مقدمة
أصبح مبدأ السلامة الإقليمية، من أبرز القيود على حق تقرير المصير. إذ تم إقرار مبدأ السلامة الإقليمية في المادة ١٠ من عهد عصبة الأمم ١٩١٩، كما تم إدراجه لاحقاً في ميثاق الأمم المتحدة (١). وتعتبر العلاقة بين حق تقرير المصير والسلامة الإقليمية علاقة شائكة، إذ شكلت أهم القضايا التي اُختلف عليها في فقه القانون الدولي العام، الناظم للعلاقات الدولية بين الدول في إطار القرارات والمعاهدات والمواثيق الدولية. كما شكلت العلاقة بين حق تقرير المصير ومبدأ السلامة الإقليمية علاقة معقدة في إطار القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان.
في المفهوم العام، يشكل الإقليم أحد الأركان المادية الأساسية للدولة، حيث لا يمكن الحديث عن دولة دون وجود إقليم محدد، كما أن مبدأ السلامة الإقليمية للدول هو أحد العناصر الأساسية للحفاظ على السلم والاستقرار الدوليين. ومن جهة أخرى.
ونرى أن هذه اللبس في المفاهيم ، مرده التجاذبات السياسية بين الدول والمواقف من كل قضية على حدة، كون مسألة حق تقرير المصير بمفهومه التقليدي، هي حق متأصل في ميثاق الأمم المتحدة، ويفترق افتراقاً كبيراً وبيناً مع المصطلح الجديد في الفقه القانوني وهو ” حق تقرير المصير الداخي” الذي يتعلق بحق الانفصال في إطار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية. ولعل ما يؤكد فرضيتنا هذه أنّ ” لجنة القضاء على التمييز العنصري، التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة، أقرت منذ العام ١٩٦٦ التمييز بشكل واضح ضرورة التمييز بين تقرير المصير الخارجي ( كحق متأصل) وتقرير المصير الداخلي ( كحق مكتسب). وفي كلا الحالتين يُشترط تحديد فكرة الشعب المختلف عن الدولة الأم في لغته وعاداته وثقافته. بينما يتفرد حق تقرير المصير (الخارجي) بمسألة احتلال دولة والمطالبة بالاستقلال في إطار ميثاق الأمم المتحدة، بغض النظر عن ممارسته حقوقه السياسية والاجتماعية والاقتصادية. بينما يشترط ما سُمي بـ ” حق تقرير المصير الداخلي” التمييز العنصري، وممارسات الدولة الأم في الإقصاء والتهميش السياسي والاقتصادي، ولهذا فإننا نجد إشارات صريحة كثيرة في الصكوك الدولية لحقوق الإنسان إلى ما يفترض أن يتمتع به المواطنون في ظل إقرار تقرير المصير الداخلي.
أولاً- الشعب الأحوازي في إطار مصطلح ” حق تقرير المصير الداخلي”:
الحق في الانفصال كقوة مضافة للاستقلال: صرحت المادة ٢٥ من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية (٢)، فكرة حق الشعب داخل الدولة الأم في تقرير مصيره الداخلي، بغض النظر عن الحقوق التاريخية في السيادة والاستقلال. وعليه فقد سار العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، نحو إيلاء مجموعة سكانية ما، حق الانفصال، وذلك من خلال الاتجاهين التاليين:
الاتجاه الأول- توسيع الحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية للمجموعة السكانية المعنية:
وبالتالي يحق لهذه المجموعة، المطالبة بـ ” حكم ذاتي” منتخب وديمقراطي، يحقق تطلعات هذه المجموعة السكانية، التي لا يفترض فيها أن تكون شعباً، أو مجموعة عرقية أو اثنية متمايزة، بقدر ما يتم إيلاء الأهمية لفكرة التهميش في الحقوق السياسية والمدني، ما يجعلها مجموعة تدير نفسها بخصوصية قانونية، استناداً للدستور الوطني، الذي يحدد شكل إعطاء هذه الحقوق مع الإبقاء على وحدة البلاد أو اتحادها.
الاتجاه الثاني – حق تقرير المصير الداخلي المطالبة بالانفصال:
وهنا يأخذ هذا الحق توسيعاً يصل إلى إلى تأسيس دولة مستقلة وذات سيادة. لكن الرأي الذي يرى إمكانية اتخاذ تقرير المصير الداخلي في إطاره غير الاستعماري أو الاحتلالي. وهنا فقد اشترط فقه القانون الدولي، و استناداً للمواثيق المتعلقة بحقوق الإنسان، توفر الشروط التالية:
– أن يكون هناك تمييز حقيقي، يثبت أن هناك ممارسات من الدولة الأم ضد أقلية قومية ذات ثقل وازن.
– أن يكون هناك جماعة تشكل مجتمعاً متمايزاً و منفصلاً ومحدد ذاتياً في إقليم معين، بحيث تقطن فيه هذه المجموعة بكثافة، داخل منطقة جغرافيا مترابطة، وتطالب أغلبيتها بحقها في الانفصال عن الدولة الأم.
– في حالة حصول هذه الجماعة على الحكم الذاتي في الإطار الفيدرالي أو الاتحادي للدولة الأم، ولجوء هذه المجموعة السكانية، لوضع المجتمع الدولي أمام الأمر الواقع، بسبب النزاعات والحالات الخلافية مع الدول الأم، ما يفضي إلى تحوّل الحكم الذاتي إلى انفصال.
١– الشعب الأحوازي ومفاعيل مبدأ السلامة الإقليمية: أهمية التمييز بين “حق شعب” و ” احتلال دولة”:
يمكن القول: إنّ حيازة مجموعة سكانية أو أقلية معينة لهذه الشروط الأربعة – آنفة الذكر- مجتمعة تبرر إلى حد كبير مطالبتها بالانفصال وإقامة دولة مستقلة ذات سيادة خاصة بها، لكن وبالنظر إلى مختلف التجارب التاريخية التي حاول من خلالها مجموعة سكانية للانفصال، فإننا نجد أنها اصطدمت بعدم توفر الشروط الأربعة مجتمعة، ولهذا فإنّ أغلب حركات الانفصال تفتقر إلى أكثر من شرط، مما يجعل مطالبتها بتأسيس دولة جديدة مطلباً غير واقعي ولا يحظى بتأييد دولي.
بالنسبة للحالة الأحوازية، تبدو مفاعيل تطبيق مبدأ السلامة الإقليمية، عاملاً معرقلاً ومجافياً لمبادئ وقواعد القانون الدولي العام، كما معارضة ذلك مع ميثاق الأمم المتحدة. خصوصاً في معرض التفريق بين حق تقرير المصير الداخلي (الانفصال)، وحق تقرير المصير الخارجي ( التحرر من الاستعمار).
فعلى الرغم من قدم ظاهرة الانفصال عن الدول في التاريخ، إلا أنها بقيت في إطار مفرزات واقع الصراع بين الدول، وليست مولداً من مولدات حقوق الإنسان. فبالرغم من أن ظاهرة الانفصال أخذت نطاقاً واسعاً واكتسبت أهمية كبيرة جداً في العلاقات الدولية المعاصرة، منذ تأسيس منظمة الأمم المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، إلا أنها جافت الحالات الواقعية لحقوق الشعوب في تقرير مصيرها داخلياً. حيث تصاعدت هذه الظاهرة منذ تسعينيات القرن العشرين في الدول الأوروبية في أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية وعلى وجه الخصوص بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، كأحد مفرزات الصراع أبان الحرب الباردة بين المعكسر الاشتراكي الذي قاده الاتحاد السوفياتي السابق، وبين المعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية )٣).
يقوم حق تقرير المصير الداخلي (الانفصال) بالاستناد على فكرة غير مقننة في القانون الدولي، إنما ولدت من اجتهادات فقهاء القانون الدولي استناداً لحقوق الإنسان، لذلك تحاول بعض الدول زج وخلط هذا المفهوم مع مفهوم حق تقرير المصير مع حق تقرير المصير الداخلي، لإيجاد ذرائع لتطبيق مبدأ السلامة الإقليمية، وهو من الأسباب التي أدت إلى ولادة مصطلح ” حق تقرير المصير الداخلي”، ليقابله حق تقرير المصير الخارجي (٤)، المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة. استناداً للمصلحة الذاتية لهذه الدول، أو في معرض علاقاتها مع الدول الأخرى، وذلك بالقول أنّ وحدة أراضي الدولة وعدم قابليتها للتجزئة، هي حق مقدس يتعلق بمبدأ احترام السلامة الإقليمية. علماً أننا لا نرى أي ارتباط قانوني بين الحق في الانفصال وبين مبدأ احترام السلامة الإقليمية، لسبب وحيد مؤداه أنّ قيام الأمم المتحدة، جاء بناء على تصور أصلي مفاده تعاون وتفاهم الدول الأقوى والأقدر على حفظ السلم والأمن الدوليين. وبالتالي فإن اقتصار ميثاق الأمم المتحدة في إطار النص على حق تقرير المصير استناداً للحق في التحرر من الاستعمار فقط، وتجاهل القضايا الإنسانية والإقصاء والتهميش وعدم ممارسة الحقوق المدنية والسياسية، سيؤدي إلى تحول هذه المشكلات الاجتماعية إلى مشكلات سياسية تهدد حفظ السلم والأمن الدوليين، أكثر من أي وقت مضى، الأمر الذي يعطي الجماعات السكانية الحق في تقرير المصير دون اللجوء إلى شروط الانفصال المقيدة لهذا الحق.
٢– أسبقية القضية الأحوازية على مبدأ السلامة الإقليمية في ا لقانون الدولي:
تشكل القضية الأحوازية كقضية احتلال لدولة قائمة في حدود مكوناتها السيادية، حالة أسبق من مبدأ السلامة الإقليمية، الذي ولد مع ولادة ميثاق الأمم المتحدة في العام ١٩٤٥، وبالتالي تبقى القضية الأحوازية في إطار فكرة الحركات الاستقلالية التي دافع عنها ميثاق الأمم المتحدة، والجمعية العامة للأمم المتحدة في الكثير من قراراتها، حين كانت الدول الاستعمارية تتمسك في الماضي بمبدأ السلامة الإقليمية، لتبرر – من الناحية القانونية – موقفها المعادي لحركات التحرر الوطني في مستعمراتها (٥).
وبالتالي فإن إيران مثلها مثل الكثير من الدول الاستعمارية التي مازالت تتمسك بمبدأ السلامة الإقليمية في علاقاتها الداخلية والخارجية، والتذرع بأن هذا الحق لا يطال الدول المستقلة، ولايتعلق بإنهاء الاستعمار، بالاستناد إلى فكرة مفادها، أنّ ميثاق الامم المتحدة في عام ١٩٤٥ والقرار التاريخي للأمم المتحدة في عام ١٩٦٠ الذي أقر إنهاء ظاهرة الاستعمار، أصبح الآن من الماضي، وخلال فترة الحركات الاستقلالية التي ظهرت خلال مرحلة الحرب البادردة.
ويدحض هذا الزعم، أن قرار ظاهرة الاستعمار إنما جاء تطبيقاً لميثاق الأمم المتحدة، الذي تضمن حق الدول في التحرر من الاستعمار، ولم يكن وليد مرحلة، خصوصاً وأن الميثاق مازال يشكل دستوراً عالمياً من الناحية القانونية، وضابطاً لعلاقات الدول فيما بينها. وكان لصدور قرار من المحكمة العليا الكندية كأعلى هيئة قضائية، وقرار محكمة العدل الدولية، التابعة للأمم المتحدة، والمنشة كإطار تنفيذي لحل النزاعات بين الدول، دوراً في التفريق بين الانفصال، وحق تقرير المصير. وكان لصدور الرأيين الاستشاريين من المحكمة الكندية العليا ومحكمة العدل الدولية، أثراً هائلاً على صعيد القانون الدولي، أعاد تصحيح الفكر القانوني في هذا الخصوص، وذلك بالتفريق بين مبدأي ” حق تقرير المصير” من ناحية، و” احترام السلامة الإقليمية” لمختلف الدول من ناحية أخرى. والملاحظة الجوهرية الجديرة بالانتباه أنه على الرغم من الطابع الاستشاري المحض غير الملزم لهذين الاجتهادين القضائيين، ألا أن ذلك لم يحل دون انتشار تأثيرهما الهائل على صعيد الفكر القانوني والقانون الدولي.
ثانياً- حقوق الشعب الأحوازي في إطار حق الانفصال:
ليس هناك أدنى شك، بأن القضية الأحوازية هي قضية احتلال، تصب في إطار التحرر من الاستعمار، إلا أنّ ذلك لا يمنع من الحديث عن حق الانفصال للشعب الأحوازي، كلما اصطدم موضوع التحرر من الاستعمار الإيراني التجاذبات الدولية، التي تدافع بين الحين والآخر عن مبدأ السلامة الإقليمية، وبالتالي قد يشكل حق الانفصال (حق تقرير المصير الداخلي) مدخلاً قانونياً آخراً، بالولوج في انتهاكات حقوق الإنسان السياسية والمدنية للشعب الأحوازي، خصوصاً وأن هذا الشعب ( التجمع السكاني) يمتلك جميع مقومات الانفصال عن إيران ( الدولة الأم حسب مفهوم حق تقرير المصير الداخلي). في إطار الشروط التي وضعها فقه القانون الدولي، و استناداً للمواثيق المتعلقة بحقوق الإنسان، حيث يعاني الشعب الأحوازي من تمييز حقيقي، وممارسات من ما يُعرف بـ ” الدولة الأم” استناداً لحق تقرير المصير الداخلي ، ضد ” قومية” ذات ثقل وازن، كما أن الشعب الأحوازي، يشكل مجتمعاً متمايزاً و منفصلاً ومحدد ذاتياً في إقليم معين، بحيث يقطن الشعب الأحوازي في جغرافية محددة تاريخياً فيه و بكثافة سكانية مترابطة، بالرغم من محاولات التوطين التي تنتهجها السلطات الإيرانية، داخل منطقة جغرافيا مترابطة، وتطالب أغلبيتها بحقها في ليس بالانفصال وحسب، ولكنها تطالب بتقرير مصيرها كدولة ذات سيادة محققة تاريخياً. وبالتالي فإنها تحقق شروط الانفصال، في أدنى حدوده كـ ” حكم ذاتي” في الإطار الفيدرالي أو الاتحادي للدولة الأم، الذي يحقق لجوء هذه المجموعة السكانية، لوضع المجتمع الدولي أمام الأمر الواقع، إلا أنّ هذه الفرضية قياساً للوضع القانوني للشعب الدولة الأحوازية، تبقى مقيدة بحدود مبدأ السلامة الإقليمية، ومرهونة بواقع التجاذبات الدولية، التي تدفع إيران إلى نظام حكم فيدرالي أو تفكيكها. وبالتالي فإن الوقوف عند حق الانفصال سيؤدي إلى الاعتراف بالاحتلال الإيراني هذا من جهة، لصالح الاعتراف بها كدولة أم، وهذا غير متحقق ووارد في إطار محددات الشعب والأرض والسيادة، التي امتلكها الشعب الأحوازي قبل الاحتلال. كما أنّ المطالبة بحق الانفصال هو حق مرهون بفشل الحلول التوفيقية بين “المجموعة السكانية الأحوازية”، و” الدولة الإيرانية الأم”، وهو شرط يرتبط غير متحقق أمام دولة تُصنف كدولة شمولية ثيوقراطية، وتصنف كدولة راعية للإرهاب في العالم. وبالتالي فإن مسألة إعطاء الحقوق المدنية والسياسية، تصبح أمراً يعيق الوصول إلى أية حلول توفيقية بين هذه “المجموعة السكانية الأحوازية” ، و ” الدولة الأم” استناداً لما سُمي اصطلاحاً بـ ” حق تقرير المصير الداخلي أو الانفصال.
١- الظروف السياسية لحق تقرير المصير الداخلي: خرق مبدأ السلامة الإقليمية بالاستقلال.
شهد العالم نزاعات انفصالية وصلت إلى ستين ” نزاعاً” انفصالياُ لم يتمكن نصفها حتى الآن، بالرغم من تحققها لشروط حق تقرير المصير الداخلي، ولكنها كانت في كل مرة مرتبطة بالتجاذبات السياسية بين الدول (٦). وفي سبيل ذلك سنعرض لأبرز حالات الانفصال عن دول أعضاء في الأمم المتحدة، مع تبيان مواقف الدول منها:
- حالات انفصالية بعد تأسيس الأمم المتحدة: يمكننا الإشارة إلى أبرز النماذج لشعوب نجحت في الانفصال، وتحقيق استقلالها الوطني بعد تأسيس الأمم المتحدة، هو انفصال الباكستان عن الهند، في ١٦ اغسطس/ آب ١٩٤٧ وتم قبول باكستان في الأمم المتحدة في ٣٠ سبتمبر ١٩٤٧. وبذلك اصبحت عضواً رسمياً يتمتع بكافة حقوق العضوية في المجتمع الدولي. وكان انفصال باكستان يجسد أول وابرز هذه الحالات بعد خمود نيران الحرب العالمية الثانية وقيام منظمة الأمم المتحدة.
- ولكن مايمكن ملاحظته، أن استقلال باكستان تم بناء على قرار بريطانيا بتقسيم مستعمرتها السابقة، التي كانت تسمى الهند البريطانية إلى دولتين هما جمهورية الهند، وجمهورية باكستان اللتان أعلنتا استقلالهما في ١٥ أغسطس ١٩٤٧ و١٦ أغسطس ١٩٤٧.ورغم التقسيم البريطاني للهند البريطانية الى دولتينن، إلا أنّ استقلال باكستان قد تم باتفاق بين الجانبين الهندي والباكستاني، نطراً لاعترافهما المتبادل باستقلال كل منهما، الذي لم يمنع تصارعهما لاحقا حول عدد من القضايا تتعلق بالاقليم التي ينبغي أن يكون جزءً من باكستان. ويمثل نزاعهما حول إقليم كشمير من أبرز قضايا الصراع الهندي الباكستاني، الذي لم يتوقف حتى اليوم. الأمر الذي يؤكد أنّ مفهوم حق تقرير المصير الداخلي، هو مصطلح فضفاض نابع من رغبات الدول ومصالحها، وليس نابعاً من إرادة شعب بالتحرر من الاستعمار، واستعادة حقوقه التاريخية.وبالتالي قد يشكل حق تقرير المصير ( الانفصال) في أحد جوانبة تهديداً لحفظ السلم والأمن الدوليين، بسبب الإبقاء على بعض الحالات الخلافية، التي قد تضع الدولتين أمام نزاعات لاتنتهي. ولعل ماحدث بين الهند وباكستان من أحداث دامية يشير إلى ذلك، فقد خاضت الدولتان حرب شاملة بينهما في عامي ١٩٤٨ و ١٩٥٦، كما يمكن اعتبار هذا الحل، إحدى الخلفيات التي دفعت بالهند إلى تأييد انفصال بنجلاديش، وخوض حرب ضد باكستان في عام ١٩٧١ بسبب ذلك التأييد.
– انفصال سننغافورة عن اتحاد ماليزيا : يتميز انفصال سنغافورة عن اتحاد ماليزيا بأن الطرف المسئول عن هذا الانفصال لم يكن الطرف الذي انفصل عن الكيان الاتحادي، بل كان المسئول عنه هو الطرف الاتحادي ذاته أي الحكومة الفيدرالية الماليزية. ففي ١٦ سبتمبر ١٩٦٣ أعلن عن قيام دولة اتحاد ماليزيا من أربع مقاطعات هي اتحاد الملايو وسنغافورة وسرواك وبورنيو الشمالية. ولكن هذا الاتحاد سرعان ما أصبح مسرحاً لنزاعات ايديولوجية واقتصادية، وعلى وجه الخصوص نزاعات عرقية حادة بين الأغلبية الصينية، والأقلية الملاوية في جزيرة سنغافورة. فنشبت مواجهات عرقية دامية بينهما في أثناء إجراء الانتخابات الفرعية في سنغافورة عام ١٩٦٤، التي أجريت في أعقاب الانتخابات العامة الماليزية. وكرد فعل عليها أعلن تنكو عبد الرحمن رئيس وزراء الماليزي آنذاك طرد سنغافورة من الاتحاد الماليزي.
– انفصال باكستان الشرقية (بنجلاديش): انفصلت بنجلاديش عن جمهورية باكستان السابقة، التي كانت تضم جزئها الشرقي المعروف بباكستان الشرقية، وجزئها الغربي الذي عرف بباكستان الغربية التي تبعد عن الجزء الشرقي بآلاف الأميال، وكانت الهند تفصل ما بين الجزئين الشرقي والغربي لباكستان. وقد أجريت انتخابات عامة في باكستان بجزئيها الشرقي والغربي، كان من نتيجتها فوز الحزب الأكبر في باكستان الشرقية بأغلبية المقاعد في برلمان باكستان، نظراً لأن سكان باكستان الشرقية، كانوا بعددهم البالغ ٦٢ مليون نسمة آنذاك يفوقون عدد سكان باكستان الغربية الذي كان يبلغ ٥٦ مليون نسمة. لذلك أراد حزب باكستان الشرقية أن يشكل الحكومة في باكستان بأسرها بسبب حيازته للأعلبية البرلمانية،إلا إن سياسي باكستان الغربية، الذين كانوا يسيطرون على الحكومات المتعاقبة لباكستان منذ استقلالها رفضوا التسليم بهزيمتهم. وسرعان ما نشبت الحرب بين شطري باكستان انتهت بفصل باكستان الشرقية وإعلانها دولة مستقلة باسم بنجلاديش، بسبب دعم الهند عسكرياً وماديا ومعنوياً للبنجاليين في باكستان الشرقية. وعلى هذا الأساس، فإن قضية استقلال بنجلاديش، إنما جاء نتيجة لثلاثة أسباب: انتخابات برلمانية وحرب أهلية ودعم هندي خارجي (٧).
– تفكك الاتحاد السوفيتي وتجاذبات الحرب الباردة: يعود تفكك الاتحاد السوفيتي إلى إعلان منسك الشهير في ٨ ديسمبر ١٩٩١ ، الذي أدى إلى نهاية وجود الاتحاد السوفيتي كدولة مستقلة، فحلت محله خمسة عشر دولة مستقلة. وكانت دول البلطيق الثلاث استونيا ولاتفيا وليتوانيا إضافة إلى جورجيا وارمينيا، قد بدأت سعيها نحو الاستقلال قبل عام ١٩٩١، بسبب تميزها بالتمتع باستقلال واقعي عن الاتحاد السوفيتي قبل عام ١٩٩١. واحتفظت روسيا التي أصبحت تسمى الاتحاد الروسي بمقعد الاتحاد السوفيتي بالأمم المتحدة، كما استفادت روسيا البيضاء وأوكرانيا من وضيعتهما الدولية السابقة كعضوين من أعضاء الأمم المتحدة، وقبلت الدول الأحدى عشر الأخرى كأعضاء جدد في الأمم المتحدة خلال الفترة ١٩٩١-١٩٩٢. وهكذا تم نهاية الاتحاد السوفيتي برضا الدولة السوفيتية، وبمعاهدة دولية.
– انفصال الدول عن يوغسلافيا: شهد النصف الأول من تسعينيات القرن العشرين تفكك يوعسلافيا السابقة، التي كانت تسمى جمهورية يوغسلافيا الاشتراكية الاتحادية، التي كانت تضم ست جمهوريات متحدة في إطار فيدرالي إلى خمس دول مستقلة، أربع منها انفصلت عنها عام ١٩٩١ في أعقاب حروب أهلية، اتسمت بعنف شديد، وأصبحت دول مستقلة هي سلوفينيا، وكرواتيا، والبوسنة والهرسك، ومقدونيا. وبقيت في إطار الاتحاد اليوغسلافي السابق دولتان فقط هما صربيا والجبل الأسود اللتان احتفظتا أولاً باسم يوغسلافيا، ثم اتخذتا اسماً جديداً لهما هو جمهورية صربيا والجبل الأسود. وقد قبلت عضوية كل من سلوفينيا و كرواتيا والبوسنة والهرسك في الأمم المتحدة قي عام 1991 وتبع ذلك قبول عضوية مقدونيا سنة ١٩٩٣.
– تفكك دولة تشيكوسلوفاكيا: تفككت دولة تشيكوسلوفاكيا التي وجدت لأول مرة عند انهيار الامبراطورية النمساوية في عام ١٩١٨، وانشطرت إلى دولتين مستقلتين هما جمهورية التشيك وجمهورية السلوفاك في عام ١٩٩٣، وقبلتا في عضوية الأمم المتحدة في يوم واحد هو التاسع عشر من يناير عام ١٩٩٣. ونلاحظ على الحالة التشيكوسلوفاكية أن انفصال الدولتين تم سلمياً وبناء على اتفاقهما عليه8.
– انفصال اريتريا عن أثيوبيا: وقد حصل هذا الانفصال بعد نضال مسلح ضار اتسم بالديمومة لحوالي الثلاثين عاماً، استطاع الشعب الاريتري انتزاع استقلاله الوطني وتكوين دولة مستقلة خاصة به، على الرغم من أن ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية ومواقف دولها لم يدعمه في كفاحه الطويل لنيل استقلاله. ويلاحظ على الانفصال الاريتري انه أُنجز نتيجة ثلاثة عوامل، أولها التركيز على الكفاح الطويل للشعب الاريتري، الذي استمر ثلاثين عاماً من الإصرار، ثانيهما أنّ الحرب الطويلة التي خاضتها أثيوبيا الإمبراطورية والاشتراكية لاحقاً، ثارت شعوب أخرى على الدولة الإثيوبية كان أبرزها شعب الأورومو الذي كان يدعم استقلال اريتريا، فتحالف مع الحركة التحررية الاريترية وتمكن بعد خوض حرب عصابات من تولي مقاليد الأمور في أثيوبيا، الأمر الذي أدى إلى الاعتراف باستقلال اريتريا.أما العامل الثالث فإن الاستقلال الاريتري تم نتيجة استفتاء الشعب الاريتري حول استقلاله عن أثيوبيا، وشاركت الأمم المتحدة مشاركة فعالة في تنظيمه.
٢– مواقف الدول من محاولات شعوبها بحق تقرير المصير الداخلي:
أدى وجود حركات انفصالية داخلية في أراضي الدول الكبرى، وبسبب اختلاف مصالحها مع بقية دول العالم، إلى التمييز بين مسألتي تقرير حق تقرير المصير والانفصال، وكيفية تطبيقهما في إطار سياستها الداخلية مع إقاليمها وبين سياستها الخارجية. لذلك فقد كانت مواقف الدول الكبرى تتباين بين مؤيد ومعارض لحق تقرير المصير، والانفصال في علاقاتها مع بقية دول العالم، بينما تتخذ موقفاً يمكن وصفه بأنه مناهض لمنح إقاليمها الداخلية حق تقرير المصير الداخلي أو والانفصال، وان كانت هذه المعارضة آخذة بالتلاشي في الدول الأنجلوساكسونية باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية. أما معارضة الاتحاد الروسي اليوم، فتعود الى وجود مشكلات متفجرة في بعض إقاليمها، كالشيشان، وشبه جزيرة القرم، وتتارستان، وأسوتيا. وقد استطاعت روسيا إنهاء هذه المحاولات الانفصالية، باللجوء إلى حلول سلمية، ضمنت لها وحدة أراضيها (٩).
وفي الولايات المتحدة الأمريكية وجدت محاولات صغيرة وهامشية للانفصال، في كل من فيرمونت وكاليفورنيا، والاسكا، وهواي، وبورتوريكو، وكانت هواي وبورتوريكو تظهر في وثائق الأمم المتحدة على أنها أراض لا تميتع بالحكم الذاتي في عام ١٩٤٦، إلا أن الولايات المتحدة نجحت بعد ذلك بحذفها من وثائق الأمم المتحدة. كما تلجأ الولايات المتحدة إلى قضائها الوطني ممثلا بالمحكمة العليا الأمريكية لرفض مطالب الانفصال، بحجة أن الدستور الأمريكي بعد الحرب الأهلية الأمريكية يمنع الانفصال.
أما بريطانيا فنلاحظ أنها تعاني من مشكلتي انفصال ايرلنده واسكتلندا، إلا أنها استطاعت حلها عن طريق الحلول السلمية، المجسدة بالاتفاق مع الحركات الانفصالية، وبتطبيق مبدأ استفتاء سكان اسكتلندا على الانفصال عن طرق التشريع. وهنا يظهر تأثير التجربة الكندية على التشريع الدستوري البريطاني. و تعاني فرنسا من مشكلة كالدونيا الجديدة قبل الاتفاق الأخير على حلها بالاستفتاء، الذي أجري مؤخراً، وكانت نتيجته تصويت أهالي كالدونيا الفرنسة بالبقاء ضمن أراضي فرنسا، ورفض الاستقلال عنها. كانت تعتبر كالدونيا الجديدة من الأقاليم التي لا تحكم نفسها. كما أنّ الصين الشعبية، تعاني من قضايا التيبت، وهونج كونج، التي استطاعت حلها سلمياً، فحلت مشكلة هونج كونج عن طريق الاتفاق مع بريطانيا على منحها حقوقا سياسية واقتصادية متميزة ضمن شعار دولة واحدة بنظامين. ويتجلى موقف الصين بتمسكها بوحدة أراضيها وسلامتها الإقليمية في علاقاتها مع تايوان، التي تعتبرها جزءاً من أراضيها وعلى هذا الأساس ترفض الاعترف بها، أو بعضويتها في الأمم المتحدة.
خاتمة
مما تقدم نستنتج، أن مسألة حق تقرير المصير الداخلي أو الانفصال، هي محاولة من الدول لتقييد الحقوق المشروعة لبعض الاحتلالات الواقعة تاريخياً خصوصاً في الشرق الأوسط حيث تتقاطع مصالح الكثير من الدول العظمى مع الدول المحتلة، مثل إيران التي تحتل الأحواز، والجزر الإمارانية، وتركيا التي تحتل لواء إسكندرون، وإسرائيل التي تحتل فلسطين والجولان.
وبالتالي فإن حالات الانفصال التي حدثت في بعض الدول، قد تم إما بأسلوب سلمي، اتخذ ذلك شكل المعاهدة الدولية أو الاستفتاء، أو بأسلوب عنفي تجلى بنشوب حروب أهلية بعضها اتسم بعنف شديد، وأن الأمم المتحدة تدخلت في إجراءات انفصال بعضها فقط، إنّ غالبية النماذج الانفصالية، التي مررنا عليها تشير إلى هذا الانفصال جاء في إطار غير قانوني، إما باتفاق الجانبين في كما في حالة باكستان وتشيكوسلوفاكيا، أو بسبب استغناء الدولة الأم عن مشاكل لاقبل لها بها، كما حصل بطرد أحد أعضاء الدولة الاتحادية في حالة سنغافورة. وإما أن يكون هذا الانفصال من جانب واحد مع دعم خارجي، كما في حالة بنجلاديش، وإما بمعاهدة دولية ورضا الدولة الاتحادية ذاتها، كما في حالة الاتحاد الروسي، وإما نتيجة لحروب أهلية داخلية، أجبر الأمم المتحدة على التدخل والاعتراف بالأمر الواقع،كما حصل في حالة يوغسلافيا.
وبالتالي، يصبح مصطلح ” حق تقرير المصير الداخلي” أو الانفصال، حقاً يشكل حالة من الارتدادات السياسية، دون أن يكون لفكرة ” حق المصير” أي بعد في ذلك، ودون أن يكون لموضوع الحقوق المدنية والسياسية دوراً فيها، وبالتالي فهو مصطلح سياسي أكثر من كونه مصطلحاً في إطار القانون الدولي العام، وميثاق الأمم المتحدة، الذي تضمن حق تقرير المصير، كحق في التحرر من الاستعمار، وبالتالي فهو حقاً لا يتعارض البتة مع مبدأ السلامة الإقليمية للدول.
الهوامش: ______
1- انظر: المادة 2 من ميثاق الأمم المتحدة.
2- اظر: المادة 25 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية
3- انظر: د. محمد خالد الشاكر، مجلس الأمن الدولي وحفظ السلم والأمن الدوليين قبل وبعد انتهاء الحرب الباردة، رسالة ماجستير، المعهد العالي، الجامعة اللبنانية، للدكتوراه في الحقوق والعلوم السياسية والإدارية، 2009، ص 32 ومابعدها.
4- Redie Bereketeab, Self-determination and Secession: A 21st Century Challenge to the Post-colonial State in Africa, the Nordic Africa Institute, Policy Notes, 2012/5.
5- Sujit Choudhry, Old Imperial Dilemmas and the New Nation- Building: Constitutive Constitutional Politics in Multinational Polities, Berkeley Law Scholarship Repository, Berkeley University, summer 6-1-2005, p. 933
6- للاستفاضة انظر: Jeff Corntassel, Toward Sustainable Self-Determination: Rethinking the Contemporary Indigenous-Rights Discourse, Alternatives 33, (2008), p. 108
7- للاستفاضة انظر: كهينة العباسي، المفهوم الحديث للحرب العادلة، رسالة ماجستير في القانون العام، تيزي أوزو، الجزائر، 2011، ص 22 و مابعدها.
8- حول امكانيات ذلك، اظر المادة ا 1، العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، اعتُمد وعُرض للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة رقم 220000 (د ـ 21) لسنة 1966.
9- انظر في هذا الخصوص، قرار الجمعية العامة رقم 1514