الأحد, يونيو 1, 2025
مقالاتالموت البطئ: استهداف الأبدان الأحوازية في القطاع الطبي

الموت البطئ: استهداف الأبدان الأحوازية في القطاع الطبي

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

  المقدمة

لطالما تناولت الدراسات والأبحاث قضايا الأحواز من زوايا تاريخية وثقافية وهوياتية وسياسية، مسلطة الضوء على جرائم الدولة الإيرانية التي استهدفت الشعب الأحوازي بسياسات استعمارية هدفت إلى إذلاله وطمس هويته، وجعله تابعًا وخاضعًا؛ غير أن هذه الورقة تتجه نحو أبعاد أخرى لا تقل خطورة. أبعاد تلامس جوهر المعاناة التي يتعرض لها المجتمع الأحوازي بكل فئاته، على الرغم من عدم التطرق لها في النقاشات المتداولة: إنها الأبعاد التي تكشف استهداف الأجساد وتقتيل الأبدان وصحة الإنسان، عبر انعدام قطاع صحي كفؤ، وفقدان نظام طبي يقدم الخدمات الصحية الكفيلة بالحفاظ على استقرار التوازن الجسدي في الفرد.

فهنا نتتبع السياسات التي أدت إلى تدهور القطاع الصحي في الأحواز، والتي عمدت إلى حرمان المواطنين الأحوازيين من حقهم في الرعاية الطبية الأساسية. فمن خلال استعراض التداعيات الخطيرة لهذا الحرمان، نسلط الضوء على الآثار المدمرة التي خلفتها تلك السياسات على حياة المواطنين، في محاولة لتوثيق معاناة شعب الأحواز الذي يعاني من نقص حاد في الخدمات الصحية، وما يترتب على ذلك من تبعات على هذا الشعب بشكل عام.

 

الوضع الصحي الأحوازي: نظرة عامة

 

إن إلقاء نظرة سريعة على الوضع الصحي العام، في الأحواز، يُظهِر تأزماً متفاقما، وكوارث صحية وطبية حصدت أرواح مئات الآلاف وعبثت بحياتهم وجعلتها قصيرة. ولا يمكن أن يعزى تردي الوضع الصحي الشامل، في عموم المناطق الأحوازية، إلا إلى عوامل متداخلة وشائكة، مجتمعية وسياسية وهوياتية: فعلى سبيل المثال: إذا لم تكن الدولة الإيرانية تعادي العرب والشعب الأحوازي، لما فرضت عليه خطابا يُصنِّف الأحوازي بأنه مهدور الدم والصحة؛ ولو لم تستجلب المستوطنين لتفريس الأحواز، لما تحوَّل غالبية الشعب إلى فقراء ومهمشين تنهبهم جماعات المستوطنين؛ ولو لم تخشَ الدولة الايرانية من نهوض العرب للمطالبة بحقوقهم، لكان من غير المنطقي الاعتماد على التصدي الأمني  القاتل كوسيلة للتعامل مع كل أحوازي ينتقد الوضع أو يحذر من سوءه.

وعلى العموم يمكن تحديد الأسباب العامة التي أدت إلى الوضع الصحي الراهن وتدهوره فيما يلي:

 

  • الفقر: يقع معظم الشعب الأحوازي، شمالًا وجنوبًا، تحت خط الفقر بنسبة قد تبلغ 80 بالمئة وفق الإحصائيات شبه الرسمية هنا وهناك. وبغض النظر عن تبعات الفقر الشاملة التي لا تترك جانبا من جوانب الحياة إلا طالته، فإن أولى تبعاته تبدأ من تردي التغذية والأكل الصحي. لا يتوفر الفقير والأسر الفقيرة على طعام صحي، ولا يمكن لهم توفير ما يضمن للجسم السعرات الحرارية اللازمة. وهم عاجزون عن تكاليف شراء اللحوم والألبان والخضروات، ناهيك عن المكسرات والمعجنات الكمالية التي تضمن للجسم القوة والسلامة. وتتحدث بعض الإحصائيات المتوفرة، التي تحاول كما أُشير، التقليل من الواقع المزرى، عن انخفاض تناول اللحوم بنسبة  60 بالمئة في الأحواز. وغني عن القول إن الأكل غير الصحي يجعل الجسم المنهك والمترهل، والذي يعاني أصلًا من مناعة ضعيفة، أكثر عرضة للأمراض، التي تتقدم لتشكل خطرا مميتا. وهكذا ومع ما يفرضه الفقر من ظروف من المهد إلى اللحد، يولد الطفل من أم فقيرة ذات بنية جسدية هزيلة، لا تتوفر على حليب لترضعه، ليس لديها ما يمكنها من شراء حليب الأطفال الباهظ الثمن. وهكذا أيضا، يستمر الطفل جائعا منذ ولادته، إلى أن يصبح شابا يعمل كعامل بناء أو حداد إلخ، ويرهق جسمه بجهد دون أن يتلقى التغذية التي يحتاجها، حتى يقصف هذا عمره، وينتهي به المطاف بموت مرير بسبب السرطان أو الفشل الكلوي إلخ، في درجات حرارة تجعل الأجسام هشة وضعيفة.

 

  • قلة الأدوية: إن هشاشة القطاع الصحي العام والنظام الطبي تنبع عن كونه قطاعا يقع تحت سيطرة المستوطنين؛ أي أولئك الذين أتوا الأحواز لا ليجعلوا منها وطنا لهم، بل لينهبوها ويستعمروها. وهؤلاء الذين تغذوا وفق هذه الروحية والعقلية، تصرفوا مع هذا القطاع بناء عليها، فاعتبروه وسيلة ثراء، تماما كما اعتبروا الثروات الزراعية والنفطية والبتروكيماوية كذلك. إنها تعني لهم ريع يجب استغلاله إلى أقصى حد. وهكذا عجزت الأحواز عن توفير حليب الأطفال، أو دواء السرطانات المختلفة التي يكثر المصابين بها باطراد، أو المعدات الطبية عموما، لأن القطاع الصحي بيد المستوطنين أساسا، ممن طُبعت شخصيته بطابع الريع، حيث بات يرى كل ما في الأحواز للاستغلال والإثراء، وأن مختلف الحقول والقطاعات هي محل استثمار جشع من أجل الإثراء، حتى لو تعلق الأمر بالصحة.

ومن مظاهر هذا المنطق الريعي هو فرض معظم الصيدليات احتكارا للأدوية حتى تأتي فرصة بيعها بأسعار باهظة. في انتهاك صارخ لحقوق المرضى والرسالة الإنسانية وغياب أية رقابة مهنية. سلوك لم يقتصر على استغلال الحاجة فحسب، بل ضاعف معاناة مئات الآلاف من المرضى، الذين يجدون أنفسهم عاجزين عن تحمل تكاليف العلاج والمتابعات الطبية الضرورية. وهكذا سُلب الإنسان من حقه البديهي في العلاج والتداوي، بل وحقه في الحياة؛ على يد تلك الطغمة من مافيات الأدوية الجشعة، التي تتجر بآلامه وحياته. ولا يغير من حقيقة الواقع شيئا، وعي المستوطن الطبيب بهذه الثقافة أم لا، بل هو أسيرها لأنها تولدت فيه جيلا بعد جيل، خاصة وأننا نشهد ميلاد الجيل الثاني من المستوطنين ممن وُلدوا على أرض الأحواز.

 

  • تدني الكفاءة الطبية: الظاهر على نقص حاد في عدد الأطباء والممرضين بنسبة تصل إلى 50 بالمئة، وفقًا لمصادر رسمية. فبينما يُفترض أن يُخصص ممرض أو ممرضان لكل سرير في وحدات العناية المركزة، يُعاني القطاع من توزيع ممرضة واحدة على كل 8 أسرّة. ويُعزى جزء كبير من هذا النقص إلى أن الأحواز أصبحت بيئة غير محبذة للأطباء والممرضين، إذ تفتقر مدنها كلها لمرافق عامة ملائمة، وتُعاني من تلوث، وغياب البنى التحتية من مواصلات ومراكز ترفيه. وكل ذلك جعل الحياة فيها غير مرغوبة. نتيجة لذلك لا يتوفر القطاع الصحي إلا على الأطباء والممرضين المبتدئين. وهؤلاء بمجرد اكتساب الخبرة والتجربة يسارعون للهجرة، تاركين المجال لطلاب الطب الجدد الذين يختبرون مهاراتهم في المختبر الأحوازي، ثم يهاجرون بعد ذلك إلى مدن مثل أصفهان، وطهران، وشيراز. ولذلك تجد الأسر الأحوازية الميسورة تتجه، عند مرض أحد أفراد الأسرة، إلى الدول الغربية، بحثا عن فرص علاج ورعاية طبية أفضل، خاصة فيما يتعلق بتوفير الأدوية والمعاملة الطبية الإنسانية. وتفيد دراسات معهد الحوار إلى أن أبرز الأسباب الرئيسية لهجرة الأحوازيين تتعلق بتدهور الأوضاع الاقتصادية والصحية، معا، التي تدفع بالأحوازي إلى ترك موطنه طلبا لحياة اقتصادية كريمة، أو صحة مفقودة في بلده.
  • إنعدام الثقافة الطبية: التي لا تعني الإبحار في العلوم الطبية والإحاطة بها، بل هي تعني التعرف إلى حقائق طبية عامة، يستحب أن يعرفها جميع الناس بهدف نشر المفاهيم الصحية السليمة في المجتمع، والتعرف على أخطار الأمراض، وتوعية الأفراد للوقاية منها قبل الوقوع بها، كالوقاية من الأمراض الوراثية، والوقاية بالتدخل المبكر، والكثير من البرامج الوقائية للحد من انتشار الإعاقات مثلا. كما تشمل الثقافة الطبية جانبا أخلاقيا تجعل الطبيب والممرض مسؤولا أمام ضميره لعلاج المريض والتعامل الحسن معه ومع ذويه. وهذه قضية تشمل الطبيب والمريض معًا. ولكن النظام الطبي المعطوب، نتيجة قلة عدد الأطباء والممرضين معا، جعل الأخلاق مفقودة في هذا القطاع نتيجة الظروف القاهرة من جهة، إذ يُصاب الطبيب والممرض بالإرهاق، مما يجعله غير مبالٍ بأحوال المريض؛ ومن جهة أخرى يسبب ذلك اضطرابا وخوفا لدى المريض وذويه مما يضعهم في حالة نفسية مرتبكة. وكل ذلك يؤدي إلى تدهور مستوى الرعاية، سواء من خلال إهمال الطبيب، أو من خلال عدم فهم المريض لما يفرضه الطبيب من إجراءات وعلاج على مستوى المهنة. ولكن الأشقى في كل ذلك هو أن الطبيب الفارسي، بعقليته الاستيطانية وروحه الفارسية المتعالية، لا يعتبر المريض العربي إنسانا كاملا، نظيرا له في الخلق. وهذا لا يؤدي إلى سوء المعاملة فحسب، بل يجعله متساهلا مع حياته، ومُظهرا اهتماما أكبر بالمريض الفارسي على حساب المراجع الأحوازي. وهذه حالة جربها آحاد الشعب جميعا، وهي معروفة بديهيا لديهم، دون استثناء. إلا إذا لم يراجع أحدهم بعد إلى الطبيب والمشافي.
  • زيادة التلوث: وهو أكبر الأسباب مساهمة في التدهور الصحي الذي يحاول الاحتلال وإعلامه جعله أمرا طبيعيا خارجا عن سيطرة البشر. ولكن المسبب الرئيس في التلوث من دون شك، هو تجفيف المياه، الذي أصاب الأحواز بالتصحر وحول أهوار الحويزة والفلاحية إلى مصادر لتطاير الغبار، إلى جانب الصناعات البتروكيماوية وملوثاتها؛ واستخراج النفط وتكريره؛ وصناعات الصلب وقصب السكر، وغيرها من الصناعات والنشاطات الصناعية التي حولت الأحواز إلى أكثر المدن تلوثا في العالم بشهادة الأمم المتحدة. وفي إحدى تقارير وزارة الصحة الإيرانية عن الصحة، ظهرت أرقام مخيفة تتعلق بحالات الوفاة المرتبطة بالجسيمات الدقيقة في الأحواز، خلال عام 2021، إذ تكشف عن  وفاة  703  فرد نتيجة تعرضه  للجسيمات الدقيقة، التي تعد من أخطر ملوثات الهواء.  وكانت 9 وفيات من بين تلك الحالات بسبب مرض الانسداد الرئوي المزمن، و11 حالة وفاة نجمت عن سرطان الرئة، و377 وفاة نتيجة مرض القلب الإقفاري، و63 حالة وفاة مرتبطة بالسكتة الدماغية. وكلها كانت نتيجة للتعرض لجزيئات قطرها 2.5 ميكرومتر. ويفيد التقرير ذاته بأن نسبة الوفيات الناتجة عن أمراض القلب الإقفاري تشكل 17% من إجمالي الوفيات، بينما تمثل حالات السكتة الدماغية 19%. وتُقدر 17% من حالات سرطانات الرئة، وسرطانات المسالك البولية والتناسلية مرتبطة بالجسيمات الأكبر من 2.5 ميكرومتر، وهو ما يوضح ارتباط تلوث الهواء المباشر بالأمراض القاتلة في الأحواز.

 

الأمراض المميتة الأكثر شيوعا 

 

ومن أكبر مسببات هذا الفشل الكلوي العام هو ارتفاع حرارة الأرض، نتيجة تجفيف الأنهر، وتجفيف الأهوار، وتجفيف المياه الجوفية، كلها معا، ما أدى إلى حرمان الأحواز من كل مياهها. وكذلك شرب المياه غير الصالحة التي أصبحت سلعة نادرة، لأن المياه النظيفة والنقية غير متاحة أصلا. ومن أجل ذلك يزداد عدد الوفيات من الفشل الكلوي في أيام الصيف خصوصا، وذلك عند ارتفاع درجة الحرارة، حين يحتاج الجسم المصاب لمياه كثيرة، بالوقت نفسه الذي تعجز الكليتين عن دفعها، ما يجعل المصاب عاجز عن تناول كميات مياه تروي عطشه في الحر.

  • مرض أم إس و EB: وهو من حيث الشيوع يعد المرض الثاني الأكثر شيوعا في شمال الوطن، الذي يحتل المرتبة الثانية في عموم جغرافيا إيران بعدد المصابين به. وتشكل النساء 60 بالمئة من المصابين، كما تحتل شمال الأحواز المرتبة الثالثة من حيث المصابين بمرض EB؛ وهو مرض وراثي يؤثر على الجلد وأعضاء أخرى، ويوصف الأطفال الذين يولدون بهذا المرض بأنهم «أطفال الفراشة» بسبب هشاشة جلودهم ونعومتها كالفراشات. هذا المرض المميت، لا يندرج ضمن التأمين الصحي الإيراني، ويترك المصاب به هكذا بين مطرقة المرض الفتاك، وسندان تكاليف مالية كبيرة. فكان خيار الأسر الأحوازية هو تجنب أخذ العلاج ومراجعة المشافي والأطباء.
  • السرطان: يصاب سنويا 6 ألف شخص بمختلف السرطانات في شمال الأحواز وحدها، 53% منهم الرجال، وفقا للتصريحات الرسمية التي تحاول عادة وبكل جهد إخفاء  الاحصائيات الحقيقية وعدد المصابين. ومن بين أكثر السرطانات شيوعا هو سرطان الجلد، وسرطان القولون، وسرطان الرئة، وسرطان الكبد. وليس يخفى على القارئ غير المختص أنها كلها سرطانات مرتبطة بتلوث الجو. ولكي يتم التعرف على هول هذا المرض ومقدار فتكه، تكفي الإشارة إلى أن 1156 فردا، في سنة 2017، توفوا بهذا المرض، من إجمالي عدد وفيات العام نفسه البالغة 4906. أي ما يعني اختصاص ثلث إجمالي الوفيات في عام واحد فقط، بالمصابين بالسرطان. كما تشير باقي الاحصائيات الرسمية إلى ارتفاع نسبة الإصابة بالسرطان في الأحواز إلى 500 بالمئة، ما بين عام 1996 لغاية 2012. وبينما كانت الأخبار تولي اهتماما كبيرا بهذه الظاهرة الخطيرة، فإن تقلص هذا الاهتمام من قبل الإعلام الإيراني، منذ خمس سنوات، تزامنا مع اشتداد الدمار البيئي بشكل كبير، يعني ذلك الإهمال للمراقب الذي يقرأ دلالات ذلك التعتيم بأن احصائيات الإصابات تحولت إلى رقم كبير، حتى بات يُشكّل التصريح به خطرا على «أمنهم القومي»، مما جعل الإحصائيات الخاصة بهذا الموضوع خارج التداول خلال العقدين الماضيين.

 

الأسباب الخاصة والمباشرة في تدهور الوضع الصحي 

 

تضم الأحواز عددًا كبيرًا من حقول النفط والغاز التي تُعد من أكبر الاحتياطيات النفطية في العالم، مما جعل عملية استغلال هذا الكم الكبير من الاحتياطيات أكبر مسبب في تلوث الهواء والمياه الجوفية، خاصة بالنظر إلى طرق الاستغلال والتنقيب والتكرير التي يتبعها الاحتلال الإيراني الذي لا يكترث فيها لأدنى معايير السلامة والحفاظ على البيئة. كما أدى التلوث الناتج عن الانبعاثات الغازية من المصانع النفطية، إلى زيادة مستويات التلوث في المنطقة وارتفاع معدلات الأمراض التنفسية والسرطانات. ومن بين أبرز مواقع التلوث والانبعاثات هو حقل مارون النفطي الذي يعد أكبر حقول النفط في الأحواز، والمسبب في تلوث الجو والأرض والمياه الفوقية والجوفية معا. وبالإضافة إلى التلوث النفطي، هناك عدد من المشاريع الصناعية الأخرى التي تساهم في تلوث البيئة، منها المصانع الكيماوية والبتروكيماوية التي تُلقي بكميات كبيرة من المواد السامة في الهواء والماء، مما لم يؤثر سلبًا على الصحة العامة فحسب، بل إنه قتل التنوع البيولوجي أيضا. ومن أكبر المجمعات البتروكيماوية هي “مجمع ماهشهر” الذي يُعد مصدرا رئيسا للتلوث الكيميائي. وعلى العموم تعد الأسباب التالية من الأسباب المباشرة في التردي الصحي في عموم الأحواز:

  • المياه: تحولت الأنهار في الأحواز إلى مجاري لنقل المواد السامة الصناعية التي تحملها المياه. كما أن الجفاف ومنع وصول المياه من مصادرها، يهدد الشمال بظاهرة الموت الجغرافي وارتباك التركيبة الديمغرافية عبر الهجرة المناخية التي باتت تتحقق يوما بعد يوم. وتتفاقم قضية المياه عندما يتزامن حجبها من مصدرها، مع تخصيص كميات مهولة إلى صناعات الصلب، وما تتطلبه هذه الصناعة من كميات كبيرة. إلى جانب ذلك أصبحت المياه ملوثة بالزئبق الذي يكاد يقضي على الحيوانات البحرية، إلى جانب تسببه بأضرار كبيرة في الجسم وفتكه بالصحة. وإذا لم يدخل هذا الزئبق عبر شرب المياه إلى الجسم، فإنه يشق طريقه عبر الأسماك في الموائد. وذلك لأن الصناعات البتروكيماوية خاصة في ميناء معشور تلقي بالنفايات مباشرة إلى الأهوار والأنهار، مما يسهل طريقة دخول هذه المواد الخطيرة جدا إلى الجسم.

هذا وتشير الأبحاث الطبية الحديثة في الولايات المتحدة إلى وجود أدلة متزايدة على ارتباط ملحوظ بين التعرض للزئبق، ومرض التوحد(الأوتيزم) بين الأطفال، وسرطان الغدة الدرقية بين الكبار. ولعل ذلك هو ما يكشف سبب وجود أرقام متزايدة من الأطفال في الأحواز، يعانون من مستويات مختلفة من التوحد. وتشير الإحصائيات الرسمية إلى ولادة حوالي  840 طفل مصاب بمرض التوحد سنويا شمالا، وذلك يعني ميلاد  17 ألف طفل مصاب بالتوحد خلال العقدين الأخيرين فقط. وهذا ما تكشفه أجهزة الاحتلال ذاتها عند تأكيدها على وجود علاقة طبية مباشرة بين انتشار الزئبق في المياه الاستهلاكية المنزلية، ومرض الأوتيزم المنتشر بين الاف الأطفال مما جعل الشمال هي المنطقة الأولى بأمراض الأوتيزم من بين جميع المناطق التي تحتلها إيران، وبنت احتلالها على قهرها وسلبها.

  • ضعف الجهاز الطبي والبنى التحتية الطبية: الذي فاقم الأوضاع في وقت تتزايد أعداد المرضى المصابين بالسرطان. وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن النقص الحاد في المعدات الطبية المتخصصة، كأجهزة العلاج الإشعاعي، وأجهزة المسح الذري، يفاقم الأزمة الصحية ويهدد حياة الآلاف ويزيد من المعاناة التي يتعرضون هم وذويهم لها. وكان رئيس جامعة الأحواز للعلوم الطبية قد أعلن عدة مرات، خلال تفشي كوفيد-19، عن أن وجود نقص حاد في أجهزة التنفس الصناعي وأجهزة الأكسجين، ينذر بكارثة صحية حقيقة عند زيادة عدد المرضى في المستشفيات. كما كان قد أشار إلى أن 70 بالمائة من المرضى المصابين بكوفيد شديد عانوا من مشاكل في التنفس حتى  توفوا في أقل من 24 ساعة، وذلك في العديد من المستشفيات الحكومية التي تفتقر إلى أجهزة التنفس الصناعي والأكسجين، بالإضافة إلى الأدوية.

 

الأوضاع الصحية في المدن الأحوازية المختلفة

 

وبينما صرح مسؤول الجامعة الطبية في الأحواز عن خبر استلامه ميزانيات لتحسين الظروف الطبية في شمال الأحواز، فإنه كشف أن جميع الميزانيات قد خصصت لمستوطنات فارسية هي باغملك، وألوار، وكرمسيري. يمكننا أن ندرك حجم المأساة الطبية في الأحواز من خلال استحضار صورة امرأة عربية أحوازية مسنّة، تتجول بين المشافي الحكومية، وهي لا تتقن اللغة الفارسية، مرتدية لباسها العربي التقليدي، مثقلة بوجعها العميق. وحينما تتلقى معاملة تفتقر إلى الإنسانية من قبل الأطباء والممرضين الفرس، إذ يعاملونها بمهانة وذل، غير مبالين بمعاناة جسدها الطاهر الذي لا يقوى على تحمل ألمه، بينما عظامها الهزيلة تذكرها بحجم المعاناة التي تعيشها. إنها رمز حقيقي لحياة الأحواز، حيث تتجلى المأساة في كل تفاصيلها، وتختصر واقعاً مريراً يعكس الإهمال والتهميش الذي يتعرض له شعبنا.

أوضاع المشافي من جنوب الأحواز إلى شمالها

 

تعاني معظم المشافي في المدن الأحوازية من قلة الأطباء والممرضين والأسرة والأجهزة الطبية والبنى التحتية، بل والنظافة اللازمة في المشافي من حيث التعقيم والتطهير. وفيما يلي تتم الإشارة إلى كل تلك النواقص في كل مشفى:

  • مشافي الأحواز العاصمة

إن مدينة الأحواز العاصمة التي يبلغ عدد سكانها مليون ونصف وفق إحصائيات الحكومة الإيرانية، والتي يفوق سكانها وفق إحصائيات المختصين من الشعب العربي الأحوازي مليوني نسمة، لا تتوفر إلا على 11 مستشفى حكوميًا فقط، و7 مستشفيات خاصة. ولا يذهب إلى المستشفيات الخاصة إلا المستوطنون الفرس الذين يتمتعون بإمكانيات اقتصادية عالية، إما لأنها تابعة لشركات يعملون فيها، مثل النفط وغيرها، وإما لأنهم هم الوحيدون القادرون على تسديد تكاليفها بمساعدة التأمين ووفق قدرتهم الشرائية.

ومن أهم هذه المستشفيات الحكومية التي يراجعها الأحوازيون، والمعروفة لديهم بسوء سمعتها، مستشفى كلستان الملقب بـ«المقصبة»، الذي يضم 718 سريرا، ومستشفى خميني بعدد أسرة تصل إلى 590، ومستشفى الرازي الذي يضم 215 سريرا، ومستشفى الكرمي بعدد 185 سريرا، ومستشفى ميلاد الذي يحتوي على 70 سريرا. وكل هذه المستشفيات متهالكة وقديمة؛ حيث يعود تاريخ بناء مستشفى خميني إلى الثلاثينيات من القرن العشرين، بينما تم افتتاح مستشفى كلستان في الخمسينيات، أما مستشفى الرازي فتم تدشينه في الأربعينيات.

 يمكن للقارئ المطلع على عدد وفيات هذه المستشفيات أن يلمح مأساة حقيقية، حين يواجه ارتفاع عدد الموتى من جهة، وعدم التطرق لأسباب الوفاة من جهة أخرى. كما أن هذه المشافي لا تذكر سبب الوفاة، وتكتفي بتكرار الأسباب المعروفة، دون أن تتحقق من صحة كل حالة على حدة، مما يفتح الباب على مصراعيه للتساهل بحياة المراجعين. فلا يوجد في هذه المشافي شأن طبي فردي بكل مريض وتقريره الخاص، بل يتم ذكر سبب الوفاة بالطريقة المعروفة كوبي-بيس لكل مريض.

  • مشفى سيناء في كوت عبد الله

يشبه هذا المشفى حديقة متروكة أهملها أهلها، لا تتوفر على أبسط الإمكانيات الطبية، عدد وفياته مرتفع جدا. كما أنه يعاني من ضعف الاستيعاب، خاصة عند زيادة المراجعات من مدن أخرى كالفلاحية والدورق (وذلك  لأن مدن الدورق والفلاحية لا تتوفران على مستشفى، مما يجعل أهاليهما كالمستجير من الرمضاء بالنار). وعند ذلك يسقط التعاطي الطبي مع المرضى إلى أدنى مستويات، يصل إلى حد طرح الرسالة الإنسانية، عند ما يساوي المريض وقتها لا شيء، بالنسبة للكادر المنهك من كثرة المراجعين من جهة، والمشحون بالثقافة الفارسية التي تنظر للعربي أقل درجة في الإنسانية من الفارسي من جهة أخرى. وفي إحدى الحالات التي أخذت حيزا إعلاميا (تمت الإشارة إليه سابقا) توفي فيها في ساعات قليلة 5 من المراجعين بسبب الفشل الكلوي، وهم في زهرة العمر، لأنهم راجعوا في يوم عطلة لم يكن في المشفى طبيب.

لا يتوفر مشفى سيناء الذي يغطي جميع مدن كوت عبدالله، البالغ سكانها 500 ألف نسمة، على الأجهزة والمعدات حيث لا يمتلك سوى سيارة إسعاف واحدة فقط. كما لا يوجد فيه أجهزة سي تي إسكن، وإم آر آي، والسنوغرافي.

  • مستشفى الخفاجية

المسمى مشفى جمران بتعداد أسرة 105، عادة ما يضم كادرا طبيا من طلاب جامعة العلوم الطبية، لا يتوفرون على أدنى مهارة. ويستقبل هذا المشفى مرضى مدن الخفاجية والإبسيتين والحويزة، والرفيع والسابلة والجليزي ومدن وقرى قد يصل تعدادها إلى مليون أو يزيد. فلو تم الأخذ بعدد القبائل القاطنة في تلك المنطقة لتم التوصل إلى التعداد السكاني بشكل دقيق، وهو تعداد سكاني كبير، تختصر خدمته الطبية على مشفى لا يتجاوز عدد أسرته المئة.

وفي إحدى الحالات قدمت بنتا شابة، اسمها سكينة، شكوى إلى المحكمة ضد طبيب متهمة إياها بإهمال طبي أدى بها إلى فقدانها إحدى عينيها. وعظيم ما كابدته سكينة البنت، البنت التي تعاني من مجتمع أبوي أحوازي ينظر لها من زاوية جمالها، من أمراض نفسية وأزمات روحية من هذا الفقدان، الذي كان نتيجة لإهمال طبيب شاب عالجها بشكل خاطئ أطفأ بها عينها للأبد.

وبينما شهدت الخفاجية إنشاء مشفى جديد، هو مشفى شركة النفط بعدد أسرة يبلغ 175، ما تزال الكثير من فروعه غير فاعلة، يفتقر هو الآخر إلى معدات طبية وأجهزة إشعاع، وأطباء أخصائيين.

  • الحميدية

وشأن الحميدية هو شأن الخفاجية والمحمرة والسوس، وهي الثقل السكاني العربي في الأحواز ومن المدن ذات الكثافة السكانية، لا يوجد فيها (الحميدية) مشفى واحدا. فهذه المدينة المتصلة بقرى ومدن خزرج وعبوده ومندلي وصياحي والعين، تفتقر إلى أية مشفى، ما يعني أنها منعدمة الحياة. فإذا تطلبت حالة علاجا مستعجلا طارئا، اضطرت السكان إلى الذهاب للأحواز العاصمة، على بعد ساعة أو ساعتين، أو يزيد عند ذروة المرور، حتى يصل بالمصاب و المريض للمشفى، وقد يكون حينها فات الأوان.

  • الخلفية

  في مدينة الخلفية، تتجمع جميع الموارد والثروات من نفط وغاز ومياه وأراضي خصبة وزراعة متنوعة، ومع ذلك، لا يوجد فيها مستشفى واحد يلبي احتياجات الطبية السكان. تحيط بها حوالي 115 قرية ذات كثافة سكانية عالية، مترابطة ومتسلسلة، تمتد لتصل إلى حدود المدن المجاورة مثل رامز ومعشور والعميدية، مرورًا بالمشراكة وأم الصخر والرميلة والحسينيات والشكريات ومليحة وغيرها. يُعاني أهل المدينة، كباقي المناطق الأحوازية، من البطالة والحرمان والتمييز العنصري، لكنهم استفادوا من خصوبة أرضهم، مما ساعدهم على الحفاظ على موطنهم والصمود فيه. مع ذلك، فإن معظم الشركات النفطية والغازية مستحوذ عليها من قبل المستوطنين الفرس والور.

أما ما يُطلق عليه اسم “مشفى الخلفية”، فهو يقترب في شكله من كل شيء إلا من مفهوم المستشفى الحقيقي، إذ لا يوجد في العالم مستشفى يضم طبيبا واحدا فقط، هو طبيب عام، يستقبل يوميا خمسمائة مريض، ليقوم بصرف الأدوية بشكل عشوائي، حيث يعطي كل من يعاني من مشكلة علاجًا مسكنًا: لمن يعاني من جلطة يُعطى مسكنًا، ولمن يعاني من مشاكل في الكلى مسكنًا، ولمن يعاني من ألم في الظهر مسكنًا، ولمن يعاني من مرض السرطان مسكنًا وهكذا. وتحتم الأخلاق أن تتم الإشارة إلى الطبيب الواحد هذا، أنه قد يضطر للتواجد بلمشفي ليومين أو ثلاث دون نوم أو أخذ قسط من الراحة.

وكما تفيد محادثة معهد الحوار مع إحدى الطبيبات في الخلفية، فإن “مراجعة مريض مصاب بالتهاب الزائدة الدودية ستعني موته المحتوم لأن المستشفى يفتقد جميع الوسائل اللازمة للتعامل مع مثل هذه الحالات، وعلى رأسها أجهزة الأشعة والسونار، بالإضافة إلى غياب غرف العمليات وأطباء التخدير.” وتضيف هذه الطبيبة “أن العديد من الأطفال والرضع في المناطق الريفية والقرى يعانون من الربو نتيجة تلوث الهواء الناتج عن شركات النفط، مما يدفع آباؤهم إلى البحث عن علاج في مدن أخرى. كما ينتشر بشكل متزايد العقم بين الرجال والنساء، وبين من خلفوا أطفالًا سابقًا أو أنجبوا من قبل، بسبب التلوث الجوي.”

  • معشور

ولا يشفع لمدينة من مدن الأحواز ثروتها في الحصول على خدمات طبية، وخير مثال لذلك هو مدينة معشور الثرية، بأكبر الصناعات البتروكيماوية والنفطية، وهي من أثرى مدن العالم وليس المدن التي تحتلها إيران فقط. فهنا استغنى الاحتلال عن المشفى، كاستغنائه عن الهواء النقي، والمياه الصالحة؛ لأن سكان معشور (كباقي الشعب الأحوازي) ليسوا بحاجة إلى طبيب وممرض ورعاية صحية. وهذه هي الحال حتى أتى ثري من أثرياء الناس، فأنفق من أجل بناء مشفى لا يصلح أن يكون مشفى حقيقا، بل هو أشبه بالمستوصف.  هذا المستوصف (المشفى) الذي بناه متبرع لا يقتصر على تقديم الخدمات الطبية لسكان المعشور فحسب، بل يُعالج أيضًا سكان مناطق واسعة من الأحوازيين، الذين يُعتبرون أرواحًا رخيصة في نظر مسؤولي الدولة الفارسية، من العميدية، والتميمية، وخورموسي والفلاحية والقرى والمدن الصغيرة المجاورة.

  •  عسلو

أما مدينة عسلو الساحلية الجميلة الخلابة، البالغ سكانها 150 ألف نسمة فهي أيضا لا تحتاج مشفى وفق اجتهاد الاحتلال الإيراني وحكمه على الشعب الأحوازي. تقدم  عسلو مصانع لإنتاج الغاز وتكرير النفط، وباقي الصناعات الكبيرة، والثروات التي لا تعد ولا تحصى، ليأتي إليها الاحتلال ويستكثر عليها الصحة والمشفى حتى. إن هذه المدينة الإستراتيجية لا تملك جهازا واحدا للغسيل الكلوي، ليكون مصير المصابين بالكلى الموت المحتوم، أو الإضطرار إلى الذهاب نحو مشافي المدن المجاورة، بوشهر عادة، من أجل إتمام عملية الغسيل ثلاث مرات في الأسبوع، وما يعني ذلك من تحمل أعباء السفر وتكاليف لذوي المرضى. ويعني ذلك أن هذه المدينة الحيوية للاقتصاد الإيراني، لا تتوفر على أي نوع من النظام الصحي، بينما هي تتعرض لأشد أنواع الملوثات والتدمير البيئي نتيجة إفرازات الصناعات النفطية العظيمة فيها، وما تخلفه من دمار شامل على البيئة وصحة الإنسان وجسمه.

  • السوس

ذات العدد السكاني البالغ 230  ألف نسمة، هي وما جاورها من قرى ومدن، وفق الإحصاء الرسمي، وما يفوق 400 ألف وفق إحصاء الخبراء العرب من الشعب الأحوازي، هي الأخرى لا تحتاج إلى مشفى وفق حِكمة الاحتلال ورحمته (وإنْ كان يصعب تصديق ذلك من قبل القارئ غير المعني بالشأن الأحوازي). ونتيجة لهذا الغياب فإن الناس في السوس تموت من أجل أبسط الأسباب، منها الموت بلسع الثعابين، أو مجرد تخثر قابل للعلاج في الدم، ونحو ذلك من الأمراض التي تجاوزها النظام الطبي العالمي، ولكنها ما تزال تفتك بـ الأحوازيين في ظل غياب تام للنظام الصحي.

  • المحمرة

درة الخليج العربي، عاصمة الدولة الكعبية، حالها أسوأ من باقي المدن، طبيا بالدرجة الأولى. فالمشفى الوحيد المتهالك فيها، مشفى وليعصر، يعاني من فقدان جميع المتطلبات والأجهزة الطبية، إذ لا يمكن اعتباره مشفى تاما بمعنى الكلمة. فالمحمرة تلك المدينة العريقة بتاريخها وثقلها السكاني، البالغ 400 ألفا ربما، لا يمتلك مشفاها الوحيد سوى 168 سريرا، لا يبلغ عدد أطبائه المختصين مع الممرضين بضعة عشر. وذلك يعني أن الرعاية التي يقدمها هؤلاء البضعة عشر تترجم إنهاكا وعلاجا طبيا لا يكترث بالنتائج على الخدمات الطبية. ومن هنا تردي الأوضاع الصحية وتسبب ذلك بعدم مراجعة المصابين، واضطرارهم الذهاب إلى الأحواز بدلا عن ذلك. لا تمتلك العيادات التخصصية في هذا المشفى أطباء مختصين، وتنبعث من قسم الطوارئ روائح كريهة، ويفترش الناس، في كثير من الحالات، الأرض بإملاءات لنوم المرضى واستراحتهم هم أيضا. أما أجهزة الغسيل الكلوي فهي دوما خارجة عن الخدمة، كما لا يتوفر جهاز تصوير بالرنين (MRI)، ولا مركز متخصص للعلاج الكيميائي.    

  • الفلاحية

خالية عن بكرة أبيها عن أي طبيب مختص حقيقي، لا تتوفر على أية خدمات طبية، وهناك نقص طبي في تمام الساحات، وغياب للأطباء في مختلف المجالات، من أطباء العيون والأعصاب والقلب والرئة إلخ. ويضطر هذا الواقع المرير بالأهالي الذهاب إلى باقي المدن التي تتوفر على مشافي، ما يفرض عليهم أعباء مالية كبيرة، ويعرضهم لمخاطر صحية، خاصة في الحالات التي تحتاج إلى تعامل طارئ. فإذا كان علاج ذبحة في القلب يتطلب تدخلا سريعا من التمريض الطارئ، ينقذ الفرد ويجعله يعيش لسنوات طويلة، إلى جانب أهله وأولاده وبناته، فإن هذه الذبحة القلبية تؤدي بنسبة 90 بالمئة من الحالات، في الفلاحية، إلى الموت، لأن الإمكانيات الطبية البسيطة منعدمة هناك.

  • الدهلية

يعاني مشفى مدينة الدهلية العربية، المسمى مشفى “شهداء دهلران”، وهو المشفى الوحيد الذي يراجعه سكانها من دكة عباس وموسيان والخرسان وإلخ، من نقص حاد في الأجهزة الطبية والخدمات التمريضية، حاله حال باقي المناطق الأحوازية، إلى جانب غياب الأطباء المختصين، وإهمال إداري متعمد. ولكن هناك حالة تفرق تماما مع باقي الحالات الأحوازية، حيث يفضل سكان الدهلية المراجعة إلى مشافي المدن العربية الأخرى بدلا من مراجعة مشافي ما يسمى محافظة عيلام وذلك بسبب العنصرية والمعاملة السيئة التي يتعرضون لها هم ومرضاهم في مشافي الفرس، خاصة اللر في مدينة عيلام.

  وفي ختام هذا التقرير، يجب التذكير بأن المأساة الصحية في الأحواز ليست نتيجة عوامل طبيعية كما يوهم الاحتلال بذلك، وإنما هي حصيلة سياسات تستهين بحياة البشر وتجلعه كائنا مستباح الأرض والحياة.

فهنا جميع الأسباب العامة والخاصة التي ذُكرت تتحد في غاية واحدة، هي رخص الحياة الأحوازية، ورخص نفوس الأطفال والنساء والشباب والشيوخ فيها، لأنها لا تعني للمحتل سوى أرقام، وأناس من الدرجة الثانية الذين يعكرون صفو استغلال الثروات، والتنقيب عن النفط، والنشاط البتروكيماوي، وعملية مصادرة المياه. أجل حياة الأحوازي بعيون المستوطن الفارسي المستحوذ على كل الخيرات لا تعني سوى معرقل، أمام استمرار النهب.

ولكن على الرغم من هذه الحقيقة الأساس لكل ما يحل بالأحواز، وطنا وشعبا، فإنه لا بد من قراءة الظرف قراءة موضوعية إلى حد ما، حاول هذا التقرير الالتزام بها، عبر تقسيم الأسباب المؤدية إلى التردي الصحي الكارثي إلى أسباب عامة، لأن تبعاتها لا تقتصر على النظام الطبي فحسب، بل تشمل جوانب شاملة ومتداخلة. على رأسها الفقر وقلة الدواء وتدني الكفاءة الطبية وإنعدام الثقافة الطبية، وزيادة التلوث. إنها أسباب كانت موجودة وسارية، وكانت تؤثر سلبا على الصحة في الأحواز.

ولكن دخول الأسباب الخاصة والمباشرة هو الذي فاقم الكارثة الصحية، وجعلها تتصاعد بشكل أضعاف في فتك الأبدان والحياة، حتى أصبحت الأحواز الأولى في جغرافيا إيران من حيث الإصابة بالسرطانات المختلفة، من سرطان الجلد والرئة والدم، والفشل الكلوي، والإم إس وهي الأمراض القاتلة المميتة التي ليس لها علاج.

وفي مقدمة هذه الأسباب الخاصة هي مصادرة المياه وتصحر الأحواز، مما تسبب بارتفاع درجة الحرارة، وهو ما فاقم الفشل الكلوي بشكل مخيف. وزيادة ظاهرة الغبار والعواصف الترابية التي كانت تحمل بكل جسيماتها المتطايرة في الهواء، تحمل مختلف السرطانات. وضعف الجهاز الطبي في كل المدن الأحوازية، الذي جعل أضعف الأمراض والإصابات كفيلة بقتل الناس، لغياب أدوات وأجهزة طبية كفيلة بالتعامل معها، وتحسين حالة المريض.

إنه حقاً نِظام الموت البطيء الممنهج الذي تنتهجه إيران ضد الاحوازيين، سيظل يهدد حياة الأحواز وسكانها، إن لم يحدث أمرا غير هذا الواقع كله! لا شك أنه سياق استعماري قل نظيره في التاريخ يكتب فصوله بأحرف من سموم التلوث والعنصرية وأمراض فتاكة وغير مسبوقة متزامنة مع غياب أبسط الخدمات الطبية والحياتية التي يحتاجها كل إنسان!

حسام المطوري، كاتب وباحث متدرب في معهد الحوار للأبحاث والدراسات

 

"الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لموقع معهد الحوار للأبحاث والدراسات"

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here