السبت, مايو 18, 2024
دراساتالحرس الثوري  الإيراني: بين الواقع والتهويل

الحرس الثوري  الإيراني: بين الواقع والتهويل

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

المدخل

حدد المؤرخ الإيراني يرواند إبراهاميان في كتابه “إيران بين ثورتين” أن النظام الملوكي البهلوي كان يستند في بقائه على ثلاث ركائر: هي النظام البيروغراطي، وشبكة العلاقات الخاصة بالبلاط الملكي، والركيزة الأكبر والأخيرة الجيش، وهي موضوع الحديث هنا. ويسترسل المؤرخ هذا فيقول إن حدوث الثورة الإيرانية في العام 1979 لم يغير من واقع هذه الركائر إلا ما كان من البلاط، بعد أن خُلع الملك وتغير النظام السياسي من الملكي إلى الجمهوري[1].

والواقع هو إن معاينة الوضع الراهن من النظام الإيراني يظهر استمرار هذه الركائز الثلاث كلها، والاكتفاء بتغيير أسمائها: فقد ظل النظام البيروغراطي على حاله يمارس نوعا من الرقابة على المنتسبين لهذا الجهاز، بالإضافة إلى استخدامه من قبل النظام الإيراني كقناة يتم من خلالها انتقاء العناصر الموالية التي تعمل في جميع الظروف على استمرار النظام، وشحنه بمجموعة عقدية قيمية تصب في تعزيز تقديس النظام. أما شبكة العلاقات الخاصة بالبلاط فهي الأخرى شهدت تغيرا صوريا ليس إلا: فلقد استبدال باسم البلاط “البيت”، مقصودا به بيت المرشد، حيث سَهِرَ البيت هذا من جهته، خاصة في فترة المرشد الراهن في العقدين الأخيرين، على بسط شبكة من العلاقات في جميع أجهزة الدولة، حتى زاحمت هذه العلاقات وظائف رئاسة الجمهورية وأصبحت تمثل دولة داخل دولة[2].

أما الجيش وهو موضع الحديث هنا، فهو الركن الثالث من مجموع الركائز والأركان التي عليها أقيم نظام السلطة الإيراني في جميع عهودها. لكن الجيش في عهد الجمهورية الإسلامية شهد انشطارا بينا، نتيجة الانشطار الذاتي في الجمهورية الإسلامية، فهو انقسم إلى قوتين هما الجيش المعروف لدى جميع البلدان، والحرس الثوري الذي هو قوة عسكرية مهمتها عقدية بالدرجة الأولى[3].

ومن هنا بالتحديد نريد نحدد موضع الحرس الثوري في النظام الإيراني، واستكشاف موقعه الواقعي في متاهة أركان النظام السياسي الإيراني، على ضوء ما حدث أخيرا من حدث إعلامي مفاده وضع الحرس في قائمة الإرهاب الأوروبية. ولا تخلو الأخبار الداخلية في وسائل الإعلام الإيرانية عن الأنشطة المتعلقة بالحرس الثوري في شتى المجالات، الاقتصادية على وجه الخصوص والسياسية والعلمية والفنية وتطول القائمة. وكان آخر هذه الأخبار التي أخدت بعدا دوليا واسعا، هو ميل الاتحاد الأوروبي نحو إدراج الحرس الثوري الإيراني في قائمة الإرهاب، وفرض عقوبات إثر ذلك عليه وعلى قادته. وبعد هذا الأمر تحركت الحكومة الإيرانية على شتى المجالات، خاصة منها الوعيد الإعلامي لثني الإتحاد الأوروبي عن ذلك، بالتزامن مع سرد قائمة من الخطوات التي ستتخذها حال تم ذلك، لا تخلو من سد مضيق هرمز كما أعلن نائب المرشد في الصحافة حسين شريعتمداري.

ولذلك بات السؤال الملح هو التالي: ما هو موقع هذه المؤسسة العسكرية في الدولة الإيرانية؟ ثم لماذا جعلت الدولة الإيرانية سياستها الخارجية ترتكز على الحرس الثوري، وفيلق القدس، غير آبهة بالتبعات الكبيرة من جراء ذلك على كافة الاقتصاد وبالتالي المجتمع والسياسة في إيران، حتى بدت السياسة تلك رهينة الحرس؟ ألا يعني هذا أن الحرس هو المسيطر على السياسة في إيران؟. هذان سؤالان يشكلان المحورين الرئيسين في هذا المقال.

 وتكون الإجابة عن السؤال الأول هي: إن موضع الحرس الثوري، في بادي الأمر، يبدو موضعا استثنائيا، خاصة من حيث الجوانب الاقتصادية، حتى يبدو أنه يشكل اقتصادا قائما بذاته، يتمتع باستقلال تام عن  اقتصاد الدولة. ولكن حقيقة الأمر هو أن هذا الدور الاقتصادي الكبير لا يعود للحرس بحد ذاته، وإنما هو دور نابع عن طبيعة الدولة الإيرانية، التي تتميز بوجود مستويين من السلطة: سلطة المرشد ومصدرها الدين، وسلطة رئيس الجمهورية ومصدرها الشعب. ولذلك فأي دور يتمتع به الحرس فهو دور مقيد بأمر المرشد. أما الإجابة عن السؤال الثاني هي: إن ارتهان السياسة الخارجية بالحرس الثوري، لا يجب أن يُفهم في مكانة الحرس وبالتالي سيطرته على قرار السياسة الخارجية الإيرانية، وإنما يجب البحث عن ملابسات فهم المرشد للأوضاع الدولية، من جهة، والتطلعات الثورية الكامنة في طيات فهمه للعام ورؤيته الكونية من جهة أخرى.

 

موضع الحرس الثوري في بنية الدولة الإيرانية

شهد تاريخ الحرس منذ تأسيسه على يد خميني، عام 1979م ، نقطة تحول كبيرة في عهد الرئيس أحمدي نجاد، عند ما أسند إلیه الرئيس الجديد أهم الملفات الاقتصادية، مبررا ذلك “بدور الحرس الحيوي في الحرب ونجاحاته في تسيير أمور الدولة على أفضل شكل”. وبعد هذا التوجه وقعت وزارات عديدة بقبضتهم: نظير وزارة “الطرق وتخطيط المدن” التی تتولى المواصلات البرية والبحرية والجوية على المستوى الداخلي والدولي، إلى جانب الإشراف التام على التوزيع العقاري العام وشؤون الإسكان. ووزارة “الثقافة والإرشاد الإسلامي” التي ترسم الخطوط العامة للتوجه الفكري في عموم المجتمع. على أن هنا وفي شرح طريقة توزيع الوزارات في بنية الدولة الإيرانية، يجب الإشارة إلى أن بعض الوزارات، منذ تأسيس النظام، تدخل مباشرة في حيز مراقبة المرشد، وبالتالي فهي تخضع له بطبيعة عملها: من أهمها وزارة “الشؤون الخارجية”، التي يشرف عليها المرشد مباشرة، و”وزارة الدفاع”، و”وزارة الداخلية”، و”وزارة الاستخبارات”(التی هي فرع من شبكة استخبارات معقدة: أهم مؤسساتها هي استخبارات “وزارة الاستخبارات” و”استخبارات الحرس الثوري” و”استخبارات الجيش” و”استخبارات الشرطة” بدرجة أقل). فهذه الوزارات السيادية تصب في صلب اختصاصات المرشد، باعتباره الولي الفقيه الذي يرسم السياسات العامة للبلاد داخليا وخارجيا، والقائد العام للقوات المسلحة، وحافظ الأمن العام في عموم الدولة.

وصحيح أن طبيعة التوزيع الوزاري في بنية الدولة الإيرانية، المشار إليه هنا، تُظْهر الحرس الثوري مؤسسة ضمن المؤسسات الخاضعة لإمرة الولي، شأنها شأن وزارتي الداخلية والخارجية، غير أن توالي الأحداث في تاريخ هذا النظام أعطى الحرس مكانة فاقت جميع منافسيه. فقد ظهر الحرس الثوري، في جميع المنعطفات التاريخية الخطيرة، خاصة في أحداث العام 2009م التي منحت الرئيس نجاد ولاية رئاسية ثانية، الحارس الأمين فعليا على بقاء النظام، واستمرار قيادته في الحكم، حتى لو تطلب ذلك “خوض حرب طاحنة”، حسب تعبير القائد العام السابق للحرس.

لقد كانت هذه المظاهرات العارمة نقطة مفصلية بالفعل في حياة الحرس، نقطة منحته المكانة التي كان يبحث عنها في قلب المرشد الأعلي والقائد الفعلي للدولة. والمظاهرات هذه كانت تعني بعين المرشد أمرين رئيسين: أولهما النيل الشخصي من قيادته للنظام الإسلامي، وبالتالي إظهاره قائدا فاشلا لم يفلح في الحفاظ على نظامه: وتموضعه في مكانة ملوك كأحمد شاه ومحمد رضا بهلوي “الطاغوتين المخلوعين” في رأيه؛ وثانيهما عَقَدي اعتبر تلبية مطالبات المتظاهرين خضوع من المرشد، وهو الولي الإسلامي، وتفريط منه بالدولة الإسلامية الشيعية، وسماحه بتفككها أو تخليها عن الطابع المذهبي بأفضل الأحوال[4].

وبعد نجاح الحرس في وأد هذه الانتفاضة الكبرى التي شملت جميع البلاد وعصفت بالنظام برمته، حتى شكلت انشطارا بين قيادات النظام، وقسمتهم إلى فسطاطين: فسطاط المرشد وأحمدي نجاد والحرس ومن دار في فلكهم، وفسطاط ميرحسين وكروبي ورفسنجاني ومن ناصرهم، بعد هذا النجاح الذي أثبت ولاء الحرس التام، لم يكن على المنتصر إلا مكافئة اليد الضاربة التي استجلبت له النصر.

وهكذا أصبح الحرس صاحب أهم الوزارات، مثلما سبق القول، والممسك بتلابيب الاستخبارات العامة، متفوقا على الجيش الذي اتخذ موقف الحياد في هذه الأزمة، تفوقا في الموازنة وتوزيع المناصب وجميع غنايم النصر. على أن تفاقم مكانة الحرس لم تقتصر على نيل رضا المرشد فحسب، بل إنه (الحرس) بات يطالب بدور أكبر، وأخذ يفاخر بالدور الذي لعبه في الحفاظ على النظام، بالمقارنة مع المؤسسات الموالية الأخرى التي لم يصل تأثيرها في حصول النصر لتأثير الحرس. وهكذا اشتملت المكافئة جانبين رئيسين: اقتصادي وسياسي. فمن حيث الاقتصاد كانت نقطة الذروة الاستحواذ على وزارة الطرق وشركات كبرى سيتم ذكرها بعد قليل، ومن حيث الجانب السياسي كان استلام وزارة الثقافة، ليتعزز بذلك الجانب المادي بالجانب الروحاني العقدي.

 

أهم المؤسسات المالية التابعة للحرس الثوري

اسم المؤسسة القيمة الإجمالية (ملیار دولار) نسبة أسهم الحرس
قاعدة خاتم الأنبياء ؟ 100 بالمئة
شريكة الاتصالات الإيرانية 45  100 بالمئة
مصفاة أصفهان 2.1 100 بالمئة
مصرف مهر 7 100 بالمئة
مصرف بارسيان 19 100 بالمئة
مؤسسة ثامن الأئمة المالية 6 100 بالمئة
مؤسسة قوامين المالية 850  مليون دولار
مصانع مباركه للفولاذ 3 100 بالمئة
مصانع صدرا البحرية 1 100 بالمئة
مجموعة بهمن لصناعة السيارات ؟ 100 بالمئة
معادن الفولاذ انكوران 2 100 بالمئة
مصرف صادرات و ملت وتجارت ؟ 10 إلى 15 بالمئة
شريكة غدير للإسثمار 1.5 100 بالمئة
شريكه مهر اقتصاد للإستثمار ؟ 100 بالمئة
صناعة البتروكيماويات الإيرانية 800 مليون دولار 60 بالمئة

 

وهكذا يتبين عما سبق أن الحرس الثوري يحتل مكانة اقتصادية استثنائية في بنية الدولة الإيرانية، يجعل منه جهة اقتصادية يضاهي نشاطها الاقتصادي نشاط الحكومة الإيرانية بكليتها، خاصة أن الحرس له الحق في ممارسة النشاط الاقتصادي ليس في الداخل فحسب، بل إن تحكمه بوزارة الطرق تخوله النشاط في الساحة الدولية أيضا. كل هذا النشاط الاقتصادي، يجب أن لا يبعد عن النظر المكانة الخطيرة التي يحتلها الحرس بوصفه جيشا منظما أولى مهامه، كما يظهر على اسمه حرفیا: “جيش حرس الثورة الإسلامية[5]“، الحراسة عن الثورة الإسلامية، بشتى الوسائل التي يشرعها المرشد مذهبيا، وإن تطلب الدفاع العمل على تصدير الثورة أو إخماد الاحتجاجات الداخلية إلخ.

ولقد استمر الحرس في لعب دور أداة القمع الهادفة غاية يتيمة: هي الذب عن النظام والحفاظ على الحكم، في المظاهرات الأخيرة التي سميت بإنتفاضة المرأة، بيد أن مقاربة الحرس هذه المرة تجنبت المصادمة المباشرة، بل سير الحرس بدل ذلك بذلك القوات المسماة بمرتدي “الزي المدني” لكبت المظاهرات، وهم دون جهاز الشرطة واستخبارات الجيش كان الساهر على مراقبة الجموع المتظاهرة في هذه الانتفاضة، ومن فتك بالمحتجين في شتى المدن الإيرانية الخارجة. فهنا أيضا أظهر الحرس الثوري ولائه التام للمرشد، بالرغم من ذلك الكلام الإعلامي الذي يتحدث عن حصول خلافات بين قيادات الحرس حول طريقة التعامل مع المتظاهرين. ذلك أن جميع القيادات العليا كانت طائعة لما يرومه المرشد من وأد الانتفاضة والتصدي لها بالمقاربة الأمنية المعتادة.

هذا فيما يتعلق بالسؤال الأول الذي كان يسأل عن مكانة الحرس الثوري في بنية الدولة الإيرانية. وتكون الإجابة عنه بأنها مكانة كبيرة استثنائية، خاصة بالجانب الاقتصادي الذي بات يضاهي النشاط الاقتصادي للحكومة بكاملها. أما بخصوص الإجابة عن السؤال الثاني (لماذا جعلت القيادة الإيرانية السياسة الخارجية رهنا بالحرس) فتكمن إجابته في إكمال الصورة الخاصة بمكانة الحرس الثوري اقتصاديا، ثم بيان مكانته سياسيا.

 

الحرس الثوري: جُند الفقيه المرشد ومقلدو المراجع

  إنه إذا ما كان الحرس الثوري، كما سبق القول، يحتل مكانة استثنائية اقتصاديا، فإن هذه المكانة لا تنحصر فيه نظريا على الأقل. وذلك أن الاقتصاد الإيراني، الفريد من نوعه، يشهد في جوفه نشاطا موازيا يتعلق بتلك المؤسسات الخاضعة لإمرة الولي الفقيه مباشرة، ليس في مكنة الحرس مزاحمتها، ولا في مكنة الحكومة الإيرانية التدخل في عملها؛ لأنها داخلة في ساحة عمل المرشد حصريا[6]، لا يتطاول عليها حتى الحرس الثوري بمكانته الاستثنائية هذه: وهذه الجهات هي “بنياد مستضعفان”، و”منظمة الوقف الإسلامي”، و”منظمة الحج”، و”مؤسسة الإسكان”، و”منظمة كوثر الاقتصادية”[7]، بوصفها أكبر المنظمات المعلن عنها. وكل هذه المؤسسات لها الإمكانية التنظيمية التي يجعلها صالحة تماما للعب دور الحرس الاقتصادي، لو شاء المرشد استبدالها بالحرس، وانتزاع المؤسسات الاقتصادية التي يديرها الجنرالات منهم.

وهكذا يتبين أن الموضع الاستثنائي للحرس من حيث الاقتصاد، موضعا استثنائيا مشترطا بشرط عدم مزاحمته لمؤسسات الولي الفقيه. وبهذا المعنى تكون هذه المقدرة الاقتصادية الكبيرة، هِبَة ومكافئة من رأس السلطة، لم تتحصل من استقلال الحرس أو تماسكه التنظيمي، ولعبه دورا موحدا يحكمه القائد العام ويُسير الخطوط العامة لسياساته، كما هو الشأن في الجيش المصري مثلا، أو في أيام حكم الجنرالات في تركيا وباكستان[8].

على أن هذا الموضع يبدو عاديا أكثر كلما اقتربنا إلى الجانب السياسي العقدي، حيث يبدو أقل بريقا مما هو عليه في جانبه الاقتصادي. فصحيح أن الحرس يتمتع بذراع عقائدي نشط هو منطمة التعبئة “البسيج”، بيد أن أهم مشرع في الجانب العقدي، وبالتالي السياسي، يبق رجال الدين وحدهم[9]، دون غيرهم: ويتمثل هذا الدور السياسي والعقدي الحصري برجال الدين (والبعيد عن تناول الكافة)، في بنية الدولة، في جانبين نظري وعملي:

فمن حيث الجانب النظري فدولة الجمهورية الإسلامية هي دولة دينية مذهبية، يشتق الحكم فيها في عصر الغيبة عن الإمام الغائب الذي لا ينوبه سوى المجتهد المرجع، حائز الشروط اللازمة لتولي المنصب، وفق ما يحدده الفقيه الشيعي. لذلك فلا يمكن أن يكون الحكم شرعيا إلا إذا كان على رأس السلطة فقيها شيعيا يتولى منصب ولاية الفقيه[10]. وغني عن القول أنه لا يمكن لأعظم جنرال في الحرس أن يفكر في نيل هذا المنصب، ما دام لم يتحصل على تزكية الفقهاء المراجع تدل على أنه الفقيه المجتهد الصالح لتولي منصب الولاية. وهذا أمر يكاد يكون مستحيلا كما سبق القول. وكل ذلك يعني أن الولي الفقيه شرعيا ليس له حاجة بحند أو حرس أو نحو ذلك، إنما مصدر شرعيته السماء وحدها.

أما من حيث الجانب العملي فهو ترجمة للجانب النظري هذا، حيث الترتيب البيروغراطي في تسيير مؤسسات الحكم، يثبت تفوقا لا غبار عليه لرجال الدين على كافة أعضاء الدولة: رئيسا كان أو وزيرا أو جنرالا إلخ[11]. وبما أن الحديث هنا يدور عن مكانة الحرس من حيث الجانب السياسي، فيبدو دوره السياسي تابعا لجهات ثلاث إلى حد الخضوع: السلطة القضائية الغير عسكرية الواقعة تماما بقبضة رجال الدين، ومؤسسة أئمة الجمعة في المحافظات، وإدارة الأمور العقدية السياسية داخل معسكرات الحرس.

 إن المحاكم المعنية بمحاسبة تخلف جنود الحرس ليست المحاكم العسكرية، كما هو الشأن في جيوش العالم والجيش الإيراني من ضمنهم، بل يتم إحالة هذه القضايا إلى قاض متخرج من الحوزة العلمية، هو من يبت بالقضية الجنائية الصادرة عن جنود الحرس. أما إمامة الجمعة التي يشرف عليها المرشد مباشرة، وتتكون من المجتهدين من الصف الأول والموالين له بالمطلق، ممن يتم إرسالهم أو اختيارهم في المحافظات الإيرانية، فإن مهمتهم هي إنابة المرشد في أمر الدين وما يتفرع عنه. ويحظى إمام الجمعة بمهابة كبيرة في نفوس الحرس الثوري ضباطا وقيادات عليا، وله من السطوة ما تفوق القائد العام للحرس في كل محافظة وهو الوحيد الذي له المكانة في تغيير قائد الحرس إن حظى برضا المرشد (على أن المفارقة تكمن في أن قائد الحرس في كل محافظة له تاثيرا كبيرا على اختيار إمام الجمعة من جهته. وهذه قد تكون من الأمور التي تدل على طريقة إدارة المرشد للمؤسسات الخاضعة له). وبالإضافة إلى مكانة إمام الجمعة، فإن أي فيلق من فيالق الحرس الثوري، يشتمل على مؤسسة في داخل معسكره تسمى “إدارة الأمور العقدية السياسية”، يرأسها رجل دين، مهمتها هي مراقبة الجانب العقدي والسياسي للضباط والقواد من الحرس. ولهذه الدائرة من الكلام النافذ الذي يصل، في كثير من الحالات، حد عزل القائد العام للفيلق، في حال ثبوت انحراف عقيدته وآرائه السياسية. وكل ذلك يعني أن الحرس الثوري سياسيا، نظريا وعمليا، فهو لا يعدو أن يكون مشتملا على جنود المرشد المخلصين، ومقلدو المراجع الشيعة.

أما من حيث التركيبة الحزبية وجماعات الضغط، فيتموضع الحرس هنا مرة أخرى في وسط القائمة، قائمة الجهات السياسية المترصدة لنيل أعلى مراتب السلطة، كرئاسة الجمهورية والبرلمان وباقي الوزارات والمناصب العليا: فعلى رأس هذه القائمة يأتي المجمع الآخوندي المناضل، وجماعة بايداري القريبة من المراجع في قم، ونحو ذلك من الجماعات السياسية التي تكسب القوة في نشاطها، أولا وأخيرا، من مستوى اقترابها من رجال الدين المراجع[12].

 

الخاتمة

حاول هذا المقال التوكيد على تبيان مكانة الحرس الثوري في بنية النظام السياسي الإيراني الراهن، وتبيان موضع الحرس أنه ليس كما يروج له في الإعلام الممسك بتلابيب الحكم، حيث إننا لنسا أمام حكم إسلاموي إيراني يحكمه العسكر، بل تبين أن الحرس الثوري هو جهاز إلى جانب الأجهزة الإيرانية الأخرى، خاضعا تمام الخضوع لمنويات طبقة رجال الدين، لا يستطيع منافستهم ولا الخروج عن طاعتهم لسببين رئيسين: أولهما ديني: لأن النظام الإيراني لا يسمح بالحكم تداولا إلا بين المرجعيات الشيعية، وهو نظام منبثق عن الرؤية السياسية الشيعية، وثانيهما هو تبعية مكانة العسكر اقتصاديا لمِنَحٍ يهبها المرشد الأعلى للجهاز الأكثر طواعية وتقيدا بأوامره ونواهيه.

ومن أجل كل ذلك تبقى المكانة الصحيحة للحرس هي تلك المكانة التي تضعه إلى جانب المؤسسات الكثيرة والكبيرة التابعة للمرشد ورجالات الدين من بعده، ممن له الإمرة المتحصلة على سند شرعي على جميع مفاصل النظام السياسي. ومن هنا من التنبه لمكانة الدين ومن ثم المرجعيات الدينية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية يجب التماس الموضع الحقيقي للعسكر.

 

 

هيثم حمودي

 

المصادر

 

[1] . Ervand Abrahamian, Iran between Tow Revolution.

[2] . راجع في ذلك: حسين بشيريه، موانع توسعه سياسي در ايران، كام نو، تهران 1380.

[3] . أنظر حول انشطار السلطة في الجمهورية الإسلامية، على جميع الأصعدة والأجهزة الحكومية، الانشطار الذي ينم عن ثنائية مصادر الشرعية في هذه الحكومة: حسين بشيريه، ديباجه اي بر جامعه شناسي سياسي ايران: دوره جمهوري اسلامي، نكاه معاصر، تهران 1390.

[4] . واستحضار هذه الجوانب في التحليل، أي الجانب الشخصي والعقدي، لا يعني قط الشطط في التحليل، بل إن تتبع خطابات المرشد الراهن، إلى جانب حكايات الأشخاص المقربين منه، تفيد بوضوح أن الرجل يضع نفسه تاريخيا في مصاف ملوك أو قيادات نظير شاه عباس الصفوي وخميني. وهو على الدوام يأخذ الجانب التاريخي على محمل الجد في اتخاذ قراراته، من حيث اهتمامه بكيفية تناول التاريخ لشخصيته بوصفه “قائدا شجاعا”؛ المفردات الأكثر تكرارا في جميع خطاباته.

[5] . سپاه پاسداران انقلاب اسلامی

[6] . بهمن احمدي اموي، اقتصاد سياسي جمهوري اسلامي ايران، نشر بارسه، تهران 1400.

[7] . وللمرشد مصادر اقتصادية أخرى تدخل في مفهوم “حق رهبري” أي “استحقاق المرشد” من جميع المصادر الاقتصادية الطبيعية وغير الطبيعية. مثلما له الحق في السحب من الذخائر السيادية للبلاد، والتصرف في موازنات الوزارات الخاضعة له، المشار إليها، خاصة موازنة الجيش والأمن وإلخ.

[8] . علر رضا ازغندي، ارتش وسياست، نشر قومس، تهران 1374.

[9] . مصباح يزدي، نكاهي كذرا به نظريه ولايت فقيه، مؤسسه آموزشي بزوهشي امام خميني، قم1388.

[10] . محسن كديور، نظريه هاي دولت در فقه شيعه، نشر ني، تهران 1387.

[11] . حسين بشريه، ديباجه اي برجامعه شناسي ايران: دوره جمهوري اسلامي، نشر نكاه معاصر، تهران 1397.

[12] . احزاب و جناح هاي سياسي ايران امروز، عباس شادلو، نشر وزرا، تهران1392.



error: Content is protected !!