المقدمة
أصدرت الصحف الإيرانية عدة تقارير تناولت العمليات التدميرية الواسعة التي تستهدف الآثار التاريخية في الأحواز بشكل عام، ومدينة السوس بشكل خاص، محذرة من خطر طمسها وتدميرها إلى الأبد. وقد طالت هذه العمليات التي تجري برضا السلطات الأمنية الفارسية الحدود الرسمية لمنطقتي بيت مشحوت والمقرنات الأثريتين في مدينة السوس. ولم يشفع لهذه الآثار إدراجها في قائمة «التراث الوطني الإيراني» ولم يمنع ذلك التطاول عليها من قبل مجموعات تبدو منظمة ومدعومة من قبل مجاميع عنصرية لا تريد بقاء معلم تاريخي وأثري في الأحواز يدل على عروبة هذا الوطن.
وبينما يمكن توثيق مئات الحالات، إن لم تكن الآلاف، التي تطال المعالم الأثرية والتاريخية العربية الأحوازية، بعلم السلطات وتخطيط منهم، أو برضاهم واهمالهم، فإن هذا التقرير يسلط الضوء على حالتين لجلب الانتباه والتحذير إلى ظاهرة مستفحلة تهدف إلى قلع الجذور التاريخية وإصابة التاريخ القديم بالطمس والإندثار.
عدوان على التاريخ الأحوازي وآثاره
إن ما يكشف النية المبيتة تجاه هذه الآثار هو تكرار التجاوزات، دون أي اجراءات رادعة تهدف إلى منع حدوث تلك الأعمال والحفاظ على ما تبقى منها. وتبرر السلطات المعنية بالأمر، بدلا عن ذلك، الدمار الحاصل وتكرار الاعتداءات، بأنه نتيجة النشاط الزراعي للأهالي القاطنين بالقرب من هذه الآثار. وبينما يقع جانبا من المسؤولية على الأهالي الذين يجهلون قيمة المواقع التاريخية، عاملين على توسعة الحقول الزراعية إلى حدود هذه المنطقة، ولكن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق السلطات. فغني عن التصريح بأن الموقف الصحيح كان منح المزارعين أراض زراعية بديلة، وفرض طوق معلن لإبعاد المارة والمزارعين والمعتدين عن الوصول إلى هذه المنطقة.
وخلافًا لمزاعم السلطات التي تلقي باللوم على المزارعين، فإن الدمار الكبير الذي لحق بهذه الآثار كان نتيجة عمليات في الحفر قامت بها مجاميع مزودة بآليات حفرية وجرافات وعمال، تقدم بين الفينة والأخرى على التنقيب والبحث عن الآثار المتبقية وسرقتها، ثم تدمير ما تبقى منها، ليس من أجل تغطية الجريمة بل من أجل التدمير ذاته. وهذا لا يدع مجالا للشك بأن سرقة الآثار التاريخية التي لا تقدر بثمن على يد هذه المجموعات جاء كمكافأة على هذا التدمير والتطميس الذي تقوم به.
هذا ويثبت تكرار هذه الأحداث النية المبيتة تجاه الآثار. فقد شهدت مدينة السوس أعمالا مماثلة كثيرة، هدفها المشترك الإضرار بالآثار التاريخية وطمسها وجوديا. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى نموذج يعكس الاستهتار الصارخ بهذه المعالم، وذلك عندما أوكلت بلدية المدينة مهمة توسيع الطريق الرئيسي إلى مقاول لم يجد مساحة لتوسيع الطريق المشار إليه إلا عبر جلب الركام من تلال تاريخية مجاورة، تعود قدمتها إلى القرون الإسلامية الأولى، وهدمها جميعها. ولم يبق منها سوى ركام يدل على نقوش حجرية وهندسة حددها المختصون بأنها آثارا إسلامية للقرن الهجري الأول.
وما كان من البلدية تلك إلا مكافأة المقاول وتسديد جميع تكاليف عمله، ثم طي القضية ومنع تداولها، بل وتجريم من يسلط الضوء عليها وإحالته إلى الجهات الأمنية المستعدة للبطش على الدوام.
وبينما الباحث عن هذه القضايا يجد اهتماما إعلاميا من الإعلام الفارسي الذي لا يتطرق عادة إلى قضايا حساسة، فإن هذا الاهتمام يندرج أيضا في سياق تدمير هذه الآثار. تدمير من نوع آخر: هو التدمير الناتج عن التزوير. فإذا كانت الكثير من هذه الآثار المدمرة وغير المدمرة تعود إلى الحضارات السابقة القديمة التي نشأت على هذه الأرض، وهي قد تكون ميسانية وعيلامية وآرامية وإخمينية، يسارع إعلام النظام وسلطاته المعنية بعزو جميعها إلى الحضارة الفارسية، دون إثبات علمي، كأنها تحاول هنا أيضا أن تثبت، عبر التزوير، فارسية هذا الوطن العربي.
وعلى العموم فقد كان آخر هذه العمليات التدميرية التي يمكن وصفها بالعمليات الممنهجة قد طالت منطقتين أثريتين هما بيت مشحوت والمقرنات، يتم فيما يلي الإشارة إلى موقعها وطابعها التاريخي العربي.
بيت مشحوت
تقع منطقة بيت مشحوت على بعد 20 كيلومتر من مدينة السوس. وتعد من الآثار التي حافظت إلى اليوم على عمارتها، وما تزال الكثير من الأعمدة والحيطان والسقوف وغيرها من النقوش المشيدة فيها صامدة. وبناء على المتبقى من هذه الآثار قدرت الجهات المختصة مساحة المدينة الأثرية هذه بـ160 هكتار مربع؛ وأفادت بأن الآثار هذه هي من بقايا مدينة عامرة كانت مشيدة في القرن الأول، وأنها من المرجح أن تكون مدينة كبيرة عامرة.
وبينما تشير بعض تصريحات المختصين بأن النقوش والعمارة تدل على التغيير الحاصل من العمارة الساسانية إلى العمارة الإسلامية، بيد أن ذلك لاينفي أبدا الطابع العربي لهذه العمارة، ويؤكد أنها بقايا أثرية عربية، مما لا يدع مجالا للشك بأنها مدينة عربية تاريخية.
هذا وقد تم اكتشاف أرضية منقوشة في بعض المواقع من هذه المدينة، إلى جانب هياكل من الجبس المزخرف، ما يدل على طابعها، والفترة التي قد تنتمي لها بناء على الشكل الهندسي والمعماري الذي ينتظر مزيد من البحث الأثري والتنقيب. وتقع هذه الآثار في مدينة الكرخة، التي كانت شاهدة على إقامة حضارات قديمة، ما قبل الإسلام فيها، كانت من الحضارات السامية الآرامية والآشورية على حد وصف علماء التاريخ والآثار.
المقرنات
تقع المقرنات على بعد حوالي 25 كيلومتر من مدينة السوس العريقة، وقد كانت منطقة مقدسة يقع في قلبها مسجدا اعتاد الأهالي دفن موتاهم على مقربته. وقد تكون التسمية اشتقت عن القرن، وصفتها مقرنات، أي صاحبة القرون، بناء على الاشتقاق العربي (كما قد تعني المقرنات أسماء لالملوك؟).
والمقرنات هي بنايات وآثار عثر عليها في هذه المنطقة، وتدل على ما يشبه المآذن ذات الشكل الشبيه بالقرن من حيث الإلتواء والرفعة. وبينما تشير عادات الأحواز القديمة إلى أن الأسلاف كانوا يحولون قبور الملوك إلى أماكن وأضرحة مقدسة، فإنه من المتوقع جدا أن يكون هذا المسجد القديم لأحد الملوك القدماء، كما هو الشأن بالنسبة لضريح النبي دانيال، الذي يرجح أن يكون أحد الملوك الآرميين أو غيرهم من الأقوام السامية التي قطنت هذه المنطقة. وتفيد المعلومات المتاحة الصحفية (التي تحيل إلى كتاب حدود العالم) إلى أن المقرنات هي من بقايا مدينة تدعى نَصُبي من القرون الإسلامية الأولى، كانت مدينة زاهية إلى جانب السوس، اختفت آثارها في العصر الراهن.
وقد اكتشفت هذه المنطقة عندما عثر على مسجد يعود للقرن الثالث الهجري، سرعان ما هدم من قبل جهات مجهولة في الثمانينات. وتشير شهادات الأهالي إلى أن جهات عسكرية إيرانية هي التي أقدمت على سرقة آثار هذه البناية، ثم عمدت على تدمير ما تبقى منها، مستخدمة ما توفر لديها من معدات وجرافات وجميع الأدوات اللازمة لإتمام العملية، في غياب تام للسلطات بل وما يشبه الإيعاز والدعم منها.
وعلى الرغم من ذلك فإن الفخاريات والتوابيت المتكسرة المكتشفة في هذه المنطقة اختفت بشكل مريب ولا يعلم الجهة التي تم تهريبها إليها.
إلى جانب ذلك كانت الجهات البحثية، من علماء الآثار وأساتذة الجامعات الإيرانية، مساهمين في عملية الطمس والخراب هذه، حيث اتخذوا سياسة واضحة ابتسارية، يعمدون فيها على تدمير كل معلم لا يمكن تأويله أو مصادرته لحساب الحضارة الفارسية. وهكذا إذا وجد العالم الفارسي معلما أثريا يتعذر عليه نسبه إلى الإخمينية أو الساسانية، فإن القرار يكون هنا طمس هذا المعلم وإتلافه كليا.
السياسة التدميرية
وبينما من المتوقع الاجتهاد في حفظ التراث الخاص بهذه المنطقة والمراقبة عليه، جرت سياسات النظام المحتل على عكس ذلك حيث حاول جاهدا تدمير هذه الآثار ومحاربة المعتنين بها، ومحوها من الوجود. وذلك ليس لشيء سوى لأنها تدل على عروبة الأحواز بمختلف مدنها، وتدل على ما لهذا الوطن العريق من حضارات تليدة كلها تتحد في العروبة وتظهر ما ينقض سردية الاحتلال من التفريس.
وقد تفنن النظام الإيراني والأجهزة المعنية بمهمة محو التاريخ في القضاء على هذه الآثار عبر أساليب مختلفة منها:
- تضييق الحدود التاريخية للمناطق الأثرية في السوس. فبينما قدر علماء الآثار الحدود الخاصة ببيت مشحوت بـ400 هكتار والمقرنات بـ300، كحد أدنى، قلص النظام مساحة هاتين المدينتين إلى 100 هكتار، ما يعني القضاء المبرم عليها.
- إتاحة الوصول إلى هذه الآثار دون حراسة وطوق أمني، ما جعلها عرضة لمختلف النهب. فضلا عما لحقها من العواصف والأمطار وكثرة تردد العامة والمركبات.
- التحفيز غير المباشر على سرقة هذه المواقع عبر إشاعة وجود كنوز وذهب فيها. حيث لا يمكن على الإطلاق تصور معرفة مجموعات اللصوص الأثرية بهذه الأماكن التاريخية دون الحصول على معلومات أكيدة من جهات حكومية عاملة في الدوائر المعنية.
- تحفيز المزارعين على توسيع حقولهم الزراعية لتشمل مساحات من المنطقة الأثرية وبالتالي القضاء عليها عبر تحويلها إلى أراض زراعية يتم حصادها وحفر قنوات مياه فيها من جهة؛ والتنصل من المسؤولية المباشرة على إلقاء اللوم على الأهالي المزارعين من جهة أخرى.
وختاما يظهر تعامل السلطات الإيرانية، بكامل إعلامها والجهات المعنية بالآثار التاريخية، المسماة إدارة حفظ التراث الثقافي (ميراث فرهنكي) بأن حملة الاحتلال لم تشمل احتلال الأرض والوطن في الوقت الراهن فحسب، بل هو احتلال لا زماني، يشمل الحاضر والماضي ويعدم المستقبل. هذا هو ما تؤكده الحملة الشعواء ضد الآثار التاريخية التي لا تتوخى سوى محاربة كل ما يمت لتاريخ الوطن الأحوازي وعروبته وماضيه التليد. ومن أجل ذلك فإن الفريضة الواجبة اليوم هي التوسل بالمنظمات العالمية وخوض حملة إعلامية داخلية ودولية من أجل فضح أساليب النظام، ومن أجل الحفاظ على ما تبقى من هذه الآثار وحث منظمة اليونسكو على التدخل لإنقاذ بقايا التاريخ العالمي الواقع في الأحواز.
كما يتطلب خوض حملات ومهرجات إعلامية لتوعية الأهالي في القرى والأرياف والمدن القريبة من هذه المواقع، بخطورتها وأهميتها للتاريخ العربي الأحوازي، وكشف قيمتها المعنوية التي لا تقدر بثمن.