الإثنين, ديسمبر 23, 2024
دراساتموضع القبيلة في القضية الأحوازية: قبول بالعرض ومناهضة بالذات

موضع القبيلة في القضية الأحوازية: قبول بالعرض ومناهضة بالذات

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

 

المدخل

ليس من اليسير الحديث عن القبيلة في المجتمع الأحوازي، لا لتشعبها وصلاتها بمختلف الشؤون العامة والفردية فيه (المجتمع الأحوازي) فحسب، بل لأن المفهوم هذا بحد ذاته إشكالي بذي أوجه متشابكة. فهو مفهوم يرتبط من جهه بالبِنْيات القديمة الثاوية في اللاشعور الجماعي: بمنظومته القيمية، وهو من جهة أخرى ينافس بذلك القِدَمِ، جميع البنيات الحديثة التي تزاحمه وجوديا بأنواع التزاحم الحاصل من الهَبَّةِ الحداثية المفروضة على العالمين. تتناول هذه الدراسة أربعة محاور وهي كالتالي: القبيلة عند المواجهة مع الاحتلال، القبيلة في مناهضة البنى الحديثة، القبيلة والأنطواء والحفاظ على العروبة و القبيلة في عهد الجمهورية الإسلامية: ملتقى التقلدية.

ما القبيلة إذًا وما هي أبرز سماتها؟ هذا مدخل وجيز يحدد بعض صفاة القبيلة وسيماها العام، فضلا عن دورها… . وكل ذلك بالنظر إلى المجتمع الأحوازي الشاذ: بشذوذ وجود سلطة متفوقة فرضت عليه دولتها وتاريخها ولغتها إلخ، أي كامل ثقافتها وحضارتها.

لقد كان مَنْ أَوْلى أُولى الاهتمام بدور القبيلة في الحضارة العربية هو العلامة ابن خلدون، فضَمَّنَ مقدمته الشهيرة آراء شرح فيها دور القبيلة وآليات فاعليتها في التاريخ العربي والمجتمعات العربية[1]. لقد أَخَذَ ابن خلدون القبيلة على أنها العصبية، وعدَّ القبيلة قوة تتمتع بعصبية تشتد عند المواجهات مع الآخر، الآتي من خارج نطاق العُصْبَة والعصبية الخاصة بها، هي التي لعبت الدور السياسي الأبرز المفضي إلى قيام الدول وانهيارها.

إن القبيلة، وَفق ما يقول ابن خلدون، مجموعة من الناس يربطهم رابط النسب، الحقيقي أو الموهوم، يشتد بفعل طول المعاشرة، تحكمه روح هي التي تهب الجسد، جسد القبيلة، تهبه الحياة يعني بذلك العلاقة العصبية. وبذلك يتبين أن القبيلة هي مجموعة من الناس الذين تواجدوا في نطاق جغرافي معين، حصلت لها بفعل طول معاشرة أفرادها لبعضهم علاقة ورابط اسمه القبلية أو العصبية. وبناء على ذلك يصلح هذا التمثيل الذي يصف القبيلة بالجسد، والقبلية أو العصبية بالروح الذي يُنفح فيه. وإذا ما كانت القبيلة مجرد مجموعة من الناس احتموا بنطاق جغرافي هو من ربط بينهم بفعل طول معاشرتهم الذي نزل منزل الانتساب إلى جد واحد، وهمي أو حقيقي، فإن القبلية هي ذلك الرابط الذي يميز الأنا القبلية العامة هذه، التي قلنا عنها أنها تتجسد في وجود مجرد القبيلة، ويحدد (الرابط) كيانهم عند التصادم والتمايز بينهم وبين قبيلة أخرى لها قبليتها الخاصة بها[2].

نحن إذًا أمام مظهرين لحقيقة واحدة: القبيلة بوصفها مجرد جماعة يَحْيون في حيز جغرافي معين على طول الزمن الممتد بعشرتهم، وقبلية هي التي تميزهم كلما وقع عدوان على نطاقهم يحتمون عند الدفاع ضديده ويتناصرون، شعوريا أو لا شعوريا، بهذه القبلية التي تسري كالروح في دمائهم.

ماذا يفيد هذا الميز الخلدوني في التاريخ الأحوازي؟ يفيد هذا الميز بأنْ لا قبيلة من دون قبلية، ولا حياة للقبلية إلا عند المواجهة مع قبيلة أخرى لها قبليتها[3]. إذًا لا تعني القبيلة، بناء على ما يرشد إليه صاحب المقدمة، سوى مجموعة بشرية تنتمي إلى قرون بداية من الحياة البشرية، لا يشتدد الترابط بينهم إلا إذا حصل عدوان عليهم كجماعة صاحبة نطاق تعده خاص بها.

لكن ماذا سيكون مآل هذه القبيلة بقبليتها المشتعلة بفعل عدوان خارجي عليها، وهي صاحبة العدد القليل والعدة النزرة، ماذا سيكون مآلها إذا ما واجهت عدوانا ماحقا ليس في مُكنتها صده أو الظفر عليه؟ والعدوان هنا يعني قيمي ومادي. سيكون مآلها الانطواء على الذات وتحين الفرص المؤاتية التي تسمح لها بالبروز كرة أخرى. وبعبارة أوضح: فإنه إذا ما وقع عدوان على القبيلة الأحوازية يفوق مقدرتها، كالذي حصل أيام الحكم البهلوي في عهد رضا شاه، فإنها تظل منطوية على ذاتها، تحافظ على وحدتها الجوانية، ومبعدة نفسها كليا عن مصادمة هذا العادي المتفوق[4]. وفيما يلي من القول نركز الحديث على دور القبيلة وفاعليتها في التاريخ الأحوازي، محاولة لاستجلاء بعض أطورا القبيلة في الأحواز على ضوء ما تقدم.

 

القبيلة عند مواجهة الاحتلال

 لقد أبرز التاريخ الأحوازي في القرن التاسع عشر والعشرين، على سواء، بتقوقع القبيلة، إيما تقوقع، عند مواجهة الآخر الفارسي الذي أتى غازيا الأراضي الأحوازية، وخلع الأمير الأحوازي الذي كان يحكم البلاد؛ فبَدَل استيعابها الحدث المصيري الذي كان يختص بالأمة أجمع، أخذت القبيلة تتنفس الصعدا، عند اسقاط الحكم العربي عليها، ظنا منها بأنها سترجع إلى سابق معهودها من انعتاق عن قيد قانون وحاكم متفوقين يفرضا على استقلالها الذي اعتادته طوقا يحولها إلى حياة غير الحياة القبلية التي قوامها الانفلات من العُقُل[5].

لم يسجل التاريخ الأحوازي خروج القبائل على الحكم الفارسي الذي سرعان ما كشف مقاصده، وبيَّن مغايرته التامة مع تاريخها وعروبتها قبل كل شيء. وبعد انكشاف هذه الحقيقة في الحكم الفارسي الجديد، وعدوانه على القبيلة وعلى جميع المجتمع، واقعا وتاريخا ومستقبلا، انكفئت القبيلة لتعود إلى معتادها من الأنطواء والتقوقع على الذات عند مواجهة الغازي المتفوق وتحين الفرص للخروج مرة أخرى بكامل كيانها.

لقد كانت القبائل العربية الأحوازية، منطوية تماما على ذاتها، ولم تظهر من نفسها خروجا على الاحتلال الفارسي، وعلى الدولة البهلوية، بل ظلت تعيش في انقطاع عن العالم، فضلا عن الدولة الفارسية: فهي لم تشارك في بناء الدولة الإيرانية التي كان يقوم عليها الفرس، لا مشاركة بالرفض ولا بالقبول. بل ظلت معتكفة على ذواتها لا تدري من شأنها شيء[6].

على أن مثل هذا الانكفاء كان يتبدد على الفور حال تدخل العنصر الأمني الفارسي إلى ساحة فرض واقع معين على القبيلة: فهنا عندما يريد الاحتلال فرض سياسة معينة وامضائها، كان يعمد في مثل هذه الحالات إلى شيوخ العشائر والقبائل، ليضمن ولاء اتباع الشيخ للسياسة الفارسية المطلوبة، ويكتسب ضمانات تنص على عدم مناهضة رجال القبيلة إلى سياسة بحد ذاتها يريد النظام تنفيذها.

وإذا ما كان هذا واقع القبيلة منظورا إليها من الخارج، من زاوية علاقتها مع السلطة الفارسية الناشئة الغازية، فإن النظر إليها من الداخل يظهر تصرفات أدهى من ذلك. فلقد كان الأمير القَبَلي، الذي بدوره لم يكن متحررا من المنظومة القبلية وطرائق تعاملها مع الآخرين: مع القبائل الأخرى، يحكم هو الآخر بمنطق الشيخ الذي تغلب على باقي الشيوخ من أضرابه في السلطة المعنوية والسند القبلي، يتصرف تصرفا لا يمت إلى تصرف صاحب الدولة والأمة بصلة[7]. لقد كان التنافس القبلي هو السائد في فترة الأمير خزعل، سواء بين عشيرته بني محيسن، ونظارئهم في الجاه آلبوكاسب، أو بين بني كعب كقبيلة ومنافسيهم في السلطة في شط الكرخة أو إمارة آل كثير أو شط كارون. فكانت إمارته مرتع المنافسات بينه وبين هؤلاء وبين كل شيخ يقوم بالمطالبة.

على أن هذا الواقع لم يكن من صُنع أنفسهم هؤلاء فحسب، بل إنهم كانوا محكومين بالمنظومة القبلية وما تفرضه من عدم اعتراف بالآخر الآتي من خارج نطاق قبَليتهم، حيث كان آخرا يجب عدم السماح له بالملك وحصول الخيرات. إنها رؤية كونية، على قد كون القبيلة وأصحابها، لا تسمح بتصرف أممي وسيع الأطر يتوخى بناء أمة أو دولة[8]، مثلما سنرى في فقرة مناهضة القبيلة للروح الحديثة.

لقد كان يتدرج هذا الصراع وعدم الاعتراف بالآخر عند القبائل في التاريخ الأحوازي بشكل يجعل المجتمع الأحوازي مجتمعا متشرذما إلى أبعد الحدود: لقد كانت القبيلة المتفوقة في شط الكرخة[9] تخرج على إمارة الشيخ خزعل كلما حدثت بلية طبيعية تربك وضع الأمير، مثلما كان الأمير لا يترك فرصة إلا اغتنمها من أجل ضرب البيوتات صاحبة الرياسة في هذه القبيلة. ومن جهة أخرى كانت هذه القبيلة بدورها تصارع القبائل الأقل شأنا وعددا في نطاق شطها، شط الكرخة، فتتصرف معهم تصرف الأمير خزعل: تربك وضعهم الداخلي، وتهيج المشخيات فيها ضديد البعض، وتزاحمهم في مصادر رزقهم وتقوم بتهجيرهم إلخ. وهذه الحال هي ما كانت سائدة في باقي الشطوط والمناطق الأحوازية.

على أن القبيلة بدورها، وفي جوانيتها وبطانتها، كانت هي الأخرى متشرذمة الطبقات بتقسيمها الناس إلى تسلسل هرمي: أعلاه الشيوخ ثم الأجاويد ثم أصحاب الأرض ممن لديهم أراض زراعية صغيرة يعيشون عليها ثم الرعاع وعامة الناس. وهذا واقع جعل القبيلة، بحكم تاريخها وواقعها وبنياتها وطرائق التصرف فيها إلخ، جعلها بنية تتموضع في المجتمعات البدائية غير صالحة للاستمرار في العام الحديث[10]، فضلا عن استمرارها في الدولة الإيرانية التي هي في طور بناء الأمة والدولة الخاصة بها تكتب التاريخ الخاص بها، أو تزييفه بالحري، وتتقدم في التأريخ لفنها وفلسفتها(؟) وأدبها وباقي أوجه حضارتها[11].

 

القبيلة في مناهضة البنى الحديثة

إن واقع القبيلة، مثلما قلت، جعلها بحكم تاريخها وواقعها وبنياتها، جعلها بنية تنتمي إلى المجتمعات البدائية التي هي خارج التاريخ. إن القبيلة تناهض العصر الحديث ومأتياته على عدة أصعدة. تناهضه على صعيد ممانعتها تكوين الفردانية، وتكوين الأمة، وإقامة الدولة، فضلا عن صعيد القيم الحديثة.

فعلى صعيد الفردانية تمانع القبيلة ببنيتها تلك التي تقسم الناس إلى شيخ وعامي، أو شريف ووضيع، وتجعل الفرد غير متمتع بحقوق لمجرد إنسانيته. إن العقل الحديث عقل يهب مكانة كبيرة للفرد، ويجعله المحمل الذي يصنع العالم ويتحصل المعرفة به منه، دون أي قيّم يوجه فاعليته أو يحد من نشاطه[12]. لقد كشف العالم الحديث منذ التشكيك الديكارتي أن جميع الأطر القَبْلِيَة المسلفة لا يمكنها الصمود أمام التفكير الفردي، وإن أي انتماء وممانعة من جانب القيم والعادات والتقاليد والدين إلخ تعني إماتة الذات البشرية الأصيلة، التي هي عاقلة، منعها من تسيير الحياة العامة مواكبة مع مرور الأعصار والدهور[13].

وبما العقل الحديث أثبت بجدارة تمتع الذات البشرية بعقل منعتق عن أي قيّم، كما يفيد بذلك الفيلسوف كانْتْ، فإنه حري وخليق بالحرية، الحرية بأوسع مفاهيمها والزاماتها: لا يمكن الحد ولا الحط من حرية البشر الفرد، لأنها ليست نيلا من حقوقه ومكانته المتفردة بين العالمين فحسب، بل لأنها تخالف ذاته العاقلة، التي تستوجب التحرر من أي قيد لإتمام التفكير وتعقل الآخرين والعالم الخارجي وحصول المعرفة عنه.

وإذا أخذنا هذه الملاحظات الجد وجيزة عن العقل الحديث فلا نحتاج نمضي طويلا حتى نستكشف مناهضة القبيلة بعقلانيتها لكل تلك المسلمات الفلسفية. فهي لا تعترف بحق الأفراد كأفراد إلا إذا انتموا إلى نسبهم وحسبهم، حيث لا مجال لمضاربة عقل الشيخ مع عقل فرد موضوع في هوامش التسلسل القبلي داخل قبيلته وبين قراباته. وبالمثل فإن القيم التي تحكم القبيلة إذا كانت لا تساوي بين عقل رجل شريف وآخر وضيع، فإنها لا تساوي بين الرجل عموما، وبين المرأة. ومن هنا تلك القيمة الأبوية القاتمة في القبائل حيث تسقط فيها المرأة إلى أدنى المراتب الإنسانية، لا تؤخد إلا بوصفها شيئا أو ممتلك يُملك بناء على عِظَمِ الساق أو ميلادها الرجال بدل البنات. وهذا أكبر تبعات الروح القبلية سلبا على المجتمع الأحوازي إذا حشر نصف المجتمع في حيز اللافعل إلى هامش الإبعاد والطرد، وبذلك انحرم المجتمع عن نصف قواه العمرانية، مثلما يأتي بعد قليل.

إن هذه الأبوية التي تناهض الفردية، منظورا إليها هنا من زاوية المرأة وحياتها الهامشية في الأسرة الأحوازية والمجتمع الأحوازي، انعكست على مختلف الحياة الثقافية في الأحواز: فإذا ما نظرنا تواجد المرأة في المجتمع الذي تسيطر عليه الدولة الإيرانية، وجدنا المرأة العربية الأحوازية أضعف تماسكا وأقل تشخصا من الرجل الأحوازي ومن المرأة الفارسية أيضا. ومن أجل هذا الضعف في بنية شخصية المرأة الأحوازية تقع هي فريسة ركيكة أمام عملية التفريس، على سبيل المثال لا الحصر، وتتبدل بفعل هتك المنشأ البطريريكي في أسرتها إلى أحوال فارسية. وإذا كانت المرأة تعني رب الأسرة وفق مكانتها اليوم، فإن عملية التفريس، شاهد الكلام، ستعني حينها انعكاس تلك العملية على الأبناء الذين تنجبهم المرأة الضحية الأبوية هذه، ما يعني من جهته انعكاس  ذلك على كافة أفراد الأسرة وتعميمه إلى المجتمع.

وهكذا يتسربل حتى يتعمم هذا التسلسل الهرمي القبلي الجاري في القبيلة، بميزه بين العلية والسوقة من جهة، والرجال والنساء من جهة أخرى، إلى نطاق المجتمع، فترى المجتمع لا يعني التكوين من عدة أفراد وجماعات ذات روابط متشابه، قد تكون طبقة[14] مثلا، حتى تتوج فاعليته في صناعة أمة وإبرازها، بل يظل المجتمع الأحوازي عبارة عن مجموعة من القبائل محكومة بنطاق القبيلة وتعاملها، سواء برز هذا النطاق القبلي في التعامل اليومي أو ظل في حالة الكمون سرعان ما يشتعل بحكم وقوع صراع بين فردين ينتميان لقبيلتين مختلفتين، وهكذا يكون هذا الصراع فاتحة للعداون على جميع الحياة الفردية: من أمن، وقانون ومنظومة تشريعية، ومختلف المظاهر الخاصة بالمجتمع العصري، بلْه الحديث.

لقد تخلف المجتمع الأحوازي في صناعة مفهوم الأمة الأحوازية، بفعل عدة مسببات، تقف على رأسها القبيلة، لأن الفرد والجماعة ظلوا يحددون أنفسهم وهوياتهم على أساس الانتماء القبلي، ولعبت القبيلة بجدارة ذلك الدور الهووي، وصبغت الأفراد والجماعات بصبغتها وكامل رؤيتها. فأصبحنا بذلك لا نتحدث عن أمة عربية أحوازية بل الحديث بات يدور عن ابن من أنت وإلى أي قبيلة تنتمي. ونتيجة لذلك انحرف التاريخ الأحوازي تمام الانحراف عن السير الطبيعي في صناعة الأمة، وتوجيه الأفراد والجماعات فيه إلى وجهات أشمل من وجهة القبيلة الضيقة، حتى بات الركب الحضاري الأحوازي نحو التقدم، ركبا يسير بالقبيلة إلى حيث ألقت، لا إلى وجهة ينتج عنها تاريخا يختص بأمة محددة. وصحيح أن هناك إرهاصات ظهرت ولا زالت تظهر تشير إلى نواة عربية أحوازية، بيد أن هذه الإرهاصات الوضاءة لم يكتب لها النجاح، ولم تتحول بعد إلى خطاب مهيمن هو الذي يسير بتاريخه ويسجله.

وإذا كان المجتمع الأحوازي مجتمعا شاذا مشوها قد شوهته القبيلة بفعلها ونشاطها، فإنه تبعا لذلك لا يمكن التوقع من هكذا مجتمع القدوم نحو بناء دولته القومية الخاصة به، لأن مقومات تلك الدولة ليست متوفرة في الحالة الأحوازية، حتى إنْ أدى ارتباك الدولة المركزية وتدخل النظام الدولي إلى ميلاد فدرالية بين القوميات الإيرانية، وعلى رأسها العرب، أو استقلالها كليا.

إن الرؤية التي لا تمتد إلى أفق يتعالى على القبيلة، تمانع كليا النظر إلى مجموع القبائل الأحوازية من زاوية إطار موحد تجتمع فيه الكافة تحت ظلال العروبة أمام آخرها الفارسي الغازي، بل ظل هذا الكيان، كما أشرت في الفقرة الأولى، ينظر إلى الإطاحة بالأمير خزعل، في تلك اللحظة التاريخية المصيرية، العودة إلى التحرر من طوق الانقياد والانتكاص إلى الوضع الفوضوي السابق. إن أولى مقومات نشوء الدول هي تقدم الفكر القومي وتوطيده، غير أن الفكر القومي هنا في الأحواز ظل مغيبا بين أوساط المجتمع، بالتزامن مع تلك العملية الواسعة التي قادتها الدولة الإيرانية لتزوير التاريخ ونكران عروبة الأحوازيين وإنسابهم إلى قوميات مصطنعة.

لقد ظل الفكر الذي ينبثق عن التفكير في الدولة، والمبعوث من هاجس صناعة الأمة، ضعيفا في الفكر الأحوازي، ولذلك لا نرى في التاريخ النضالي الأحوازي تكوين إيديولوجيا واضحة المعالم والأطر تحث أفرادها على بث تعاليم مبنية على طرائق صناع الدولة. إن مثل هذا التكفير ظل في حيز اللامفكر فيه، وظل الفكر الأحوازي وعقله لا يستوعب كيفية صناعة الدولة، بل إنه كان وما يزال ينادي بدولة عربية أحوازية كلما اشتدد صراعه، في فترة ما من فترات الزمن الممتد من عمر الدولة الإيرانية، اشتد ضديد الفرس. أما في حالة خبو ذلك الصراع فلم يصدر عمل جاد يمهد الطرق لبناء تلك الدولة: وليس اعتباطا، على ضوء ما تقدم، عد إزالة القبيلة من المجتمع الأحوازي أولى شروط قيام الدولة العربية الأحوازية المنشودة.

 

القبيلة والانطواء والحفاظ على العروبة

بينت الفقرات السابقة الدور السلبي الواضح للقبيلة وما جنته على الوضع الأحوازي ماضيا وحاضرا. وفي هذه الفقرة نحاول بإيجاز التطرق إلى الإيجابيات التي قد تكون تمخضت عن وجود القبيلة. يقول أحد العلماء أن استمرار الدوائر القديمة في الحياة يثبت أن فيها من الجدارة التي سمحت بديموتها وتأديتها أدوارها القديمة. أجل هذا قول صائب، في شق، وغير مكتمل في شق آخر: هذه الدوائر القديمة جديرة بالاستمرار ليس لأنها جديرة فقط، بل لأن الواضع المعيش والمستوى الحضاري لم ينجح في تقديم دوائر جديدة تزاحم فتزيح تلك القديمة من مقدرة لعب دور اعتادته، وسَلْب مكنتها عن تقديم السند المواكب للحياة. إن ما نقصده هنا هو أن القبيلة في الأحواز بما فيها من إيجابيات، والحديث في هذا القسم عن الإيجابيات، فهي حصيلة التخلف الذي سمح لإيجابياتها في البروز والاستمرار، لا لأنها صاحبة طاقات تجعلها صالحة لجميع الفصول.

إننا نشهد بأن الأفراد، إذا جاز الحديث عن الفرد والأفراد في القبيلة والإطار القبلي، الذين ينتمون إلى القبيلة يتمتعون قوميا بلغة عربية آكد، وعادات عربية متأثلة، وتمظهرا عربيا صريحا، ومنظومة قيمية قبلية أرسخ. فعلى صعيد اللغة العربية والتشبع بها وبمفرداتها وطرائق التعبير فيها نجد العربي القبلي يتحرك في فضائها الرحب تحركا سليما، وهو ممتلء بقوة في التعبير فيها، لم يستطع التعليم الفارسي، الذي ينأى عنه هو بكل تأكيد، النيل من عروبته، وسلامة التعبير والجمل فيها. فإذا ما قورن بنظائره من باقي فئات الشعب العربي الأحوازي، خاصة مع المتعلمين الذين لا ينتمون قوميا إلى العروبة انتماء واعيا بل انتمائهم حدوسي غير واع، وجدناه حينئذ عربي التعبير، يستحضر أمثلة وتراكيب عربية متوارثة جيلا عن جيل من آبائه. وهنا يستقي الفرد القبلي هذه القوة في العروبة، عن انقطاعه عن الفرس من جهة، وعن ذلك الحفاظ على استيراث القديم وتداوله بين الأبناء عن الآباء.

إننا نشهد بوضوح أن الحصة الكبيرة في الحفاظ على اللهجة الأحوازية التي هي مدخل العروبة الفصحى للأحوازيين إنما هي من حظ القبيلة وأفرادها، فهم الذين يستذكرون حدوسيا ومن دون وعي أو بوعي مموه لغتهم الدارجة من جهة، وهم من جهة أخرى بأهازيجهم وشعرائهم وتقاليدهم القاضية بإظهار قوة الكلام عبر استخدام المصطلح والتراكيب القديمة حافظوا على اللغة من دون شك. لكن إذا ما كان الفرد الأحوازي يتمتع بلهجة أحوازية أكيدة، وهو في ذلك التمتع محل تقدير، فهو في مقابل ذلك يعاني من ضعف فاحش في الفصحى لا يستطيع التعبير بها ولا فهم مغاليقها، وهو في ذلك محل قدح ومنقصة.

ثم إلى جانب ذلك فقد حافظت القبيلة بأفرادها على العادات العربية، أي الأوجه الخاصة بالثقافة العربية. وهنا يشتمل هذا الحفاظ على الممادح والمقابح. فهنا إذا ما كانت القبيلة قد استمرت في الحفاظ على عدة عادات تتفرد بها الثقافة الأحوازية في بعض مظاهر الحياة، نظير عادة تشييع المتوفى بـ”الأهازيج” و”الهوسات” العربية الأحوازية، فإنه بالرغم من عد هذه المظاهر إرثا انثروبولوجيا للقبيلة فضل الحفاظ عليه، لكنها بالوقت ذاته أبقت التصارع على هذه المظاهر قائما على أشده. وإذا تمعنا في المثل السابق ذاته عن عادات تشييع المتوفى: وجدنا حينها القبيلة في حيثة المراسم الخاصة بدفن الموتى تتصارع على عادة قديمة اسمها “الزيان”، وجعلته مظان للتصارع والتآمر، وهكذا هي تجمع في بطانتها المناقضات.

أما على مستوى القيمة القبلية فإنها حافظت على القيم الخاصة بها: خاصة تلك التي تقدم الرجل على المرأة وجعل الجنس الرجولي أعلى من مخالفه. وهذه شهيد آخر على أن الحفاظ على العادات القبلية لا يعني اشتماله على الأمور الإيجابية فحسب، كما قلنا، بل إن ذلك قد تم بغثه وسمينه على سواء.

ونلخص القول في الإيجابيات التي اشتملت عليها القبيلة والقبلية الحافظة لها، بأن ذلك الحفاظ على العروبة نطقا ولهجة، وذلك الاستمرار في العادات والرسوم، إلى جانب المواظبة على التمظهر بالزي العربي إلخ، مما يعد من محاسن القبيلة، لم يتم بوعي منها، وبدافع الحفاظ على الكيان العربي في الصراع ضديد الآخر الفارسي الغازي، كلا بل ذلك الحفاظ على مختلف التمظهرات العربية التي تم من جانب القبيلة جاء نتيجة لغياب مؤسسات ودوائر تؤدي دورا يحافظ على تلك المواريث الحضارية برؤية حديثة وفي إطار أخذ الآخر بعين الحساب. وإذا عبرنا عن ذلك بصورة أخرى يمكن القول حينها أن القبيلة حافظت على عروبتها من دون أن تعلم أهمية العروبة وأن تعي الزاماتها، ولذلك نجدها عند التصادم مع غير العربي لا تحتمي بالعروبة، بل تحتمي بالقبيلة مفدية في ذلك كل العروبة وجوانبها الحضارية غير المختصة بالنعرات القبلية، من مثل الثقافة والتاريخ والإنجاز العربي إلخ.

وهذا بالتحديد هو ما يعكس السبب الكامن ورا دور الشيوخ في التعامل مع الأمن والسلطة الفارسية، حيث لبعض شيوخ القبائل دورا لا غبار عليه في التعامل مع الأمن، خاصة أيام الانتخابات واستدعاء الشيخ لضمان أصوات قبيلته لمرشح بحد ذاته، غالبا ما يكون ينتمي إلى التيار المتشدد من السلطة الإيرانية. وكان هذا الدور يتم على أشده عند الأمور الأمنية والتعامل الجار على قدم وساق بين الزعامات القبلية والأمنية الفارسية.

إن ذلك الوجه الظلامي لدور الشيوخ في الأحواز له شواهد عديدة في التاريخ المعاصر. فقد كانت السلطة البهلوية، خاصة إبان أيامها الأولى، خاصة في عهد رضا شاه، التي كانت تعاني من ضعف القوى العسكرية، تستغل القبائل لضربها ببضعها واتقاء شرها عبر سياسة فرق تسد التي كانت تنفذها السلطات الإيرانية، مثلما يشرح ذلك بإسهاب يرواند إبراهاميان في كتابه الحفيل[15].

 

القبيلة في عهد الجمهورية الإسلامية: ملتقى التقليدية

إنه إذا ما كانت القبيلة في العهد البهلوي تستغل من جانب السلطة الإيرانية في إطار سياسة فرق تسد، تُقْدم فيها السلطة الإيرانية على ضرب القبائل ببعضها اتقاء لشرها، وممانعة لتشكيل مجتمع عربي موحد وأمة عربية تتوخى قيام سلطة خاصة بها، فإن حلول عهد الجمهورية الإسلامي سرعان ما صالح القبيلة، وتماهى معها، عبر التقليدية التي كانت تحتمي بالاثنين معا، بالقبيلة السائدة في الأحواز وبالسلطة الدينية – الشيعية القائمة على الدولة. لقد التقت القبيلة، ملتقى تصالح، مع الجمهورية الإسلامية في التقليدية، المتجلية في الأبوية، والقول بالنظام التسلسلي التراتبي، على حساب الفرد، والاحتفاء بالمذهب، وتقديس الأسرة.

فعلى صعيد الأبوية تعد الجمهورية الإسلامية سلطة لا تهب مكانة للمرأة، وتُعلي في موازة ذلك من شأن الرجل وتهبه سلطة في المجتمع لا تقترب منها سلطة المرأة إن كان لسلطتها في هذا النظام محل إعراب. فبناء على معتقدات الجمهورية الإسلامية الرجال قوامون على النساء، يرثون ضعفي إرثها، ولهم حق الطلاق وتعدد الزوجات وإنهم أصحاب الدخل الاقتصادي الخاص بالأسرة، ولهم يعود حق تقرير شؤون المرأة العامة من إذن للسفر، والخروج من نطاق البيت ونحو ذلك من الأمور الفردية. إن الرجل هنا لا يعني أبا بالمجاز، بل إنه أب بالكناية، أي أنه هو القوام على الشأن العام في الأسرة، وفي المجتمع والدولة تبعا لذلك، وعليه فإن المرأة تصبح عالة عليه، ليس لها من إدارة الشأن العام سوى طاعة البعل أي الرجل. ومن هنا المسير معبدا، في النظام الأبوي، إلى تصوير الحاكم على أنه الأب للرعية ولجميع الأمة الواقعة تحت سلطانه[16]. إن المرأة هنا غير مكتملة العقل، وهي من ضمن أولئك الذين يجب توجيههم، وهي عورة يجب أن يسهر الرجل على إرشادها ضمانا لها من السقوط في خوارم المروءة الخاصة بالرجل أولا وأخيرا. ومن هنا خَرْم العقل الحديث، بجعل العقل عقلان: عقل خاص بالرجل وهو المكتمل، والعقل الخاص بالمرأة وهو الناقص.

وإذا كان الأمر بالنسبة للبشر ينقسم أو ينشطر إلى عقل مكتمل هو عقل الرجل ثم الأب، والعقل الناقص وهو عقل المرأة، فإنه يصبح من البدهي تكوين نظام تراتبي يقسم الأفراد في المجتمع إلى عِلْية وإلى عوام، تتوسطهما مراتب. ومن هنا تؤدي التقليدية، مشترك نظام الجمهورية الإسلامية والقبيلة في الأحواز، إلى نشوء نظام قائم على ترابت الأفراد فيما بينهم، يتربع على هرمه الرجل الأب، وتتقوقع في دنيا مراتبه المرأة وبناتها. إن أولى سمات التقليدية هي أخْذها التراتب والتفاضل بين البشر أخْذ المسلمات، إذ تصفه بأنه نابع من الطبيعة البشرية، وليس صنيعة الحالة البشرية الوضعية، ونظام السلطة الذي يفاضل بين فاقديها وأصحابها. وتكتسي الفروق البشرية هنا وصفا طبيعيا، حيث يعد الاختلاف بين أبناء البشر، خاصة بين الرجال والنساء، نابعا عن طبيعتهم أنفسهم، وينظر إلى دورهم المجتمعي على أنه نابع من طبيعة كل منهم.

وبناء على ذلك تتقدم التقليدية بعد إثباتها، حسب ظنها، تفوق المرأة على الرجل ومن ثم بناء مجتمع تراتبي يسري فيه تفاضل بين الناس، تتقدم فتدخل الدين مساندة للمعطي الطبيعي، فيصبح حينها الرجل هو صاحب العقل التام، وهو من يجب أن يقود ويرشد، وهو بتعزيزه من الدين والمذهب الشيعي يصبح رجلا أبا مجتهدا يحكم باسم الدين[17]. أجل إن المسلمات المذهبية للفكر الديني في الجمهورية الإسلامية والقبيلة الأحوازية على سواء، هي بالتحديد تسري وفق هذا الترتيب المنطقي المشار إليه: الرجل صاحب العقل التام، الذي يتقدم الهرم المجتمعي، ويتحصل على مرجعية دينية له حق الحكم. ولذلك كله يماثل الشيخ في القبيلة هذه الأدوار، ويرى في نفسه هو الرجل التام العقل الذي يحرص كأب حنون على سلامة كيان القبيلة والحفاظ على وحدتها من الشطط. ومادام الأمر كذلك فلا ضير أن يفتدي بالنساء للحفاظ على وحدة القبيلة: وحدة الرجال، فيقوم بمنح ابنته أو عدد من نساء القبيلة تحت طائل “الفصلية” اتقاء لمصادمة تودي بحياة مزيد من رجال القبيلة. إنه هنا بالتحديد، من العقل الأبوي، يجب التماس تفسير لظاهرة الفصلية، كإحدى تجليات سحق المرأة في المجتمع الأحوازي.

على أنه وإن كانت التقليدية تمنح الرجل مكانة سامية بناء على منظومتها الفكرية والقيمية، لكنها لا تمنح هذه المكانة له كفرد، وبالتالي لا تقر بالفردانية حتى إنْ كانت للرجل، بل هي تمنح الرجل مكانة كأب للأسرة ومعين للإرشاد فقط، لأنها تقدس الأسرة، وهذا التقديس يفهم الأفراد لا على أنهم أفرادا بحد ذاتهم، بل إنه يفهمه في إطار العلاقة التي يمثلونها في المجتمع، والدور الذين يؤدنه في اتصالهم بالجماعة: وهذا التقديس للأسرة لا يجعل الزواج، على سبيل المثال لا الحصر، علاقة قوامها الحب أو اختيار الفرد، بل هو أولا وأخيرا قنطرة للإنجاب وتداوم النسل. ومن هذا الأمر بالتحديد يأتي ذلك العداء الهستيري للعلاقات المنعقدة خارج مفهوم الزواج لأنها علاقات نابعة أولا عن الفرادنية والخيار الفردي، وثانيا لأنها علاقات قد تعبث بالتوارث والتناسل وبالتالي تزعزع قداسة الأسرة.

 

الإستنتاج

تناولت الدراسة هذه دور القبيلة في المجتمع الأحوازي، فصدرت القول بمدخل وجيز مفاده أن: القبيلة هي بالدرجة الأولى قوة للمواجهة ضديد الآخر الذي يتجاوز على نطاقها، في حالة تكافؤ المتصارعين، لكنها عند التصادم مع آخر متفوق القوى، تخرج عن حالة المواجهة وتتخذ موقف الانكفاء والكمون والانطواء. إنها بذلك تتحول إلى مجرد دائرة تتحين الفرص للبروز بتأثيرها على أفرادها. ثم بعد هذا المدخل جاءت الفقرة الأولى: القبيلة عند المواجهة مع الاحتلال بينت أن هذا التراجع والانكفاء للقبيلة هو ما تحصل في التاريخ الأحوازي، وأن جموع القبائل العربية في الأحواز، ما إن غزاها رضا شاه حتى تراجعت وتقوقعت على ذاتها، وتركت الساحة للدولة الإيرانية الناشئة، بجيشها الذي لم يستعد بعد، تعمل ما تشاء وتنفذ ما تريد من سياسات. على أن المعطيات التاريخية الأحوازية لا تشير إلى انكفاء القبيلة في هذه الفترة فحسب، بل إنها تشير إلى أن الواقع القبلي في المجتمع كان يساعد السلطة الإيرانية على تنفيذ سريع للسياسات الاستعمارية عبر ضرب القبائل ببعضها واتخاذ سياسة فرق تسد: إن التمهيد البنيوي والحضاري لهذه السياسة فهو ينبثق عن ذلك الاستعداد الكامن والظاهر في القبائل لمناجزة بعضها وتحاربها ضديد جيرانها.

ومن هنا، من واقع الدور التاريخي للقبيلة في الأحواز، وهو دور لم يعي سوى عالمه القبلي، جاءت الفقرة الثانية: القبيلة في مناهضة البنى الحديثة، تبين أن القبيلة هي بما فيها من منطق داخلي، وما تتمظهر فيه من دوائر جوانية، في نقيض من الدوائر والبنى الحديثة، ويتجلي هذا التباين بين القبيلة والبنى الحديثة على ثلاث مستويات: الفردية، والأمة، والدولة. وقلت أنه لا يمكن تشكيل فردية، بأي معنى من المعاني بلْه المعنى الحديث، داخل القبيلة التي لا تعترف لا بفردية رجالها ولا بمساواة تقدر الكل في مرتبة واحدة. ثم إنها تعارض الأمة بالمثل، فهي لها معنى خاص من الجماعة لا يتعدى إلى مفهوم الأمة، بل أمتها هي قبيلتها فقط. وبما أن الفردية معدومة في القبيلة، والأمة غير كائنة ولا متحصلة، فبدهي أن لا تنشأ دولة، ولا فكر قومي ينادي بدولة، في مجتمع قوامه القبيلة.

أما الفقرة الثالثة: القبيلة والأنطواء والحفاظ على العروبة، فجاءت تتناول أوجه الإيجاب في القبيلة، ولما أخذت تعدد إيجابيات القبيلة: من حفاظ على العروبة لغة، والمظاهر العربية، والعادات والثقافة العربية بصفة عامة، فتبين أن ذلك الحفاظ، وإنْ سلمنا بوجوده، لم يكن عملا واعيا منها، بل تم لأن منطقها الداخلي يحتم عليها القيام بمثل هذه الأدور، حبا بذاتها، وسعيا للحفاظ على وجودها، وليس وعيا بالعروبة ولا بالثقافة العربية.

وعند معاينة الأدورا التاريخية للقبيلة، في الفقرة الأخيرة القبيلة في عهد الجمهورية الإسلامية: ملتقى التقلدية، انكشف واقع جديد في عهد الجمهورية الإسلامية، هو واقع التصالح الحاصل بين الجمهورية الإسلامية والقبيلة، وهو تصالح قامت به التقليدية، لأنها مشترك القبيلة في الأحواز والجمهورية الإسلامية معا. وقد التقت القبيلة في أربع مواضع مع التقليدية التي هي معين الجمهورية الإسلامية: الأبوية، والنظام التسلسلي التراتبي، والمذهب، وتقديس الأسرة.

بقلم ميثاق محمد

المصادر:

 

[1] . أستعير هنا آراء ابن خلدون في المصدر الآتي: عبدالرحمن بن محمد بن خلدون، المقدمة، تحقيق علي عبدالواحد وافي، دار نهضة مصر، الطبعة السادسة، ثلاثة أجزاء، مصر 2012.

[2] محمد عابد الجابري، فكر ابن خلدون، العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ العربي الإسلامي، مركز دراسات الوحدة العربية، عدة طبعات.

[3] . ومن هنا بالتحديد يتبين فساد تلك الأطروحة التي ينادي بها المتعلمين من ضرورة الإبقاء على القبيلة ومحاربة القبلية!

[4] . مصطفى انصاري، تاريخ خوزستان: دوره خاندان كعب وشيخ خزعل، ترجمه محمد جواهر كلام، نشر شادكان1396.

[5] . راجع المصدر المتوفر لدينا هذا: جان كوردن لويمر، تاريخ خوزستان، ترجمه محمد جواهر كلام، انتشارات كوير 1390.

[6] . عبدالنبي قيم، بانصد سال تاريخ خوزستان: نقدي بر كتاب احمد كسروي، نشر اختران، تهران 1390.

[7] . مصطفى عبدالقادر النجار، عربستان خلال حكم الشيخ خزعل، الدار العربية للموسوعات، بيروت2015.

[8] . . محمد نجيب بوطالب، الظواهر القبلية والجهوية في المجتمع العربي المعاصر: دراسة مقارنة للثورتين التونسية والليبية، المركز العربي للأبجاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، بيروت: 2012.

[9] . أتجنب ذكر اسمها لعدم إثارة الحساسيات المستمرة إلى يوم الناس هذا!

[10] يرواند آبراهاميان، مقالاتي در جامعه شناسي سياسي ايران، ترجمه سهيلا ترابي فارساني، تهران1390، صص56-107.

[11] . اصغر شيرازي، ايرانيت مليت قوميت، انتشارات مؤسسه فرهنكي هنري جهان كتاب، تهران1401.

[12] . مهدي استعدادي شاد، دانايي وفرديت، انتشارات كام نو، تهران 1399.

[13] . أدونيس، الثابت والمتحول: بحث في الإبداع والإتباع عند العرب، دار الساقي، بيروت 1994.

[14] . إن الحديث عن الطبقة في تاريخ المجتمع الأحوازي سيكون موضوع دراسة مقبلة، تعقب هذه الدراسة، يقوم بنشرها معهد الحوار الموقر.

[15] . يرواند آبراهاميان، ايران بين دو انقلاب، ترجمه احمد كل محمدي ومحمد ابراهيم فتاحي، نشر ني، تهران عدة طبعات.

[16] . هشام شرابي، النظام الأبوي: وإشكالية تخلف المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2012.

[17] . حسين بشيريه، ديباجه اي بر جامعه شناسي سياسي ايران: دوره جمهوري اسلامي، انتشارات نكاه معاصر، تهران 1381، ص117 وما بعدها.

"الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لموقع معهد الحوار للأبحاث والدراسات"



error: Content is protected !!