المقدمة
ينمو الحديث في الآونة الغير قليلة الماضية عن المجتمع المدني، من جانب الذين تعودوا القاء الكلام على عواهنه، من دون محاسبة، و انما بكثير اطراء، ممن لا يحسنون سوى الاطراء و الاسطرة على كل قائل!. و لان المجال، في هذا المقام، ضيق، فانني ساشير الى اهم نقاط استحالة تدشين، او انشاء مجتمع مدني، في «الاحواز»، الذي اطلقت عليه بانه مجتمع شاذ[1].
١: المنهج و المرجعية الفكرية
ان المنهج الذي يتم التحرك فيه، في الحديث عن المجتمع المدني، هو منهج مقارن. و المقارن به هنا، هو المجتمع الغربي، او بتعبير افضل الحضارة الغربية، بالرغم من تشعباتها و اختلافها، بين مجتمع فيها و مجتمع، و دولة و دولة. و بما ان ذلك الذي نريد اسناد مقروننا به، هو المجتمع الاوربي الغربي بالتحديد، فلابد، في هذا السياق، من الاشارة الى فطاحل هذه الفكرة، ممن ابتدعوها و صكوها، مشيرين بالآن ذاته الى مرجعيتنا الفكرية في هذه الورقة. فاول من تحدث عن فكرة المجتمع المدني، في العصر الحديث، هم اهل الاقتصاد الكلاسيكي من الانكليز، حيث وضعوا المجتمع المدني عندهم، مقابل تضييق عمل الدولة (آدم فيرغسون)، و اثرها في آليات الاسواق، التي ارادوا لها ان تكون حرة (أدام اسميث)، بمناى عن تطاول الدولة عليها، و التحكم بمجرياتها. ثم ما لبثت هذه الافكار حتى ظهر الفيلسوف، و اعاد الافكار الى انصبائها. و لقب الفيلسوف يطلق حصرا على كيئورك فيلهلم فردريش هيغل. فقد اهدى هو في كتابه، «عناصر فلسفة الحق»، الى ثلاثة لحظات في عمر الاجتماع – و هنا يجب التدقيق في المفاهيم، فالاجتماع die Gemeinschaft هو غير المجتمعdie Gesellschaft، حسب ميز عالم الاجتماع تونيس- اولها تكون فكرة الاسرة، ثم تاتى الطروحة النقيضة المقابلة لها، و هي المجتمع المدني، ليتعالى الطرفين، ديالكتيكيا، الى الدولة، و هي تجسد الروح الحاقة، و انتهاء التاريخ؛ كما سارجع الى شرح ذلك في الفقرة التالية.
اذن، بما ان هيغل هو صاحب هذه الفكرة، فلابد من شرح بعض ملابسات افكاره، و نطاق تفكيره: و كما جاء اعلاه، فقد كان منطلق هيكل هو الاسرة. و الاسرة اول ما ترتبط به، هو الارتباط النسبي، و بما ان هذا الرابط النسبي، سرعان ما يضمحل، بعد تدرج الاسرة الى جماعات اكبر، في حيز جغرافي معين، فيتغير هذا الرابط، و اذا شئت قلت يتسع، الى ان يعتاض بروابط جديدة هي اللغة و طول المعاشرة، او التاريخ بحد ذاته. و ما اريد قوله: هو ان الفيلسوف كان على علم و وعي ذاتي تام، بان هذه الحركة الديالكتيكية، لا يمكن ان تكون الا في نطاق الجماعة ذات النسب الواحد، المتحول الى اللغة الواحدة، التي تنتج بالضرورة طول عشرة، اي تاريخ مشترك ما بينهم. و في هذا السياق، و ضمن نطاق هذه الجماعة فقط، و بالضرورة المنطقية، يمكن الحديث عن تعالى الاسرة الى مجتمع مدني، يتوخى اقامة دولة، و بالتالي الدخول الى التاريخ، و الانتشال من التقوقع في الشذوذ، في الاطراف، كما هو حال المجتمع «الاحوازي»، في زمان الناس هذا.
٢: استحالة المجتمع المدني في المجتمع الشاذ
١-٢: الدولة القومية Nation State و المجتمع المدني
لا يمكن الحديث عن قيام مجتمع مدني في دولة متعددة القوميات. ذلك ان المجتمع المدني هو مجتمع، بالدرجة الاولى. و المجتمع يعني الجماعة المرتبطة بروابط لغوية مشتركة، كما اشرت اعلاه، و روابط اخرى ناتجة عن اللغة بالضرورة هي من تسمح بنشوء جماعة صاحبة تاريخ مشترك، ليس على المستوى التاريخي او الضرورة المنطقية فحسب، بل على المستوى البيولوجي و التقني ايضا، اذ كيف يمكن لجماعة ان تكون مشتركة اذا لم تكن هناك آلية للتواصل فيما بينها؟. و التاريخ المشترك هذا، المتمخض من اللغة المشتركة، كوعاء تتدرع به الجماعة، هو الذي يصنع الاساطير القومية المشتركة لها، المميزة اياه عن الآخر، و القيم و العادات المشخصة له. و هذا هو التفرد، و هذا ما به تقوم الجماعات، ثم الامم بعد بلوغ الوعي التام و انشاء الدول الخاصة بها.
لا يمكن الحديث عن قيام مجتمع مدني في دولة متعددة القوميات
ثم انه بما ان النقاش يدور حول المجتمات المعروفة بالدول النامية، فان الحديث عنها هو حديث بدوي، اي حديث تاسيسي. و هذه نقطة غاية في الخطورة، لان المتحدث، او لنقل جدلا المفكر، الغير مسلح بصرامة منطقية، و وعي تاريخي، عادة ما يتناسى انه لا يتحدث عن المجتمعات الغربية، التي تاصلت الدولة فيها و تاثلت، بل انه يتحدث عن هذه المجتمعات التي تتوخى تدشين بعض الظواهر، السياسية و الاجتماعية الغربية، على سبيل المقارنة، او المحاكاة، الزائفة احيانا. فالغرب، في هذا السياق، عندما اقام حدوده السياسية، انما كان منطلقة هو القومية؛ و من هنا انشئوا لغاتهم الخاصة، و انتزعوها عن اللاتينية، في مسعى منهم الى تحديد الروح القومية، و نطاقها السياسي و الاجتماعي و الثقافي و التاريخي الخ. ثم بعد كل هذا الذي انجزوه، جنحوا نحو صناعة مجتمع مدني، داخل نطاق الدولة القومية التي اقاموها سلفا. و من هنا يطرف التذكير بقول ماركس و انكلس، حين قالا: ان الجماعات التي لا تتمكن من اقامة دولة قومية خاصة بها، فهي مجتمعات ستبقى خارج التاريخ، الى ان يحين ميعاد زوالها من على وجه الوجود.
اذن فكرة المجتمع المدني في الاجتماعات المتعددة القومية و الدعوة لها تعني، فيما تعنيه، انها تتجاهل تماما فكرة انشاء دولة قومية، و بالتالي، فان الحديث عن مجتمع مدني، في الاجتماعات المتعددة القوميات، التي استطاعت فيها قومية غالبة من اقامة دولة خاصة بها، و بالتالي فرض سلطانها على سائر المكونات، خاصة بالنظر الى طبيعة الدولة و السلطة في الدول النامية، حيث ليس هناك اعتراف بالتعددية و قبول الآخر، نعم ان الحديث هذا يؤدي الى ما سماه العالم الماركسي الشهير انتونيو كرامشي الى بسط الاستيلاء، الثقافي و السياسي والخ، داخل الدولة الواحدة.
٢-٢: الاستيلا في المجتمع المدني
قلت في الفقرة الماضية، ان من اكبر المعوقات امام قيام مجتمع مدني، في المجتمعات الغير سوية و الشاذة، هي الدولة القومية، ففكرة انشاء مجتمع مدني، في المجتمعات التي تعاني من تعدد قومي، يعني القفز عن التاريخ و ابطال لاي تفكير بقيام الدولة القومية، التي قلنا عنها انها ضرورة منطقية، و نتيجة تاريخية. و قد كان كل ذلك من زاوية نظر سياسية، بيد انه لاكمال الصورة، في الطريق الى انشاء مجتمع مدني، و الدعوة اليه، لابد من الاشارة الى الابعاد الاجتماعية و الثقافية، لقيام مثل تلكم الظاهرة او المؤسسة.
و هنا نسند الكلام الى انتونيو غرامشي، الذي ادرك ما فات الفيلسوف، نتيجة ظروفه الزمانية و المكانية. فلقد تحدث غرامشي، كما هو الحال مع هيغل، عن ان جوهر المجتمع المدني، هو اتباع رغبات الناس فيه، التي تنتظم عبر جماعات للحوصول عليها. اي ان المجتمع المدني هو ساحة، من المفترض ان لا تتدخل فيها الدولة، و انما المصالح المتبلورة العالمة، هي التي تنمو في هذا المجتمع ذاتيا، و تصارع من اجل تحقق اهدافها، و اهداف الجماعة الضيقة، التي تتعاقد من اجل الوصول لها.
الا ان هذه الصورة هي تخفي اكثر مما تستبين. اذ لا يمكن للجماعات التي تتموضع في ساحة المجتمع المدني، العمل بحريتها؛ و آية ذلك انه في كافة المجتمعات، هناك قوى لديها فائض قوة، تستطيع به تسيير المجتمع، و التحكم برغباته حتى، فضلا عن افكاره و ثقافته. و هذا ما اطلق عليه غرامشي مفهوم الاستيلاء. ففي حالة الاستيلاء، تظهر فئة في المجتمع، مسنودة بقوى الدولة و سلطانها، تحاول فرض ارادتها على كافة الارادات التي تنافر اهدافها. و هكذا يكون المجتمع المدني، الذي اريد له ان يكون حرا، تتمتع فيه الجماعات الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية، (فقط و لاغير، لانه لا مجال لمطالبات قومية ضمن نطاق المجتمع المدني، اذ ان اولى مسلماته القبول بالحكم القائم، و الاذعان بمشروعيته، كما ساشرح ادناه) بحيز من العمل الحر من دون مداخلة الدولة، مجتمعا تتم فيه عملية الاستيلاء، لفرض الاستحالة على كافة الكيانات الاخرى، و سوقها نحو ارادة غالبة، هي التي تدير الحياة من وراء الوراء. و اذا ما اخذنا بالاعتبار ان نقد غرامشي هذا، كان موجها للمجتمعات الغربية، فما بالك اذا طبق هذا في مجتمعات نظير مجتمعات الدول النامية ، بصفة عامة، التي تقهر فيها الدولة كافة الجماعات المختلفة معها، قوميا او دينيا او سياسيا.
و من جهة اخرى، لابد من التذكير بان الجماعات ذاتها، المكونه للمجتمع هذا، فضلا عن القيادات فيه، على المستوى الفردي و الثقافي، لا تمتلك نضوجا فكريا بعد، يساعدها على قبول الآخر، و انما الغالب عليها، انها تنفي وجود الآخر هوويا، و انها تحاول، بما لديها من سلطان و اجهزة تعليمية و تربوية و معيشية الخ، تحاول انتزاعه من هويته و تاريخه و اساطيره و رموزه القومية والخ، و الباسه او اذا شئت قلت اخراجه بمظهر هي تريده له ان يتمظهر به. و عسى ان يكون من المليح التذكير بان فتحعلي أخوند زاده كان يقول انه ما ان دخل العرب ارض الفرس السامقة حتى بدى منذ ذلك الحين يحوم السقوط على الفرس و يدب الانحطاط فيهم… افكار لم تنته بعد.
٣-٢: الاستحالة في المجتمع المدني
قلت في الفقرة الماضية ان القول بالمجتمع المدني، في هذه الظروف الراهنة، سيؤدي الى اتمام عملية الاستيلاء، بالنظر الى طبيعة الدولة من جهة، و الثقافة السياسية السائدة في المجتمع، لدى الفئات الغالبة صاحبة الدولة، فضلا عن عموم الناس، من جهة ثانية. و قد كان هذا من زاوية الآخر للجماعة، اما اذا نظرنا الى حال الجماعة من الداخل، فاننا نستطيع القول، ان المجتمع «الاحوازي» في غالب امره، هو مجتمع فقير اقتصاديا، و ان الاحصاءات المتاحة تشير الى ان احد اسباب هذا الفقر، هو انه اقصي عن ان يندرج في اجهزة الدولة، و بالتالي الحصول على ضمان دفع شهري، يسمح له بان يلج داخل اصحاب الدخل المضمون، الذين يطلق عليهم اصحاب الطبقة الوسطى. ثم انه من جهة اخرى فان هذا المجتمع، في جانب منه، لا يحمل ثقافة مدنية، نتيجة ذلك الاقصاء الاقتصادي و المُدُني، و بالتالي يغلب عليه الطابع الريفي العصبوي. و كل تلك الحقائق، التي هي قابلة للجدل في جميع الاحوال، تجعل الاستنتاج التالي مبررا: من ان الاوضاع الراهنة بما انها كذلك، اي بما
ان هذا المجتمع لا يمتلك المقومات الاقتصادية و لا التنظيمية و لا الهووية اللازمة للدخول في صراعات المجتمع المدني، فان اي دخول له في ساحة المجتمع المدني، التي قلنا عنها انها ساحة صراعات مادية و منفعية، فانها ستجعل منه الطرف الاضعف في هذه الصراعات، خاصة اذا استذكرنا عملية الاستيلاء تلك، التي ستجري عليه نتيجة بعض ميزاته الطبيعية الوجودية.
و عله من الطريف ايضا مرة اخرى ان نذكر قول العلامة ابن خلدون، اذ قال، ان الجماعات المغلوبة هي دوما تابعة للجماعات الغالبة، و تحاول محاكاتها و تقليدها في كثير من الاحوال. و بلغة العصر نقول ان هذه التبعية، نظرا للاوضاع الراهنة، ستفضي الى استحالة العنصر الهووي و اماتة الروح الوجودية لهذه الجماعة.
٤-٢: الحفاظ على الوضع الراهن و المجتمع المدني
قلت في الفقرة الماضية، ان الدعوة الى مجتمع مدني، في ظل الظروف الراهنة، ستفضي لا محالة الى استحالة المجتمع «الاحوازي»، و خروجه مهزوما مترهلا من على وجه الوجود، و امحائه من التاريخ. و ما علي في هذه الفقرة، الا التذكير، على عجل، من ان هذه الفكرة هي في جوهرها، فكرة محافظة تريد اولا، الحفاظ على الوضع الراهن، من دون احداث تغيير جوهري فيه، و ثانيا، الحفاظ على جوهر الدولة و طبيعتها من دون نقاش جوهر قيامها و طبيعة عملها و آليات استمرارها.
٣: الاخير
و في حوصلة هذه الورقة يمكن القول ان فكرة، او بتعبير ادق دعوة (في اشارة الى اغراضها الايديولوجية) قيام المجتمع المدني، في مجتمع شاذ، قد فهم القارئ وجه شذوذه بعد هذا السرد، هي دعوة تصطدم امام ثلاثة معطيات جوهرية: معطى سياسي هو الدولة الوطنية و معطى اجتماعي هو حقيقة الاستيلاء في المجتمع المدني، و معطى هووي اقتصادي هو استحالة الناس فيه، لضعفهم امام قوة صراعاته و جاهزية خصومه. ثم بعد هذا، استرسلت بالقول، فاشرت، في النهاية، الى ان هذه الفكرة/الدعوة بحد ذاتها مشوبه باغراض ايديولوجية محافظة تريد استمرار الوضع الراهن بما فيه.
[1] . ارجو من القارئ النبيه، ان يلتفت الى ضيق مجالي، في تسمية الامور بمسمياتها، و لذك اخترت هذا التعبير، لما فيه من الوخز، عل القارئ يدرك ما اريد التلميح له.
مجلة نوابت