز، وذلك في أعقاب تعيين الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان “محافظًا” عربيًا لشمال الأحواز (“خوزستان”). واعتبروا هذا التعيين تهديدًا لوحدة الوطن الإيراني، محذرين من أن إقامة أي نوع من الأنشطة والمناسبات الثقافية العربية في المدن الأحوازية تُعد اعتداءً وعدوانًا على سلامة “الدولة الأمة الإيرانية” ووحدتها الثقافية واللغوية التي تعتبر الفارسية جوهرها. تضمنت الرسالة توقيع مئتي مستوطن، معظم تواجدهم لم يتجاوز في الأحواز عشرين أو ثلاثين عامًا كحد أقصى حيث معظم المناطق الأحوازية كانت مكونة بتكوينها الديموغرافي العربي، واحتفظت بعروبتها بشكل شبه مطلق قبل عقود من الاحتلال والاستعمار الاستيطاني الذي بدأ منذ عام 1925.
وقد نبع سخط هؤلاء المستوطنين عن جميع المظاهر العربية، معتبرين إياها تجليات للخروج عن سلطة القانون ومؤشرات على التخلي عن الهوية المهيمنة للدولة الإيرانية. وقد اعتبروا هذه المظاهر أعمالاً موجهة ضد السلطة الفارسية. ولذلك صنفوا مناسبة “قرقيعان” كنوع من التجمع الانفصالي، ورأوا الاحتفال بعيد الفطر كاستهداف لعيد النيروز. كما اعتبرت هذه البيانات الأناشيد والأشعار العربية بمثابة هجوم على الفارسية، في حين اعتُبر ارتداء الزي العربي علامة على إضعاف الهوية الإيرانية الفارسية. أما نشر المقالات والدراسات والكتب العربية التي تناقش القضايا الأحوازية، فقد اعتُبر تمهيداً للانفصال وتخطيطاً مشبوهاً للعداء. يمكن القول، بلغة تتماشى مع منطق هؤلاء الموقعين، إنهم لا يقبلون بأي حقوق للظهور العربي الأحوازي، ولا يتركون له خياراً سوى الاستحالة إلى الفارسية، أو التحول إلى عربي مستفرس يتنصل من هويته العربية ويذوب في الفارسية. إن هذا يمثل منطق السلطة، الذي يحدد ما يجب على الآخرين فعله وفقاً لإرادتها وإملاءاتها.
وفي نفس لا ينم إلا عن حقد دفين وتكبر، حذر هؤلاء الموقعون من الفرس المستوطنين السلطات الإيرانية من تنامي الهوية العربية في الأحواز، وخطر ذلك عليها، داعين الدولة إلى التصدي الحازم لكل عربي يصر على عروبته ويعي تاريخها وينتمي لها. كأن الانتماء إلى اللغة الأم، والعروبة كقومية وتاريخ وماض ووطن جريمة يجب معاقبة المتهم بها، لأن لا انتماء مقبول وشرعي من وجهة نظر هؤلاء سوى الانتماء للفرس ودولتهم وتاريخهم حتى ولو كنت عربيا أحوازيا على خلاف حضاري متجذر مع الفرس وجودا وتمظهرا ومستقبلا.
ومن هنا أول ما يجب تسجيلة من ملاحظات هو السؤال الجوهري التالي: ما هو مصدر الحق الذي استند إليه هؤلاء المستوطنون في رسالتهم هذه؟ أليس للعرب، وفق خطاب من يعتقد بوحدة «الدولة الإيرانية»، الحق في المطالبة بحقوقهم في المواطنة، التي تشمل الحق اللغوي والهوياتي والثقافي والاجتماعي والسياسي إلخ، كما هي حقوق الفرس؟
تحاول الورقة هذه الإجابة عن هذا السؤال واستكناه بعض جوانب هذه الخطوة.
في معنى الاعتراف
كتب الفيلسوف الألماني هيغل في كتابه العظيم “فنومينولوجيا الروح” فصلاً ممتعًا أسماه “السيد والعبد”، حيث أوضح فيه كيفية تعرف الإنسان الفرد على ذاته. يقول هيغل إن الإنسان، عند قدومه إلى الحياة، يخرج من بيته إلى العالم الخارجي ليقابل أشخاصًا آخرين يجاورونه. سرعان ما تنشأ بينه وبينهم صراعات على تحديد ما له وما لهم، سواء كان ذلك متعلقًا بالممتلكات أو اللغة أو الأمور المعنوية والمادية الأخرى.
يأخذ هذا الصراع المحتدم بين إرادتين، أو فردين، أشده عندما يصل إلى مراحل خطيرة. يجد المتصارعان نفسيهما بعد صراع طويل أمام نتيجة واحدة: فناء أحد الطرفين وموته. فحدة الصراع تفرض عليهم نتيجة حتمية، وهي إما أن تفني الآخر أو يكون نهايتك. في لحظة حاسمة من هذا الصراع، ومع تصاعد حدة الحرب، وعندما تقترب نهاية أحد الأطراف ومقتله، يقرر أحد المتصارعين التنازل عن الاستمرار في الصراع، خوفًا من الموت وحفاظًا على الحياة، بعدما أدرك أن أنياب الموت تحيط به نتيجة شدة ذلك الصراع.
وهنا بالتحديد، وفي هذه اللحظة التي يتنازل فيها أحد أطراف المنازلة حذر الموت، بعد خوف شديد وجبن مفروض، تنشأ علاقة تحول هذا الصراع إلى نوع من الاتفاق والتعاطي بين المتصارعين. ولا يحتاج هيغل إلى التعمق ليبين طبيعة هذه العلاقة، لأنها بديهية، تتمثل في كونها علاقة المنتصر بالمهزوم. فهنا يكون راكب المنايا غير المبالي بالموت، هو الذي يطرق باب الحرية الحمراء بيده المضرجة، هو السيد، بينما يتحول صاحب الخنوع إلى العبد.
وبذلك، يخضع العبد بكامل وجوده لإرادة السيد، ويكون مطيعاً له، يفعل ما يشاء، بل يظهر بالطريقة التي يرضاها السيد، ويتصرف وفق ما يطيب له، سعياً لنيل رضاه وتجنب نشوب صراع آخر قد يفضي إلى فقدان حياته. فإذا كان العبد يمارس حرفة الحدادة، فإنه سيصنع ما يرتضيه السيد، وإذا كان نجاراً سينحت ما يرضي السيد، وإن كان شاعراً سيقول ما يهتف له السيد. وإذا كان عربياً، سيتحول إلى لغة الأعاجم ليتواصل مع السيد بهذه الطريقة. إنه عبد في أعماق وجوده ومن حيث الوجود.
ويوضح هيغل أنه بينما كان السيد في بداية الصراع ينظر إلى العبد بندية واحترام، فإن العبد بعد هزيمته وقبوله الانقياد يتحول إلى نكرة في عيون السيد. لم يعد يرى فيه إنساناً يماثله في المنزلة والشرف، بل يتحول العبد إلى مجرد شيء، مجرد ماكينة تخدمه وتوفر له ما يحتاجه للاستمرار في حياته. ولذلك، حينما يريد العبد مرة أخرى أن يثور على السيد، يرفض السيد الدخول في صراع معه، فهو لا يراه كفؤاً له ليصارعه أو يعتبره ضداً له.
المسؤولية الاستعمارية للمستوطنين
كأن هيغل يتحدث عن تلك العلاقة التي نشأت بين الشعب الأحوازي العربي، وبين الفرس المحتل إياهم، بعد العالم 1925. فبعد ما أخفق العرب، في تلك اللحظة المفصلية، بأميرهم المنهزم خزعل، وانتصر الفرس بشقيهم رضا خان نشأت علاقة تحول فيها العرب إلى عبيد، والفرس إلى سادة. وهكذا أصبح العبد الأحوازي هذا طائعا لسيده منقادا له، يتصرف بالطريقة التي يرتضيها ابتغاء لرضاه، واحترازا عن سخطه.
وهكذا بات الأحوازي يتحدث باللغة التي يرتضيها سيده ويفهمها، وبات يلبس الزي الذي فرضه السيد عليه، وبات يتعلم من التاريخ ويكتب في التاريخ باللغة الفارسية لغة الأسياد، وبات يرى في العربية مقبحة يجب التخلص منها، وبات يطلق على أبنائه أسماء فارسية هي أسماء أسياده، وبات يترجم للسادة من لغات أخرى إلى لغتهم. وبات يفعل كل ما يريده السيد، ويتجنب كل ما يسخط السيد. بل إنه استحال في شخصيته سيده وتقمصها، وبات يرى العالم من عيون سيده، كأنه نكرة لا استقلال لديه، ولا ما يفصله عن سيده، كأنه نسي أنه وسيده صنوين، وأنهما قد ينفصلان.
وبينما شهد التاريخ الأحوازي ميلاد بعض الشخصيات التي أرادت كسر هذه العلاقة وارتضت بالموت بديلا لقبولها، كان جواب السيد المتسلط التنصل التام لكل ما يمت للعبد بصلة. العربية وتاريخ العرب وثقافة العرب ومجتمع العرب وحضارة العرب، الشعب الأحوازي، كله مرفوض في عيون السيد، لا لشيء سوى لأنه اعتاد التسيد، وأخذ يجني ثمار تسيده، ويورثها لأبنائه السادة دون أن يعي بأن تلك العلاقة لا يمكنها الاستمرار وليست علاقة طبيعية.
من هذا المنطلق بالتحديد تصرف المستوطنون الفرس في رسالتهم التي بعثوها هذه؛ متناسين إتيانهم للأحواز الوطن، وطن العُرب دون غيرهم، ليرتعوا فيها لمدى عقود، وليستمتعوا آمنين بخيراتها، حتى إذا شعروا من العرب جنوحا يسيرا إلى هويتهم وتاريخهم وتمظهرهم المجتمعي، استكثروا عليهم، واعتبروهم عبيدا لا يحق لهم فتات الحقوق البشرية أو «المواطنة». کأنَّ هنا تصرفا جبليا تجذر في نفوس هؤلاء المستوطنين منعهم كليا عن التعاطي مع الواقع، وعن فهم الأحواز موطنا للعرب، وأرض الأجداد وحاضنة التاريخ العربي التليد.
إنها ضرورة إعادة تلك اللحظة التاريخية التي يتمكن منها الشعب الأحوازي من الاستمرار في الصراع، إلى نهايته وغايته، حتى يلين فيها السيد اليوم، حتى يلين فيها الفارسي، ويستعيد عبر ذلك العربي، العبد اليوم، سيادته على نفسه، ويرجع بالتاريخ إلى نصابه، ويكسر قيد المتسلط اليوم الذي استكثر على العرب الدراسة بلغتهم، استكثر على العرب ارتداء لباسهم، استكثر على العرب الحديث عن تاريخهم، جرم ذلك وقضى على كل ما أصر عليه، بين قتيل وأسير ومنفي عن الوطن.
ويخطئ من يظن بأن الصراع يتلخص بالصراع العنيف بين السيد والعبد، بل إن نشوء هذه العلاقة واستمرارها أفرز تبعات جسام على كافة الأصعدة، تبينت في الازدراء الذاتي، وفي جميع الجوانب التي تم ذكرها أعلاه من التنكر للذات واللغة والهوية والتاريخ إلخ. ولا يمكن التخلص من كل التبعات إلا إذا خيضت حملة شعبية واسعة، حضارية بأتم معنى الكلمة، تشمل جميع الجوانب المسلحة والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والقانونية والدولية والفنية والشعرية والجمالية: لأنها تتعلق بشعب وبالاعتراف به على كافة الأصعدة.
بالطبع، لديك الحق في الظهور، لكن ذلك سيكون وفق الشروط التي أحددها أنا
وإذا ما كانت علاقة السيد بالعبد هي علاقة قائمة في الأحواز، فإنها لا يعني أبدا أنها علاقة مشروعة، أو أنها علاقة أتى بها الجبر التاريخي وما شاكل ذلك من محاولات التنصل من المسؤولية. بل إنها علاقة صنيعة البشر، ولها من يقوم عليها، ويحرص على استمرارها وتغذيتها. ومن أجل ذلك فإن المسؤولية الاستعمارية تقع أولا وأخيرا على عاتق هؤلاء المستوطنين الذين أتوا إلى الأحواز الوطن، واستحلوها واستعمروها وتمتعوا بخيراتها، فبدل أن يشكروا لأهلها خيراتهم، أخذوا يبنون علاقة قوامها حرمانهم أصحاب الثروات الحقيقيين، كشرط لضمان تمتعهم بها.
إن المسؤولية الكبرى في العلاقات القائمة في الأحواز، والبنى المتجذرة في السلطة والمجتمع، هي من نصيب المستوطنين الفرس، لأنهم هم من دأبوا على تأسيسها من خلال دولة الاستعمار التي ينتمون إليها، ثم هم وحدهم من حرص على استمرارها وسلامة عملها، ودافع عنها وعن بقائها. فإذا كان الفقر يعيق الشعب الأحوازي في وطنه، فإن السبب الرئيس لذلك هو المستوطنون الذين سلبوا ثرواته من جهة، ودافعوا عن توزيع غير عادل للثروات من جهة أخرى. وإذا كان التعليم باللغة الأم مستحيلًا على الأطفال العرب، فلأن المعلمين الفرس ومن هم في موقف الإدارة التعليمية هم من رفضوا تدريس اللغة الأم، معتبريها كخروج عن الملة. بالإضافة إلى أن التمييز العنصري صار سائدًا في مختلف مجالات الحياة العامة، مثل الأسواق والمدارس والدوائر الحكومية والجامعات والأندية الرياضية، وكل ذلك جلبه المستوطنون وأشاعوه في المجتمع.
بينما يمكن القول إن بعض المستوطنين قد لا يشعرون بتبعات ذلك، ويجدون أنفسهم في موقف غير مدرك لعواقبه، فإنه من الواضح أن هذه الرسالة تكشف عن عمق تسيد الفرس واستعدادهم لمجابهة الصراع بهدف حرمان أهل الأحواز من حقوقهم. إن تلك النبرة، والتي تُظهر الإصرار على التجاوز، تعكس مدى التعالي الذي يشعر به المستوطنون تجاه العرب الأحوازيين، وفهمهم لحقوقهم كأمر منعدم.
وفي الوقت الذي ينكر فيه معظم المستوطنين الهوية العربية ويشاركون في الجرائم التي يرتكبها نظام الاحتلال ضد الشعب العربي الأحوازي، نجد أن بعضهم يتبنى موقفًا يُظهر اعترافًا بما يعتبرونه حقوقًا للأحوازيين، مما يبرز تميُّز موقفهم كـ”سادة” يقررون مصير الآخرين. فعندما يطالب الشعب الأحوازي بحقوقه في التعليم باللغة الأم وتخصيص جزء من الثروات واستحداث نظام فدرالي أو حق تقرير المصير، يتدخل المستوطنون ليحددوا ما يمكن قبوله وما لا يمكن، مقتصرين على الاعتراف بالتعليم باللغة الأم في بعض المراحل فقط، معتبرين أن حق تقرير المصير يهدد المصلحة الوطنية الإيرانية ويعد مقدمة للانفصال، مما يُظهر مدى تعاليهم على تطلعات وحقوق الشعب الأحوازي.
إن هؤلاء المستوطنين يتخذون على عاتقهم تحديد ما هو مقبول من المطالب، وكأن الحقوق مشروطة برضاهم، وهو ما يجسد التفاوت الجذري بين “السادة” و”العبيد”.
وفي الختام، نمتلك في مخزوننا من الفلكلور العربي الأحوازي الكثير من الكنوز الثقافية، مثلما يقول المثل: “هذا الميدان يا إحميدان”. نعم، هذا هو الميدان، أيها الشعب الأحوازي، ميدان نزع الاعتراف، وميدان الصراع بين السيد والعبد. فإلى أي جانبٍ ستنحاز؟ إنه صراع يجب خوضه في الميدان بمنازلة ومصاولة، وفي مجالات العلم والثقافة والشعر، وفي الظهور الدولي، والثبات على اللغة والزي والمجتمع والتاريخ…
حسام المطوري، كاتب وباحث متدرب في معهد الحوار للأبحاث والدراسات
الف شكر وتقدير للباحث والكاتب العربي الأصيل.
بسم الله الرحمن الرحيم.
وخلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا صدق الله العظيم. (
لا نخشى على ضياع هويتنا العربية الاحوازية ونحن قرن كامل نتحدى المحتل الفارسي العنصري .
ماضاع حق ووراءه شعب وفي صامد متمسك بحقوقه المشروعة والعادلة.
مع خالص الشكر والتقدير للباحث والكاتب حسام المطوري.