الخميس, يوليو 17, 2025
مقالاتجلجثة القضية الأحوازية بين التسنن والتشيع

جلجثة القضية الأحوازية بين التسنن والتشيع

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

المقدمة

يمكن عدَّ ذكرى واقعة كربلاء مدعاة إلى التأمل الهادئ حول القضية الأحوازية، ومعالجة مختلف الرؤى التي تتداول عنها في الشارع الأحوازي، بين مختلف الفئات العالمة والعوام على حد سواء. فبينما تسري لإحياء هذه الذكرى فئة من الفئات العربية الأحوازية (ولست أريد التصريح بأنها الفئة التي تشكل الأكثرية حتى لا أثير حفيظة البعض التزاما بالتأمل الهادئ غير المستفز) هناك فئة أخرى تصنفها «خرافة» و«مروق عن الدين الحنيف» إلخ(1)؛ حيث ترى هذه الفئة أن «السبب الرئيس في انتكاسة القضية الأحوازية» وعجزها عن كسر قيد الاحتلال الفارسي هو التشيع بحد ذاته، لأنه ليس مذهبا محفوفا «بالخرافة والغلو» فحسب، بل هو مشترك الفرس والعرب في الأحواز، و«دين قومي فارسي» اختلق لضرب الدين الإسلامي الحنيف. ولذلك فإن تحرير القضية الأحوازية يتطلب تحرير الشعب الأحوازي من هذا المذهب، واعتناق التسنن بدلا عنه. 

وبين هذا وذاك هناك موقف قومي يتأرجح بين هذه التجاذبات، بين ما في التشيع من ميول ماورائية واشتراك مع الفرس، وبين ما في دعوة التسنن من ضياع بوصلة النضال القومي العربي الأحوازي وعدم جواز الخروج على الحاكم. وهذه دراسة اغتنمت ذكرى كربلاء لتلقي الأضواء على هذه المواقف الثلاث، وكشْف أدلة كل طرف يدعو لها؛ بتأمل هادئ قد يساعد القضية الأحوازية في استعادة بوصلتها.       

شيعة الأحواز

يمكن القبول من دون مناقشة تقريبا بأن أكثرية الشعب الأحوازي هم من الشيعة، يتمركزون في شمال الأحواز حيث الثقل السكاني(2). ومن البديهي بأن يكون معظم سكان الشمال من الشيعة؛ لهم تاريخ شيعي منذ ما يزيد عن خمسة قرون، كأقرب تاريخ، ومنذ نشوء الإسلام كأقصى تاريخ(3).

  • الاستدلال التاريخي: ولذلك لا يمكن عد التشيع طارئا على الشعب الأحوازي، بل هو أحد مقومات وجوده وهويته. وهذا ما تقيم الفئات الشيعية حجتها عليه، إذ تستدل بقدم هذا المذهب وكونه أقدم البنى الطاعنة في التاريخ، حتى جعل ذلك التاريخ الأحوازي دون المذهب الشيعي، مشوها، أو ناقصا. أما على مستوى التأريخ وكتابته، فلا يمكن التعامل معه بهذه الصورة الفجة التي تنتقي ما تشاء من البنى، وتطرح ما تشاء، نتيجة ظروف طارئة: طارئة لأن الدولة الإيرانية احتلت الأحواز قبل أن تكون شيعية أو جمهورية إسلامية، بل جاء ذلك الاحتلال من منطلق قومي وليس ديني على يد سلطة قومية فارسية، فأين التشيع من ذلك وما صلته به. إن اختلاق صلة تاريخية فيما بين التشيع والاحتلال الفارسي لا ترتبط بوقائع تاريخية، ولا بمنهجية تاريخية أصلا، بل هي من صنف الموهومات التي أتت نتيجة ظروف ضاغطة على العقل الأحوازي الراهن، التي بات يبغض كل شيء في الفرس، حتى وإنْ كان ذلك من أصل مقوماته التاريخية والثقافية.     
  • الاستدلال السياسي: ولو كان التشيع فعلا عائقا أمام العروبة ومناهضا لها، لما تكونت الدولة المشعشعية التي حكمت الأحواز حكما عربيا مستقلا وأنشأت دولة ذات سيادة تامة الأركان. فهذه دولة عربية أقيمت على يد شيعة واصطدمت مع دولة شيعية أخرى، هي الدولة الشيعية الصفوية، إلى أن احتلتها الأخيرة، دون أن يشفع اشتراك المذهب في شيء بحال التصادم بينهما(4). وتبلغ هذه النظرة الذروة، في الاستدلال على مكانة التشيع في الأحواز، حين تصنف الدولة المشعشعية كأول دولة أحوازية خالصة، أقامها أبناء الأحواز أنفسهم. فإذا كان المذهب الشيعي طارئا على الوطن، فذلك سيعني وجوب شطب هذه الدولة من التاريخ العربي الأحوازي، ليكون هذا التاريخ حينها قد تخلى عن أكبر انجازاته الحضارية، وعن لحظة من لحظات تاريخه المصيرية والجوهرية بالآن ذاته. لقد كانت هذه الدولة بحق نتاج المجتمع الأحوازي العربي، وحيث أقيمت بكامل دلالاتها الدينية والقومية والمجتمعية، بإجماع أحوازي، وتفانت في سبيل إقامتها الأرواح، واجتمعت الكلمة على مؤسسها الإمام محمد الذي ينتمي لآل البيت(5).   
  • الاستدلال المجتمعي: ولذلك فإن التنكر للطابع الشيعي في التاريخ الأحوازي، بمبرر قطع الصلة بين التشيع الإيراني الفارسي والعروبة الأحوازية، هو نتاج صراعات مجتمعية، ونزاعات على أساس السلطة، وليس إرادة اكتشاف الحقيقة، وتبيين الزائف من المعتقدات. لقد جرفت الضغوط المجتمعية، والسيكولوجية بالآن ذاته، فئات مجتمعية أحوازية عديدة نحو تغيير المذهب، ظنا بأن ذلك كفيل بالتخلص منها، بينما هو تخلص من الواقع وتزكية للنفس عبر الفرار منه وعدم ملاقاته (الواقع). كما أن الخروج من التشيع إلى التسنن هو نوعا من القطيعة الاجتماعية مع الأسرة والجماعة، تتم تارة تحت طائل الحب للتمايز على يد المنبوذين ممن ليس لهم شأن مجتمعي، وتتم تارة أخرى تحت طائل الروح المتمردة التي لا تستقر على رأي. ومن أجل ذلك سرعان ما تجد المتحولين مذهبيا يميلون إلى توجهات أخرى، تنافي الالتزام الديني، وتبتعد عن إرادة الحقيقة الدينية. وهناك فئة أخرى منفعلة نفرت عن المذهب الشيعي لأنها ساوت بين حكم الجمهورية الإسلامية المحتل، وبين المذهب الشيعي، فأرجعت كل ما يصدر من هذا المحتل إلى التشيع، وأبقضته، وتوجهت نحو التخلص منه. وفي كل تلك الأحوال المجتمعية والسيكولوجية، لا يتصل الأمر كبير صلة بالمذهب الشيعي بحد ذاته، في أصوله وفروعه، بقدر ما هو تأثير من تلك التجاذبات والصراعات.    
  • الاستدلال الديني القومي: إذا ما أراد أحدهم الخير للشعب الأحوازي، فإن ذلك منوط بنقد الأفكار الخرافية التي تجري فيه على يد غلاة الشيعة، وعلى يد أولئك الذين يخرجون عن حقيقة المذهب وما به أقيم. فإذا كانت الخرافة تنخر المجتمع المعتنق لهذا المذهب، فإن ذلك نتيجة لتراكمات سياسية وتاريخية، أكثر منه نتيجة تعاليم المذهب ذاته. ومن هنا يمكن منح الأطروحة التي أتى بها علي شريعتي اهتماما واسعا، إذ فرق بين التشيع الصفوي والتشيع العلوي: فكان التشيع الصفوي مرجع الخرافات والغلو والابتعاد عن الدين الحنيف واستغلاله لأغراض سياسية، بينما التشيع العلوي هو ثورة حق وطلب العدالة، وتضحية ضد كل طاغ(6). وعلى هذا الأساس يمكن القول إن التشيع العربي، هو التشيع العلوي ذاته، المختلف عن التشيع الصفوي الغالي الذي يوائم الروح الفارسية ولا يعبر عن الروح العربية. ولذلك تجد الحوزة العلمية في النجف على تغاير مع حوزة قم في قضايا كلامية مصيرية: كعصمة الإمام، والقول في الخلفاء، وقضية رجعة آل البيت، والمهدي المنتظر، وإقامة شعائر محرم(7).  

سنة الأحواز

تتكون الأحواز من فئات سنية كبيرة، تقطن في الجنوب الأحوازي، في مدن أبو شهر في الدير وعسلو وغناوة وغيرها من المدن الساحلية العربية الأحوازية التي شرذمتها التقسيمات الجغرافية للاحتلال، فصار قسم من العرب في «خوزستان» وقسم في «بوشهر» وقسم في «إيلام». وتدين معظم هذه الفئات من عرب الساحل بمذهب أهل السنة والجماعة، وهي على لهجة أهل الخليج في الضفة الأخرى.

ولكن المفارقة التاريخية في المجتمع الأحوازي هي أن دعوات طرح التشيع وتبني التسنن، لم تأتي من الشعب الأحوازي السني، أي من هؤلاء عرب الساحل الأحوازيين بالتحديد، بل هي تتعالى معظمها، أن لم تكن كلها، من شيعة الشمال. وعلى العموم تتركز أدلة أصحاب هذه الدعوة على الأدلة الآتية:

  • الاستدلال التاريخي: لقد كان الشعب الأحوازي، حاله حال معظم الشعوب العربية، سني المذهب بالأكثرية، ليس فيه سوى فئات قليلة تعتنق التشيع تعيش على الهامش، حتى أتت الدولة المشعشعية ثم الدولة الصفوية، فحولت مذهب غالبية السكان إلى مذهب الدولة، نكاية بدولة الخلافة العثمانية، وقطيعة مع العرب السنة المجاورين للدولة الصفوية. وبعد هذا التحول بات الاشتراك بين الشيعة الفرس والعرب في الأحواز من أهم الوشائج بينهما، وباتت الصلة روحانية بينهما. وهكذا جرى الحال عليه وضع هاتين الأمتين اللتين تحولتا إلى أمة واحدة تقريبا يجمعهما التشيع. وإذا كان ذلك يتعلق بالتاريخ القديم، فإن التاريخ الحديث يشير بوضوح إلى تلك العلاقة الوشائجية النابعة من المذهب المشترك: عند ما تبين إبان الحرب العراقية الإيرانية التي كانت نكسة بأتم معنى الكلمة للشعب الأحوازي من جراء هذا المذهب، اصطفاف فئات أحوازية إلى جانب الفرس في حربهم ضد العرب، بدوافع مذهبية محض. وإذا ما كان المذهب الشيعي خال عن قدح، فإنه يدان إدانة تاريخية عظيمة لتسببه بهذه المشاركة بالتحديد: مشاركة فئات من عرب الأحواز في حرب الفرس الشيعة ضد العرب في العراق. كما يظهر التاريخ الأحوازي أن إتيان رضا خان الفارسي للأحواز محتلا، قد سبقه زيارة للأخير إلى مراجع النجف الفرس وكسْب رضاهم للقضاء على الإمارة الأحوازية الكعبية، نصرة لشاه إيران(8).  
  • الاستدلال السياسي: لن يكون للقضية الأحوازية شأن إلا إذا تحررت من هذا الاشتراك القاتل في المذهب فيما بين الفرس والعرب. ليس لما في التشيع من مروق عن الدين فحسب، بل لأن الولاء السياسي في هذا المذهب متقوم لإيران، وهو دين قومي لهم. لا يمكن للشيعي، نتيجة إشباعه بثقافة الفناء في الإمام، سواء الإمام المعصوم أو الإمام الولي الفقيه أو الإمام المرجع، إلا أن يكون مستحيلا فيه، وطائعا له إلى حد التعبد. ولذلك سيكون حال الشعب الأحوازي، في حال استمرار تشيعه، هو الولاء التام للإمام المرجع أو الولي الفقيه الحاكم في الوقت الراهن، إذ هو يعد مخالفة أوامر الإمام كفر، وهو بذلك يقدم الطاعة الدينية والولاء لها على أية ولاءات أخرى، ومنها الولاء القومي(9). وهكذا استعرض نخبة من الأحوازيين عوامل التخلف في الأحواز على شكل ثلاثية، هي القبيلة والتشيع والتفريس، مما جعل التقدم نحو التحرير منوطا بالتخلص منها. ليس هذا فحسب بل إن النظرة الاستراتيجية في استشراف الوضع الإقليمي تؤكد بقوة بأن الدول المجاورة للأحواز، وإيران عموما، وعلى رأسها الدول الخليجية، لن تساند القضية الأحوازية إلا إذا تحول المذهب من التشيع إلى التسنن، لأن أكثر ما تبغضه هذه الدول هو دولة شيعية تنشأ على الضفة الأخرى من الخليج. وخير دليل على ذلك هو ما حصل للعراق بعد سقوط بغداد وتكوين حكم شيعي فيه، وكيف تركته هذه الدول يواجه مصيره لحاله، وكيف تسبب ذلك في تعثر تنمية العراق وإعادة بناء الدولة من جديد.  
  • الاستدلال المجتمعي: ثم كيف يمكن تصور مستقبل مجتمع شيعي ودولة شيعية، ثقافتها العامة تقوم على أساس مظاهر النذور من أجل تحقيق الحاجات، وتأليه البشر المعصومين، وزيارة الحسين، واللطم، وكل تلك المظاهر التي تشير إلى ثقافة ظلامية، لا تعلي من شأن العلم شيئا. إن لكل مذهب وظيفة اجتماعية لا شك، حيث يؤدي دوره في إطار هذه الوظيفة. فإذا وقف المذهب في تعال عن أي دور مجتمعي، وتحول إلى نظام رمزي مغلق فوق البشر، حينها يتحول إلى سجن يسير ضمن قضبانه المجتمع وتاريخ ذلك المجتمع: وهكذا سار المجتمع الأحوازي خلف عقيدة الحسين وعاشوراء بوصفها مركز التشيع وخلاصته وجوهره، ليس أكثر. لقد تحول المجتمع الأحوازي مجتمعا طقوسيا أكثر منه مجتمعا عقلانيا يعلي من شأن العقلانية، ويكافأ الانتماء العاطفي على حساب كافة الاعتبارات المجتمعية الأخرى. وهذا بالتحديد هو ما سمح بميلاد طبقة من رجال الدين الشيعة، تعتاش على خرافة المجتمع، وتوغله بالماورائيات الأجنبية عن الدين المبني على التعقل. وإذا كان ذلك هو حال التشيع اليوم، فإن حال المذهب السني على عكس ذلك خلوا من أي كهنوت تراتبي، يتمركز على أساس العودة إلى النص القرآني، يفسر بلا مركزية تأويلية، يقترب من الدين الأخلاقي العملي، وليس غوص في ماورائيات غير علمية وخرافية.  
  • الاستدلال الديني القومي: والواقع هو إن التاريخ الفارسي وتحولات الدولة الفارسية عقب الفتح العربي الإسلامي لها يكشف استيقاظ وعي قومي لدى الفرس منذ الثورة الشعوبية(10)، رأى في التشيع نسخة بديلة للدين الإسلامي، يستطيع أن يأتي بمكسبين للفرس: أولهما ضرب الدولة العربية بصميم قوتها وهو الدين، عبر خلق التشيع كمنافس له، وثانيهما اصطباغ الإسلام بتشيع يلائم الروح الفارسية وثقافتها، بكل ما فيها من غنوصية، يكون بمثابة دين قومي للفرس(11). ولذلك ينبغي غربلة العقائد الشيعية من هذه الزاوية: لماذا يسب عمر دون باقي الخلفاء؟ لماذا تختصر الإمامة في علي وحسين ورضا والمهدي، دون باقي الأئمة؟ لماذا هذا التهويل في مكانة الأئمة دون ذكر النبي محمد؟ لماذا هناك تشابه صارم بين الثقافة الفارسية الهندية في التعزية، وبين الطقوس الشيعية الغنوصية؟ إن البحث عن إجابة لهذه الأسئلة التي هي موضوع الساعة، خاصة في أيام محرم الراهنة، ضمن إطار التشيع كدين قومي للفرس، كفيل بمنح إجابات تكشف حقيقة هذا المذهب القومي الفارسي، ووظيفته التاريخية لخدمة المشروع الفارسي في ضرب الدولة العربية القائمة على أساس الدين الإسلامي، أي مذهب أهل السنة والجماعة. 

القوميون الأحوازيون: المسيح المصلوب

إذا كان يعادي الشيعي بشكل خفيف القوميين الأحوازيون، ويركز على معاداة المتحولين مذهبيا، فإن معاداة المتسننين الجدد للقومين العرب لا يقل بغضا عن الشيعة لهم. وبين هذه التجاذبات الرجعية بات الصوت القومي الحداثي ضعيفا، في سخب هؤلاء وصراعاتهم ونقاشاتهم العبثية؛ وبات القوميون أبغض الناس لهؤلاء وأولئك، حتى صدق عليهم القول بأنهم المسيح المصلوب على يد هؤلاء المتدينين الرجعيين. إن تلك التوجهات الدينية فعلا تسويفا للقضية الأحوازية، وإهدارا للجهود في غير موضعها.   

  • الاستدلال التاريخي: لقد أثبت التاريخ الأحوازي الحديث منذ ليل الاحتلال المظلم، أن جميع الانتفاضات والصراعات التي اندلعت ضد المحتل كانت من نصيب أولئك القوميين الذين ناهضوا الاحتلال منذ ساعاته الأولى وتصدوا له ووقفوا بوجهه(12). فبينما كان الشيعة العرب الأحوازيون يبحثون عن اشتراكات بينهم وبين الفرس الشيعة، مع قائدهم خميني، يصطفون أفواجا ضد العرب من بني جلدتهم، كان القوميون العرب جنبا إلى جنب الجيش العربي العراقي يتصدون للعدو الفارسي الإيراني، دفاعا عن الأحواز والعراق والعروبة معا. وبينما يتجه من تسنن توا في الأحواز نحو مناصرة القضايا الدينية البحتة، حتى خرج بفتاوى معلبة تصرح بحرمة الخروج على الحاكم ظالما كان أو عادلا، يسارعون لنصرة القضية السورية في جبهة فتح الشام وغيرها من منطلق ديني ملقين نصرة القضية الأحوازية خلف ظهورهم، يصارع القوميون وحدهم دولة الاحتلال بكل ما لديهم من قوة من أجل قضايا الأمة الأحوازية وحقوق الشعب الأحوازي. لقد كشف أسلافنا المشعشعيون لأول مرة، أن الدين لا يمكن إلا أن يكون منصورا من قبل قومية تكون هي الحاملة له، بعد أن ثبت لهم هذا من خلال تصادمهم مع الدولة الصفوية التي احتلت الأحواز أول احتلال، وبات الأمراء المشعشعيون يميلون بوضوح إلى العربية والقومية ضد الفرس حملة التشيع الغالي، حيث صنعوا من هذا المذهب مطية لمقاصدهم السياسية(13).   
  • الاستدلال السياسي: على هذا الأساس يجب وضع الدين والدعوة الدينية عموما، بالموضع الذي وضعه فيه ابن خلدون، وهو دعوة روحانية مادية، غايتها إصابة الملك وتأسيس الدول. لا يسير الدين ومذاهبه هكذا نحو مجرد تسخير النفوس، بل هو مطالبة للملك(14). وهذا ما فهمه الفرس تمام الفهم حين اختلقوا مذهبا صفويا من أجل إعادة أمجادهم، فنجحوا في ذلك، وأسسوا إمبراطورية مترامية الأطراف، احتلوا بها الأحواز وحكموها منذ احتلال الدولة المشعشعية. وهذا ما كان محمد المشعشعي اكتشفه بدوره، حين اتخذ من مذهب الشيعي سبيلا إلى بناء مملكته وتأسيس دولته، فاستمال الشعب الأحوازي لنصرة دولته وبناء دولة عربية تغلفت بالمذهب الشيعي. وهكذا يتبين بوضوح وبما لا مجال للشك فيه بأن الدين والمذهب بحد ذاته ليس جيدا أو سيئا، بل هو بالدرجة الأولى جانبا روحيا وإيديولوجيا تتخذه الرجال والأمم من أجل بناء المجد والحضارة. وبناء على هذا بالتحديد فكل من يقرأ الدين والمذهب بمعزل عن هذه الحقيقة التاريخية الثابتة، فهو مصاب بقصر النظر لا يتخذ من تاريخ الأمم والملوك مقاربة إلى فهم تاريخ الأمة الأحوازية. فإذا أتى أحدهم وقال اتخذوا التشيع سبيلا لتحرير الأحواز من قيد الاحتلال الفارسي، قلنا له كذبت فما هكذا تورد يا هذا الإبل؛ وبالمثل إذا ما أتى أحدهم ودعى إلى التسنن سبيلا لكسر قيد الاحتلال الفارسي، كررنا القول نفسه، لأن القضية تتعلق بجوهر إقامة الملك وتأسيس الدول، لا مجرد ركوع أو سجود أو تكتيف اليدين في الصلوات الخمس. كلا إن القضية الأحوازية هي قضية سياسية بجوهرها، ولا يمكن التعامل معها إلا على هذا الأساس، ومن أجل ذلك يأتي الاهتمام بالدين وغير الدين من أجل خدمة الغاية السياسية، وهي تحرير الأمة الأحوازية، والوطن الأحوازي من قيد الاحتلال الفارسي الذي ران أكثر من قرن على صدور الأمة العربية الأحوازية.   
  • الاستدلال المجتمعي: لقد تقوم هذا التاريخ البالغ قرنا من الاحتلال، واستمر في حقب تاريخية كبيرة، على أساس منطق واحد، خاصة في أحلك أوقاته وأكثرها ضعفا، هو أساس سياسة التفرقة، وضرب المتخالفين مذهبيا وقوميا ببعض(15). ولذلك فلا يحتاج ذلك إلى تنبؤ إن صُرح بأن الدعوة إلى التسنن في الشمال، والتشيع في الجنوب، هي مساعدة للاحتلال الإيراني بأن يضرب الشيعة الأحوازيين بالسنة الأحوازيين، وتركهم يتصارعون فيما بين أنفسهم من أجل صراع دار قبل أربع عشرة قرنا، تزامنا مع ترك القضية الأساسية وتناسيها؛ وهي قضية الاحتلال الإيراني للأحواز. فهنا بدل أن تتوحد الهوية الجامعة القومية في مناهضة العدو المحتل، تنشغل بالصراعات الداخلية، حتى تمكن العدو الفارسي من هندسة النسيج الوطني الأحوازي بناء على ما يتوافق مع استمرار سلطته واحتلاله. ويثبت التاريخ الاستعماري للاحتلال كيف استغل المحتل الدين والمذهب في تمفصل خطاب طائفي مقابل الخطاب التحرري. وهكذا تتغير المعركة من معركة تحرير إلى معركة عقدية، حيث يعاد تعريف العدو للأحواز، ليس بحسب موقعه من الاحتلال، بل بحسب مذهبه. وهذا بالتحديد هو ما حصل في الأحواز حين بات أهل السنة فيه يصنفون القوميون على أساس علمانيتهم ويصفونهم بالزنادقة، وحين أخذ الشيعة يصفونهم بالكفرة المعادين لعلي وحسين والأئمة. وهذا يشير بوضوح إلى رضا المحتل عنه، وعن انشغال العرب في الأحواز بين سني وشيعي يختلفون على كل شيء، ويتفقون على معاداتهم للقوميين الرافضين للاحتلال الفارسي.   
  • الاستدلال الديني القومي: إن أول ما يجب الوعي به والالتفات له هو موضع العروبة من الدين، وموضع القضية الأحوازية من المذاهب الإسلامية الشيعية والسنية معا. التشيع هو مذهب أهل الشمال الأحوازي، وهو يشتمل على فترات ناصعة من التاريخ الأحوازي، وهو مذهب لا يمكن ألبتة طرحه من التاريخ الأحوازي والقضية الأحوازية؛ كما أن المذهب السني هو مذهب أهل الجنوب الأحوازي، وهو مذهب غالبية الأمة العربية؛ ولذلك فإن القضية الأحوازية هي الجامعة التي يجب أن توحد بين هذه التمظهرات الناشئة عن جوهر واحد، هو جوهر العروبة. فالعروبة هي فوق هذا وذاك(16)، ويتبين ذلك حين نقرأ الدين الإسلامي بكامله كمنجز عربي(17)، وكثقافة عربية تميزت بمتافيزيقا دينية اسمها الاسلام. الإيمان بالعروبة والإسلام بوصفه دين العرب، بكل أطيافه ومذاهبه، هو الذي يجعل العيش المشترك ممكنا، ويجعل الاختلافات الدينية والمناطقية والفكرية إلخ، محل إثراء وليس تصادم وتحريف البوصلة عن مسارها التحرري الصحيح. 

الختام

لا يمكن للقضية الأحوازية أن تضر نفسها، وأن تضيع جهودها، وأن تكبل قواها العمرانية، إلا بالانشغال بالصراعات المذهبية هذه العبثية، التي لا يثمر منها إلا التشرذم، والابتعاد عن روح العصر، والنكوص إلى الماضي والتقوقع فيه. إن القضية الأحوازية هي قضية يسيرة الفهم، هي قضية احتلال واضحة، لا يصعب فهمها، ولذلك فكل تعقيد مذهبي ديني دغمائي لها، هو مشكوك ومريب، لأنه يريد أن يضفي غموضا على قضية واضحة، وبالتالي إبعاد الشعب الأحوازي عن صلب الموضوع، سواء بوعي أو من دون وعي. إن مناصرة مذهب على مذهب، في الوطن الأحوازي الذي يضم شيعة وسنة، وفي التاريخ الأحوازي المصطبغ بالمذهب القومي، هو مقاربة فجة لا تعير لمنطق التاريخ، تاريخ الأمم ونشوئها، الاهتمام اللازم.

لقد حاولت هذه الدراسة بكل إخلاص عرض أهم الاستدلالات والمنطلقات التي ينطلق منها كل طرف، بيسر وباختصار، حتى تبين مآلاتها، وتصل إلى نتيجة تبدو بديهية من أن الاهتمام بصراعات الدين، تسويف للقضية وإضرارا بها، وخدمة للمحتل ومنحه مساحة بها يستطيع ضرب كل أحوازي قومي مناضل. الشيعة والسنة والخوارج والأرامنة والكفرة وكل بشر مرحب به على الأحواز، إذا ما تبنى معاداة الاحتلال، وانتمى للعروبة. إن التمييز بين المقبول والمرفوض هو العروبة أولا وأخيرا، وما عدى ذلك فهو متروك للحرية الفردية، وحرية الضمير يسلك الفرد فيه كيف يشاء. وغني عن القول بأن العروبة تعني في الأحواز، أولا وأخيرا، كسر قيد الاحتلال الفارسي.  

 

 

حسام المطوري، كاتب وباحث متدرب في معهد الحوار للأبحاث والدراسات

 

المصادر والهوامش: 

 

1. من الواضح أن وضع هذه النعوت في «» يفيد بعدم قبولها أو رفضها، بل نقلها حصرا. 

2. عبد النبي قيم، تاريخ عرب الأحواز، مدارك، بيروت 2013. 

3.  أحمد معلان العلوي، تاريخ التشيع في الأحواز منذ نشأته إلى قيام الدولة الصفوية، المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام، قم 1439.

4. محمد علي رنجبر، مشعشعيان: ماهيت فكري اجتماعي و فرايند تحولات تاريخي، نشر أكه، تهران 1400.  

5. سيد علي الموسوي، الرحلة المكلية، نسخة مخطوطة في مكتبة المطهري في طهران، تحت رقم 1513. 

6.  على شريعتي، التشيع العلوي والتشيع الصفوي، ترجمة حيدر نجف وعلى الصراف، مؤسسة الانتشار العربي، 2022.

7.  كامل مصطفى الشيبي، الصلة بين التشيع والتصوف، دار المعارف، مصر 2011. 

8. راجع في ذلك كتابات هما كاتوزيان العديدة التي تشير إلى زيارة رضا خان لمراجع النجف، ثم عروجه نحو الأحواز لملاقاة الأمير خزعل. 

9.  حسين بشيرية، جامعه شناسي سياسي ايران، دوره جمهوري سلامي، نكاه معاصر، تهران 1395. 

10. حسينعلي ممتحن، نهضت شعوبيه: جنبش ملي إيرانيان در برابر خلافت أموي وعباسي، علمي و فرهنكي، تهران 1386. 

11. محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2011. 

12. علي نعمة الحلو، الأحواز ثوراتها وتنظيماتها 1914-1966، دار البصري1969. 

13. أنظر تفسيرا قوميا للتشيع من خلال هذا الكتاب: أحمد كسروي، بانصد سال تاريخ خوزستان.

14. العلامة عبد الرحمن ابن خلدون، المقدمة، تحقيق علي عبد الواحد وافي، 3 مجلدات، دار نهضة مصر، القاهرة 2000.

15. يرواند أبراهاميان، تاريخ إيران الحديثة، ترجمة مجدي صبحي، عالم المعرفة، الكويت 2018. 

16. ساطع الحصري، العروبة أولا، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1985. 

17. ياسين الحافظ، الأعمال الكاملة، تحقيق عبد الإله بلقزيز، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2012. 

 

"الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لموقع معهد الحوار للأبحاث والدراسات"

3 COMMENTS

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here