السبت, أبريل 26, 2025
مقالاتصناعة النسيان واستهداف أماكن الذاكرة في الأحواز

صناعة النسيان واستهداف أماكن الذاكرة في الأحواز

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

 كل شيء في الأحواز مستباح  للطمس والتدمير  إذا أشار إلى العروبة أو اعتبر الأحواز موطنًا للعرب. التاريخ والآثار ومعالمها، الجغرافيا واللغة والملبوس والهوية والمجتمع، وكل ما يتعلق بذلك، يصبح مستهدفًا بمجرد إثبات عروبته أو محاولة الحفاظ عليها والوعي بها. هذا هو المبدأ الأساسي الذي تم على أساسه تشكيل الدولة الإيرانية  عبر الاحتلال. ومن هذا المنطلق، تعاملت السلطات الإيرانية مع التاريخ الأحوازي ومع معالمه الأثرية مثل الآثار الميسانية (ما قبل الإسلام) والإسلامية والمشعشعية والكعبية، حيث حاولت طمسها أو تزييفها. زيفت ما أمكن تزييفه ونسبته إلى الفارسية والأعجمية، ودمرت ما لم يكن بالإمكان تزييفه أو مصادرته. وقد بلغ هذا التوجه الاستعماري ذروته عندما قامت السلطات الإيرانية بهدم قصر الفيلية في المحمرة، رغبة منها في النيل من رمزية هذا القصر ورمزية قاطنه، الأمير خزعل. كما أرادت كذلك المساس بأحد أبرز المعالم التي تمثل عروبة الأحواز في العصر الحديث، ومكان الذاكرة الجمعية للأحوازيين.

ابتدع المؤرخ الفرنسي بيير نورا في كتابه أماكن الذاكرة (les Lieux de memorire)  مفهوما وجد انتشارا واسعا أطلق عليه أماكن الذاكرة. يقول نورا إن للذاكرة الجمعية أماكن تدل عليها، أي مواضع تعيد إحيائها. أماكن للذاكرة تشتمل على أمكنة جغرافية وبنايات وتماثيل وأعمال فنية؛ أو شخصيات تاريخية وأيام تذكيرية ونصوصا فلسفية وعلمية وأنشطة رمزية وغيرها. إنها أماكن حقيقية أو مجرد مصنوعات ذهنية، فيها تتشكل الذكريات حفاظا عليها من النسيان

إنها أماكن تعيد لنا ذكريات ماضية. فإذا ما ضعفت أو اضمحلت مختلف أشكال الارتباط بالماضي، الماضي المؤسس للهوية الجمعية بالآن ذاته، يأتي مفعول أماكن الذاكرة ليتحول إلى بديل حسي للذاكرة الجمعية، فينعشها ويعيد توطيدها في النفوس. إنها جسر آني بين الماضي والمستقبل. ولذلك يضارع مفعول هذه الأماكن مفهوم الاستحضار اليومي، حيث تكون عملية إعادة الماضي جزءا من هذا الاستحضار، ليتوطد عبر ذلك ماض أو مشهد أو ذكرى، بالصياغة التي تمت فيها عملية التذاكر هذه. وهنا تكتسي عملية التذاكر والاستحضار أهمية قصوى، لأن التذكير يعني فيها إعادة هيكلة، أو ترتيب أو صناعة، ماض وفق ما نتذكره منه، لا وفق الطريقة التي قد يكون حدث فيها. فهنا لا يتعلق الأمر بتوثيق تاريخي صارم يبحث عن «الحقيقة التاريخية» ويتحراها، بل هو يرتد إلى لحظة معينة ليتذكرها  وفقاً لما يُتيحه الحاضر وواقعه.

إذا نظرنا إلى قصر الأمير خزعل من منظور تاريخي، قد يقول المؤرخ الايراني إنه يعود لأحد شيوخ العرب الذين “حكموا بتفويض من الملك القاجاري، ويعتبر من بقايا الحكم الإيراني التقليدي، حيث كانت كل مجموعة تحكم بشكل مستقل بعيداً عن إطار الهوية الإيرانية”. وقد يدعم هذا المؤرخ، خصوصاً إذا كان فارسيًا، تفسيره بوقائع وأساليب تاريخية معترف بها أكاديمياً. في المقابل، قد يأتي المؤرخ العربي ويصحح هذه الرؤية، ليوضح أن قصر الفيلية هو في الواقع للشيخ جاسب، حاكم المحمرة، وابن الأمير خزعل.

 ولكن إذا نُظر إلى هذا القصر من خلال الأماكن الذاكرة حينها سيعني بعيون الأحوازيين علامة على عروبة الأحواز، وثقافتها الممتازة، وحكمها المستقل: فهنا لا يتعلق الأمر بمناهج تاريخية ورصانة، وصدق أم كذب، بل يتعلق الأمر بالإحساس والشعور والوعي وبالهوية الذين يعكسها هذا المكان. إنه التصور المتخيل من الجماعة وفي الجماعة. فهذا مكان للذاكرة العربية، للاستقلال العربي وللعزة العربية المستباحة.

إن رسالة الأماكن التاريخية تتمثل في إحياء ما تم نسيانه أو يكاد، من خلال إعادة تأكيد المعتقدات ورؤية الأحداث واستحضار الرموز، وكل ذلك مرتبط بأماكن معينة يعيش فيها الأفراد والجماعات. إنها الذكريات التي تشكلت حول أحداث تاريخية أصبحت جزءاً من الماضي. فالأحوازي، على سبيل المثال، عند زيارته قصر الفيلية والنظر إليه، يستعيد بطريقة تصويرية ذكريات الأحواز وتاريخها، ويستحضر المحمرة بأميرها خزعل ويتذكر الإطاحة بالحكم العربي.

ويشرح نورا بأن هناك ثلاث شروط لإضفاء صبغة «الذاكرية» على مفهوم مجرد أو شيء حسي معين، مما يعني وجود ثلاث أبعاد لأماكن الذاكرة: البعد المادي، والبعد الوظيفي، والبعد الرمزي. 

ولا يعني البعد المادي لأماكن الذاكرة الاقتصار على أشياء ملموسة ذات طبيعة مادية فقط، كلوحات فنية أو كتب ونحوها، وأحداث تاريخية حاسمة أو دقائق صمت لإحياء ذكرى شخص ميت تتوفر أيضا على بعد مادي جلي، لأنها كما يعتقد نورا عبارة عن مقطع مادي جلي. وكل تلك تمتلك بعدا وظيفيا بمعنى تحقيقها أو ممارستها وظيفة محددة ومضبوطة ضمن المنظومة الاجتماعية.  فهنا نحن أمام وظيفة تتمثل في استعادة أو استحضار زمني مؤقت لذكرى أو ذكريات محددة. كما يتعين على الأماكن المؤدية إلى ذاكرة جماعية أن تمتلك بُعدًا رمزيًا معينًا، يتجذر في نفوس جماعة ما، ويرمز باستمرار كلما تم النظر إليه.

إن تعريف بيير نورا يجعل النظر إلى الظواهر الثقافية والجمعية المرتبطة عن وعي أو غير وعي بالماضي المشترك والهوية القومية لمجتمع معين كأماكن الذاكرة أمرا مقبولا بل وممكنا. وهكذا يكون القصر الفيلية وأميرها ويوم 25 نيسان من أماكن الذاكرة في الأحواز، وهكذا يعني استهدافها النيل من الذاكرة وإتمام عملية الاستحالة والاندثار. في صبيحة السابع من تشرين الثاني نوفمبر 2010 (16 آبان 1389) استفاق أهالي مدينة المحمرة، والشعب الأحوازي كله، على وقع خبر هدم قصر الفيلية من قبل جهات حكومية، وتسويته بالأرض تماما حتى أصبح أثرا بعد عين. 

وبينما توالت أخبار الهدم على بعض وسائل الإعلام الإيرانية، حيث لم تكن حينها وسائل التواصل الاجتماعي بقوتها اليوم، لكن لم تفصح هذه الأخبار عن الجهة التي نفذت العملية. وتشير المعلومات شبه الرسمية إلى أن «محافظ خوزستان» ورئيس بلدية المحمرة ورئيس منظمة حفظ التراث كانوا على علم بنية النظام هدم القصر، وبينما أبدوا مخالفتهم لمثل هذه الخطوة اعتبارا لهذا القصر كجزء من «التراث الوطني القاجاري» جاء التنفيذ على الرغم من تلك المخالفات.

وبينما تلقي هذه الأخبار نوعا من التعاطف ع هذا المَعْلم، عبر استنكار هدمه واعتباره «معلما قاجاريا»، ولكن واقع الحال يخبر العكس تماما. فقد كان هذا القصر محل هجمات مختلف أجهزة الدولة والمستوطنون المتربعون على حكم الأحواز وزمام أمرها. فبعد أن نجى القصر من الحرب الطاحنة التي استمرت ثماني سنوات على حساب الشعب الأحوازي، استولت شركة «خرمشهر للمرافق البحرية» (شركت تاسيسات دريايي خرمشهر) على الأراضي التي يقع فيها، وخصصت مشاريع من أجل بناء عمارات إلى جانبه، وبالأحرى على أنقاضه، من أجل العمال والموظفين العاملين في هذه الشركة العملاقة. كما تجاوزت على القصر مختلف أجهزة الحكومة الإيرانية فحولته إلى شبه خرابة لم يبق منه ومن عمارته الزاهرة سوى الحيطان والأعمدة. ولو لم يكن القصر على القرب من شط العرب ومحاذيا للعراق لسارع النظام إلى هدمه منذ زمن طويل، ولكن خشيته من النظام العراقي السابق كان هو الحماية له. 

لقد كان هذا القصر رمزا من التاريخ، وتحفة هندسية تروي معالم الآثار العربية على أرض المحمرة عاصمة الحكم العربي وخاتمته. فقد اتخذ الأمير خزعل من هذا القصر مقرا يستقبل فيه وفود السياسيين الأجانب والفرس والعرب على حد سواء، ومنه يدير شأن بلاده التي وطد فيها دعائم حكمه وأمره. 

ويطل هذا القصر على شط العرب بهندسة جعلت من مجاورته للمياه سبيلا إلى الوقاية من حرارة الصيف، على حد تعبير عبد المسيح الأنطاكي. كما يتكون القصر من طابقين بغرف عديدة وأثاث فاخر فيه مصابيح كهربائية جُلبت خصيصا للقصر جعلته مضيئا في الليالي ومعلما في الطريق على بعد عشرات الكيلومترات كما تحول إلى فانوس بحري تهتدي به السفن العائمة في الخليج العربي وعلى مقربة شط العرب وميناء المحمرة. والطريف في كل ذلك هو اشتمال القصر على مكتبة كبيرة عز نظيرها في تلك الفترة، حيث كانت تضم كتبا في مختلف المجالات، خاصة التاريخ واللغة والفقه.

 ولكن كل تلك العظمة، وكل تلك البنايات، تم هدمها وإزالة آثارها في صباح يوم واحد، خلال بضع ساعات من النهار، دون أن يوضح النظام الإيراني الجهة المسؤولة عن تنفيذ هذه الخطوة، التي أثارت استياء المستوطنين أنفسهم. فما السبب وراء هدم النظام لهذا القصر؟ 

 إن الإجابة تكمن في استدعاء مفهوم أماكن الذاكرة؛ فقد هدم نظام الاستعمار الإيراني هذا القصر ليس لأنه كان يشكل عقبة أمام شركة المرافق البحرية، ولا لأنه كان بناءً قاجارياً، ولا لأي سبب آخر، بل تم الهدم لأنه كان مكانًا ينعش الذاكرة الأحوازية. فكلما مرّ الأحوازي من أمامه أو شاهد صوره أو قرأ عن عظمته، تذكر تلك الحقبة التي كانت فيها الأحواز قاب قوسين من الاستقلال، تلك الفترة التي حكم فيها الأمير خزعل الشعب العربي بإرادة عربية مستقلة.

 وقد لا يكون كل الأحوازيين على دراية بتفاصيل الحقبة الكعبية وحكمها، أو يعلمون أن القصر قد مُنح للشيخ جاسب، أو يدركون أن هذا القصر كان يمثل قمة التطور العمراني في تلك الفترة، متفوقًا على التطورات التي شهدتها الكويت والمملكة العربية السعودية وغيرها. قد تكون هذه المعلومات معروفة أو غير معروفة، لكن الأهم في هذا القصر، بجدرانه وهيكله، هو وجوده المادي بحد ذاته وصرحه الشامخ، وما يرمز إليه، حيث يؤدي وظيفة التذكير والاحضار، مذكرًا كل أحوازي وأحوازية بأنهم كانوا في يوم من الأيام أمة مستقلة بحكم عربي قح. وكلما نسوا ذلك، وكلما تمكنت آلة التفريس من النيل منهم ونسيانهم لماضيهم العربي العريق.

استهدف النظام هذه الوظيفة بالذات، وهدفه كان إتمام عملية النسيان عبر استهداف أماكن الذاكرة كالقصر الفيلي، معتقدًا أن استهداف هذه المعالم سيؤدي إلى ذوبان الذاكرة القومية العربية الأحوازية التي كانت تعيد ذكرى العروبة عبر الأجيال. إنها خطوة ليست عبثية، ولم تُتخذ من قِبَل جهات معادية للتاريخ، بل هي تعبير عن سياسة عنصرية قومية مدروسة، اتبعها الفرس منذ إقامة دولتهم على أنقاض الحكم العربي الأحوازي.

كان هذا القصر، رغم هيكلة الرث، يعمل كمُعَلِم حاذق ومسؤول، يطل علينا كل يوم ليذكّر طلابه بدرس التاريخ. كان يسألهم: إلى من يعود هذا القصر؟ وما دلالته؟ ولماذا يتداعى إلى السقوط اليوم؟ فتأتي الإجابات لتسرد تاريخًا لا ينتمي إلى العجم أو الفرس. إن هدم هذا المعلم وجميع المعالم العربية الأخرى في الأحواز على يد النظام الإيراني الفارسي جاء خشية من ذلك الطفل (مذكرًا كان أو مؤنثًا) الذي سيسأل أمه أو أبيه عن هذا المعلم كلما رآه، ليحمل تاريخًا يتوطد في ذاكرته، تاريخًا مختلفًا عن تاريخ الاحتلال والاستعمار. وهنا أراد النظام أن يأتي على الجذور ليقتلعها. 

رحيم حميد، باحث في معهد الحوار للابحاث والدراسات

"الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لموقع معهد الحوار للأبحاث والدراسات"

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here