تمهيد
إن ذكر مفردة «الفشل[1]» في هذه الدراسة، جاء بشكل واع، مخالفة منه لحياد المنهج العلمي الذي يتوخى أكبر قدر من الموضوعية في تناول الأفكار والظواهر. إنها محاولة إيديولوجية تريد المساهمة في استكشاف مواضع الخلل، ظنا منها بأنها هي البداية الصحيحة لتفادي تكرار الأخطاء التي أودت إلى التخلف شبه التام في إصابة الغايات[2]. ولقد قمت قبل البدء بكتابة هذه الدراسة بتجربة مقتصرة هي التي سوقت ضبط هذه المفردة في العنوان: فقد سألت عددا من الأشخاص، المتعلمين وغير المتعلمين، عن الأحزاب والحركات الأحوازية، خاصة تلك منها الناشطة في الخارج، هل يعرفون عددا أو أيا منها، وإنْ على حد اسم؟ فكانت إجابة هولاء الذين نيف عددهم على الخمسين بلا.
ويمكن أخذ هذه النتيجة من تلك التجربة المقتصرة، التي يمكن تعميمها بسهولة، كسبب من أسباب الإخفاق عند التنظيمات والحركات والأحزاب، ظهر في التخلف عن نيل المقاصد، وعدم التقرب إلى الشارع الأحوازي.
المدخل
إن الأحزاب السياسية، في أول الأمر، هي مولودة من رحم الديمقراطية[3]، وهي خاصة من خواص النظام الديمقراطي، أي ذلك النظام الذي تتداول فيه سلطة الدولة، بين نخبة حاكمة ونخب أخرى مترصدة لإصابة الحكم ونيل الحكومة. وهذا مثلما لا يخفى، لا يتأتى إلا في نظام تعددي يقرر في دستوره العام مبدأ تداول السلطات. ويتبين عن ذلك على الفور أن من أولى مهام الأحزاب وميزاتها أنها تشكيلات منتظمة غايتها القصوى، المسوقة لوجودها، هي السعي في القبض على الحكم[4]. ولذلك فإن تواجد الأحزاب في الأنظمة الشمولية والاستبدادية لا يعدو أن يكون تعبيرا عن حالتين: إما أن يكون الحزب في هكذا أنظمة هو الحزب الأحادي الحاكم بعينه، أو أن يكون الحزب أو الأحزاب المتواجدة صورية خالية المضمون لا تأثير لها على ساحة أرض الواقع.
وبناء على ذلك يكون تعريف الحزب هو ذلك التنظيم الذي يسعى الحصول على الحكم في الدولة، في نطاق الدستور القائم، متوسطا هكذا بين المجتمع والقوى الاجتماعية السياسية، وبين الحكومة والسلطات القائمة. وإذًا فذلك يعني، في الحالة الأحوازية موضوع الدراسة هاته، أن كل تنظيم اتخذ من تسمية «الحزب» عنوانا له، فهو مقر بنطاق الدولة الإيرانية القائمة، أو إنه يعمل في نطاق الدستور الخاص بالجمهورية الإسلامية.
أما الحركة فهي مفهوم يختلف بميزات مهمة عن مفهوم الحزب، في أن الحركة تنبثق عن انتفاضة عارمة، أو مطالبات شاملة، تكتنف جماهير كبيرة، يوحدهم الجنوح نحو فكرة جامعة. ولذلك فالحركة هي أشمل من الحزب والتنظيم، حيث يمكن أن تعمد لتتبع غاياتها على تشكيل أحزاب وتنظيمات مختلفة، اجتماعية وقانونية وعسكرية إلخ[5]. ويسهل العثور على مثل هذه الأحزاب والحركات في التاريخ الأحوازي النضالي على طول كفاحه ومحتلف تغلباته[6].
وبعد هذا التحديد الجزئي للمفاهيم التي ستتكرر في هذه الدراسة، فهنا لابد من التصريح بأن الحد الزمني الذي بَحثَتْهُ الدراسة هذه يبدأ من قيام الحرب الإيرانية ضديد العراق لغاية الآن. وتتناول الدراسة جميع الحركات والأحزاب التي نشطت في هذه الفترة دون ذكر أسمائها تجنبا للدخول في سوءفهم يضر أكثر من نفعه. على أن هذا لا يعني قط إهمال تاريخ الحركات منذ بداية عملها. ولقد حَددْتُ أسباب ركاكة العمل التحرري في الأسباب الفردية، والأسباب التنظيمية، وخَتَمْتها بالأسباب البنيوية: بشقيها الاجتماعية والسياسية.
وفي نهاية هذا المدخل فحري بي التصريح بأن جميع الأسباب التي ستُذكر تظل من لدنَّاتي، منبثقة عن معاناتي اليومية في الكفاح ضديد المحتل، وللقارئ الحق التام برفض جميع ما أقول، أو قبول بعضه. فمثلا عندما أسمح لنفسي بالتصريح بأن الحركات الأحوازية فشلت في إدراك تأثير العمل الإعلامي، وتخلفت عن فهم الثورة المعلوماتية التي فرضت نمط حياة جديد على العالمين، حين ما أقول ذلك مستشهدا في العمل الإعلامي للحركات وأقدره بأن عمل متواضع خال عن كفاءات مِهْنية وصحفية، فلمن يرى في هذا الرأي حكما متعسفا الحق التام بدحض كلامي بالقول: إن العمل الإعلامي حقق نجاحات في بعث الشارع الأحوازي على الخروج، خاصة عند وقوع الانتفاضات، فضلا عن أنه كشف العديد من العملاء للجهات الأمنية… وهكذا فجميع ما بُحْتُ به هنا هو محل رفض أو قبول.
1
الأسباب الفردية لفشل النشاط التنظيمي الأحوازي
تتموضع الأسباب الفردية في العمل التنظيمي موضع التقدم والأساس. ذلك أن أكبر ما يميز الحَرَاك التنظيمي أنه يبدأ على يد تلك النخب التي تمتلك فردانية متميزة بوعي ذاتي، تهتم بما يحوط بها اهتمامها بذواتها. فالعمل التنظيمي، أولا وأخيرا، هو عمل نخبوي يحتل العنصر الفردي فيه، خاصة في البدايات، محل القلب. وعادة ما يتطور هذا العنصر الفردي، في إطار العمل النخبوي، إلى إطار تنظيمي هو الذي يصنع كتلة تاريخية تأخذ على عاتقها تسيير الأحداث وقيادة الظرف[7].
وهذا هو واقع حال العمل التنظيمي في الأحواز، حيث عمد عدد من النخب، منذ أن تم احتلال الوطن في خواتم 1924 وبدايات 2015، على تشكيل حركات رافضة لوجود القوات الفارسية على الأراضي العربية، وتغيير الحكم من الحكم العربي إلى الفارسي الذي يذعن للسلطة المركزية الإيرانية بقيادة رضا بهلوي.
ونظرا لحد الدراسة زمنيا بفترة الحرب الإيرانية ضديد العراق لغاية اليوم (وإنْ وضعت نصب العين الأحوال العامة للحركات منذ بداية العمل التنظيمي)، فإننا يمكننا أن نلخص العنصر الفردي التنظيمي الأحوازي بالخصال التالية:
-
ضعف الوضع الاقتصادي
لقد كان الحرب الذي خاضه إيران ضديد العراق بالرغم من كونه كان فرصة تاريخية للأحوازيين لتحقيق مكاسب قومية كبيرة، وجِدُّ كبيرة، ضربة مؤثرة على أوضاعهم المعيشية الاقتصادية؛ حيث أجبر الحرب هذا الكثير من الأحوازيين، خاصة أولئك الذين كانت مناطق سكناهم تحايث جبهات القتال، أجبرهم على ترك موطنهم، وبالتالي التخلي عن مواضع تحصيل أرزاقهم. وهذا كما يبدو بدهيا انعكس فقرا على معظم المهجرين إِثْر الحرب، وجعلهم غير متمتعين بمصدر رزق قار.
لكنه حتى عقيب انتهاء الحرب تلك، ظل معظم الشعب الأحوازي، خاصة النخب القومية منه، مطرودا من الدولة الفارسية، مكبوتا عن الاستمتاع بخيراتها وثرواتها. وإذا أخذنا بعين الاعتبار من أن الاقتصاد الإيراني، حتى عهد قريب جدا، كان اقتصاد دولة قائم على أساس ما تتيحه من منع أو منح، أدركنا حينها أن الطرد من التطاول على خيرات الدولة، سيعني للمطرودين حتما الفقر والحرمان.
وصحيح أن عددا غير قليل من هولاء النخب المفقرين على يد نظام الاحتلال، كان ولا يزال يرفض العمل في الدولة القائمة من مبدأ إيمانه بأن العمل معها سيعني التطبيع مع دولة غير شرعية وبالتالي خيانة الأمة، ولكن ذلك لا ينفي أن الفرد القومي التحرري ظل ضعيف البنية الاقتصادية، مهددا على الدوام ببهرج التمتع بالمال والتحرر من قيد الفقر المذل. وإذا ما قرأنا هذه الحالة من زاوية سيكولوجية فحينها يمكن القول أن استمرار الفقر في الفرد الأحوازي، بعد ما أصبح متوارثا جيل بعد جيل بفعل استمرار الاحتلال، فإنه تحول إلى عقدة نفسية، يعاني الفرد الأحوازي المناضل منها، ما جعله عرضة لفتك هذه العقدة به، وبالتالي الذهاب به إلى حيث فر منه: وهو افتداء القيم القومية بمال نزر أو طائل ينجيه من وقع هذه العقدة.
ومن هذه النقطة بالتحديد يمكن البحث عن أثرات الفقر في تصرفات الأحوازيين وأخلاقهم: فعندما اصطدم الأحوازي بمال كبير: سواء عندما أصبح نائبا بتصويت الاتجاه القومي له، أو ذا منصب رفيع في الحكومة، في الحالة الداخلية، أو عند ما تحصل على دعم مالي خارجي، في حالة الحركات النشطة في الخارج، صدم بالأموال هذه التي لم يرى مثيلا لها من قبل، واستيقطت فيه عقدة الفقر، ففتك به وجعلته يستغل الرفاق المنضالين من أجل الظفر بأكبر قدر من تكويم الأموال. وهنا تترى الروايات التي للكل تجربته معها، بل معاناته منها، تتحدث عن مسخ القيم، وإهمال القضية، وسلوك أخلاقيات غريبة أخرى، إثر ارتباك الأحوازي المناضل الفقير بمال فتنه إلخ.
ولهذه العقدة النفسية مظاهر عديدة منها، على سبيل المثال لا الحصر، وجود معاطب في العقل المادي التنظيمي: لقد ظلت العقلانية الاقتصادية التنظيمية الأحوازية أسيرة تيقظها (العقدة)، فالكثير من العناصر التنظيمية ظلت تقدر الدعم المالي الذي تحصلت عليه من جهات مختلفة، حقا لها، لها الخِيَرَة في التصرف به، منحا أو حجبا، سواء تعلق الأمر بالشؤون الحزبية أو الأغراض الفردية. وغني عن القول التصريح بأن هذه العقلانية تنأى كل النأي عن العمل المنظم والعقل الجماعي.
-
الركاكة العلمية
ومن المظاهر الأخرى التي تكثر بين النشطاء الأحوازيين، عامتهم وخاصتهم، هي أنهم لا يتمتعون ببنية ثقافية علمية، مدعومة بتعليم جامعي رفيع المستوى. وذلك يظهر في مستوى التعليم لديهم، حيث أن الرعيل الأول المقاوم يكاد يكون أميا، بينما الأجيال المتتالية لم يتجاوز مستوى تعليمها الثانوية. أما الأجيال التي أعقبت الحرب المذكور، وهم موضوع الحديث هنا، فبالرغم من تحصل عدد منهم على شهادات جامعية، تبقت بصيرتهم الثقافية لا ترتقي إلى مستوى يسمح لهم بكتابة تاريخ للأحواز أو صناعة إيديولوجيا إلخ.
أما الجيل الراهن من النشطاء، هو الآخر، بالرغم من حصوله على شهادات عليا، في بعض الحالات التي ليست بكثيرة لكنها تُذكر، بالرغم من ذلك ظل هذا المتعلم مذبذبا فيما بين ترك الالتزام العلمي، وبالتالي الانصهار في القضايا الفارسية أو الحكومية، أو ترجيح ضبط الأمور المادية على الالتزام النضالي، بالنسبة للمناضلين في الخارج.
ثم إننا إذا ما نظرنا إلى العامل في الحركات الأحوازية في الخارج، نجد القليل منهم اهتم بتحسين مستوى تعليمه، في ظل اتاحة الفرص والامكانيات الوفيرة في الغرب، بل ظل على مستواه القديم، وانهمك في أمور يومية، ليس فيها مجال للتطور العلمي. ويبلغ هذا التردي في المستوى التعليمي أكثر صراحة في قضية اللغة: فإن عددا كبيرا من الأحوازيين لم يستطع اتقان لغة البلد الذي استقبله، وقَبِل طلب لجوئه لسنوات طويلة، ومن تعلم منهم ظل بمستوى متدن لم يسمح له الكتابة بلغة البلد المستضيف، فضلا عن المكنة الواجبة لارتياد الجامعات. ثم إن جانبا كبيرا من هذه الحالة، حالة الجهل اللغوي الصراح، كانت لدى مثل هؤلاء الأفراد في الوطن، حيث كانوا لا يتقنون لغة الفرس أيضا، تزامنا مع جهلهم باللغة العربية، في حالة تجعل منهم إلى الأصم أقرب.
وعلى العموم يعني اتقان الكتابة والقراءة واستخدام لغة البلد المستضيف المناضلين الأحوازيين، يعني استخدام منابر هذه اللغات الأوروبية من أجل إيصال صوت القضية إلى أكبر عدد من المتلقين في هذه البلدان المكينة، وما ينعكس عن ذلك من مكاسب تأتي على شكل ضغوطات لمنع الهتك الإيراني بالأسرى، والحد من القتل بلا رقيب مما تمارسه السلطات الإيرانية بحق العرب، والحصول على دعم لوجستي وقانوني إلخ…
وكل ذلك جعل الناشط الأحوازي، نتيجة ضعف بنيته التعليمية، مشوه الخطاب، مرتبك الأدبيات. فمن أبرز ما تسببته هذه الحالة هي أن المناضل الأحوازي ظل يجتر نفس أساليب القول في الإعلام، لا يفرق بين الخطاب الموجه للغرب، والخطاب الموجه للدول العربية، عن ذلك الذي يتقصد الجماهير في الداخل. بل إن السائد هو أن الأحوازي ظل مستوردا الخطابات السائدة عند الآخرين، والمنبثقة عن واقعهم، لا عن الواقع الأحوازي بخصوصياته المتفردة، ليميل هكذا تارة نحو الخطاب الإسلامي بنسخة الإخوان منه، وينزع تارة نحو الفكر البعثي، وتارة إلى الفكر اليساري.. وهكذا دواليك. وكل ذلك دون أي مراعاة منه لما يتطلبه الواقع المعيش في الأحواز. وغني عن القول أن ذلك أفقد المناضل الأحوازي المقدرة على التعاطي مع المؤسسات الغربية بالدرجة الأولى، التي يمكن التعويل على دعمها نصرة للقضية، وأبعدهم عنها.
إن فقدان الروح العلمية في الأحوازيين جعلهم يخلطون في عملهم التنظيمي الذي يتطلب أكبر قدر من الموضوعية، ليخلطوا هكذا بين الاجتماعي والسياسي، والقانوني والثقافي، والتاريخي والأدبي كما سنرى بعد قليل. وقد تجلى ذلك في غياب كفاءات في شتى المجالات، مما قد يساعد في تحسين ظروف العمل الجماعي المكافح. ولهذه الحالة ظاهرة أخرى تتفرع عنها، وهي ضعف ثقافة القراءة، ليس بين عامة الناس، فذلك أمر لا جدال فيه، بل بين من يجب أن تكون القراءة بينهم فريضة وجوب لا كفاءة. وهذا ما جعل أول ما يشتكي منه الكُتاب العرب الأحوازيين، في الداخل والخارج، هو ضعف القُراء، وتخلفهم عن قراءة ما يؤلفون.
وأيا يكن من أمر فإن ضعف التعليم في المناضلين لا يحتاج إلى استدلال طويل، حيث أن القاء نظرة على السنين الطويلة منذ بداية النضال الأحوازي، لا يسعف في العثور على كتب تُذكر في التاريخ أو الاجتماع أو السياسة إلخ؛ بل ظلت الكتب الخطية الأحوازية المكتوبة أصلا على يد النخب القديمة على شكل نسخ خطية، تعاني من تشوه وعدم تحقيق المخطوطات والاعتناء بآثر السلف ومآثره. إن أسمى آيات الفشل الأحوازي المناضل في التعليم هو انعدام كتب تستحق الذكر بين العالمين، وانعدام مراكز دراسات رصينة، وغياب دور نشر على مستوى إيران بلْه المستوى العربي، وعدم وجود نقابة كتاب، أو ما في معنى هذه المؤسسات. على أن هناك جهودا تعليمية غير منظمة مارستها قوى في الداخل بمساندة جمهرة من المناضلين لا بد من التنويه بها، حيث حققت بعض نجاحات في مجالات تُذكر فتُشكر.
ولكن إلى جانب كل ذلك، فإن ضعف التعليم لم يكن يعني، في العمل التنظيمي الأحوازي، انعدام المؤلفات والمجلات والكتب فحسب، بل إنه يعني بالدرجة الأولى انعدام البصيرة بين المناضلين في الخروج بمعالجة مثلى لقضايا الشعب الملحة، من عدوان النظام على البيئة والمجتمع والتعليم والصحة والهوية والتاريخ والعروبة إلخ. ولعل عدم استثمار الحرب القائمة بين إيران والعراق هو من أكبر الأخطاء التي وقع بها الناشط الأحوازي، في تلك الحقبة المثلى، ستجلي الأجيال الأحوازية هولها وعظيم تبعاتها على أجيال من الأحوازيين، وما تسبب به ذلك الجهل من مآسي وطوام وثبور حلت بالشعب العربي الأحوازي عقيب تفويت تلك اللحظة التاريخية.
هذا من جهة ولكن من جهة أخرى يبق هذا الضعف في البنية الدراسية ناتج عن قضية التعليم بغير اللغة الأم، حيث يعاني المجتمع الأحوازي من هذا الأمر: أمر ثنائية اللغة في التعليم، ذلك أن لغة التعليم، خاصة في أيام الدراسة الأولى، هي مغايرة للكلام المحكي في البيت وما يدور بين الطالب أو الطالبة وبين ذويهم[8]. وهذا كفيل، كما تظهر ذلك جل الدراسات المعنية بالموضوع هذا، بتردي التعليم والتخلف العلمي لدى الطلاب.
وفي النهاية فلا يمكن إغفال أخطر أوجه التعليم الظاهرة في دور عملية التعليم في نطاق التنشئة المجتمعية والسياسية: وهذا بالتحديد هو ما عَلِمَهُ المثقف الفارسي ووَقَبَ عنه المتعلم الأحوازي، أو لنقل هكذا جهله «المثقف الأحوازي». فمن هنا، من منطلق التعليم، بدأت الرواية الرسمية الإيرانية: بَدْءا من تحية العلم، مرورا بتزوير رواية تاريخية ملفقة عن الدولة الإيرانية، وعن ماضي العرب وواقع حالهم، وتخفية خصوصيتهم العربية إلخ[9].
-
فساد الأخلاق وضعف وازع القيم
ويتجلى ضعف الأخلاق وغياب الوازع المحث على القيم، في السلوكيات الفردية للناشط الأحوازي بشكل عام، سواء في تعامله مع التنظيم والقضية الأحوازية ومختلف الأمور المتعلقة بها، أو في التعامل اليومي مع الأقرباء، والحياة اليومية. فهنا تظهر على السلوكيات الفردية الأمور التالية:
ألف) تقدم الفردي على الجماعي: وبعد كل ذلك، أي بعد غياب العقل الذي يستوعب العقلانية التنظيمية، يتبين أن الأسس التي تقوم عليها هذه العقلية ترجع إلى تقدم الفردي على الجماعي: أي جعل المعتقد العربي والقضية الأحوازية والمصلحة القومية والمقدرات الحزبية المادية والروحانية، فرعا للمصلحة والمعتقد والجوانب الفردية بصفة عامة. ولهذا الأساس مظاهر عدة أختصرها في:
ب) الانتهازية: وتظهر هذه الحالة على شكل ما يمكن تسميته المتاجرة باسم القضية، يعمد بموجبها الفرد الذي يدعي النضال إلى جهات دولية أو مؤسسات مانحة، يتحصل منها على أموال، بدعوى صرفها للحراك الأحوازي القومي، ثم سرعان ما يستأثر بها، مخلفا هكذا سوء ظن كبير تجاه الأحوازيين جعل الكثير من المؤسسات تتجنب التعامل معهم نتيجة عده كذاك المناضل المحتال. وإلى جانب ذلك يعمد عدد من النشطاء في الخارج، عند التعاون مع نشطاء ومثقفين في الداخل، يعمد إلى استغلال فرق صرف العملة لتسديد أقل قدر من المرتبات للعاملين في الداخل، حيث لا يدفعون مستحقات هولاء العاملين إلى بنسب لا تتجاوز 20 بالمئة في أحسن الفروض. وصحيح أن هذه الحالة لا تستحق كبير اهتمام بيد أنها جعلت المناضل في الداخل على يأس لائح من بعض النشطاء في الخارج، متجنبا التعامل معهم، وسط دهشة من مستوى هذا السقوط الأخلاقي.
أما في الداخل فهناك بعض الناشطين العرب يرفع علم مناصرة « العرب» ومحاربة «التهميش» الذي يطالهم. ثم يعمد بعد ذلك إلى تبني هذه القضية، وجعلها آلة ضغط: سواء في التعامل مع بعض المديرين، أو عدد من النواب. وهدفه في كل ذلك تحصيل مناصب أو مزايا: فبموجب هذه الطريقة يعمد هذا الناشط إلى تكوين مجموعة ضغط، إعلامية أو مجموعة نشطاء، يبتز بهما مديرا عاما، عربيا أو فارسيا، مهددا إياه بنشر فضيحة علمها عن منافسيه، أو سمعة يشوهها بأنه سيذيع عنه انحيازا للفرس ضد العرب مثلا، وتأثير ذلك في إشعال احتجاجات تنال من الأمن العام سببها تقديم مصالحه الفردية؛ مظهرا له قوته على فعل ذلك إعلاميا، أو بتوسط علاقاته الخفية بقوى الأمن. وبعد كل ذلك فلا يملك المُهَدد، خاصة إذا كان من المديرين الجدد، إلا منح هذا الناشط العبقري بعض المزايا، المادية غالبا، ليسكته. على أن هذا الأسلوب لا يفيد في التعامل مع قدماء المديرين، حيث أسلوب التملق هنا هو الأكثر فاعلية[10].
ج) الفساد: ويتجلى الفساد في مختلف السلوكيات. فإذا ما كنا سنذكر صوره التنظيمية في: احتلال المواقع القيادية على أساس الانتساب والمقدرة المالية بدل الجدارة، إلى جانب صوره الاقتصادية في: الاستئثار بالمال التنظيمي أو المتجارة باسم القضية، فإن للفساد وجوه أخرى تظهر هذه المرة في أدنى مراتبها، وهي الفسق الظاهر على الهيام بالغرايز.
د) العقد الجنسية: وهنا بالنسبة للناشط الذي تحصل على تعليم نسبي، ثم اضطر إلى الهجرة، نجد حالة شاذة: فلقد وجدناه في أول هجرته من الأحواز، وما به من حرمان اقتصادي ذكرناه أعلاه، وحرمان اجتماعي على مستوى الحريات الفردية: من حرية تعبير ومعتقد ومأكول ومنكوح إلخ، وجدناه منصدما بملذات الغرب، خاصة ذلك الجانب الحساس لدي الانسان أعني به الجنس. وهكذا يخصص حديث العهد بالغرب أولى سنين حياته إلى الاهتمام بهذه القضايا والتسكع في الليالي. وقد تبق أسلوب الحياة هذا متبعا لدى عدد غير قليل منهم، متناسيا جميع التزامات الحياة.
د) فساد العقيدة: وفي مقابل هذا أيضا وجدنا ظاهرة فيهم أشد شذوذا، وهي نكوص الأحوازي القومي، في حالة الهجرة، نكوصه إلى التشدد في الدين، والغلو في الالتزام الديني، بلغت هذه الحالة إلى هجرة عدد من الأحوازيين، من أصحاب التعليم العالي، إلى بعض الدول العربية والتوجه نحو التطرف الديني. وقد أدى فساد المعتقد هذا إلى ميلاد قناعة لدى بعض النشطاء، خاصة في الخارج، نحو التعامل مع بعض الدول المحتلة لنصرة القضية الأحوازية على قد قناعتهم الناقصة هذه. والحال أن نصرة القضية، التي هي أخلاقية قبل كل شيء، لا يمكن أن يتم عبر التوسل بهذه الأساليب الخؤونة بقضايا مثل القضية الأحوازية.
2
غياب العقلية التنظيمية في النشاط التنظيمي الأحوازي
لقد كانت المعاطب الفردية الظاهرة في الخصال الفردية عند المنضال الأحوازي، وجدت تمظهرا آخرا لها، عند دخول هذا العنصر إلى العمل التنظيمي الذي دشنه هو من دون أن يكون قد جهز العدة اللازمة له، سواء من حيث العقل التنظيمي أو السلوك الحزبي أو التصرف الحركي؛ بل ظلت هذه الفردية بكل ما تحتويه من صفات تجتر نفسها هذه المرة في ميدان عمل جديد، هو ميدان العمل التنظيمي. وأبرز ما يميز العمل التنظيمي الأحوازي هو الأمور التالية:
-
ضعف العقل الجماعي التنظيمي
لقد أضعف ذلك المستوى المنخفض من التعليم، هذه العقلية التنظيمية، وأفرغها عن مضمونها. وإذا كنا قد أشرنا بإيجاز في الفقرة السابقة، إلى تصرف الأحوازي بالمال الحزبي الذي تحصله من منطلق ملكه الخاص، فإنه تعامل من منطلق العقلية ذاتها مع الالزامات التنظيمية على هواه، يأخذ منها ما يريد ويضع ما يريد، استنادا على مصلحته الفردية، أو وضعه المزاجي. إن العمل التنظيمي لا يقوم إلا على أساس التزام تنظيمي، تستحيل فيه، في نطاق التنفيذ على الأقل، الذوات والمصالح الفردية، وتكون الغاية المشتركة المنصوصة هي الموجهة للسلوك والتصرفات.
ومن مظاهر هذا الارتباك التنظيمي هو فقدان وجود تقسيم عمل في التنظيم الواحد أو الحركة الواحدة، حيث تكون طريقة العمل دون تحديد، تتم بطريقة تنفيذ خالية عن الدراسة السابقة والرؤية المتقدمة مسلفا. وهذا بالتحديد هو السبب الكامن وراء عدم نجاح الأحوازيين في افتتاح مراكز دراسات رصينة، تتولى شؤونا محددة بعينها وعلى سبيل المثال بالرغم من مرور تسعة عقود على احتلال ارض الأحواز الا ان هناك ينشط معهد دراسات يتيم ” الحوار للابحاث والدراسات” ولا يزال يعاني في تغطية جميع الشئون والتحديات التي تواجهها القضية على المستوى الداخلي والاقليمي والدولي كما يعاني من الاهمال وعدم المشاركة من قبل الاخرين. كما أفضى الضعف التنظيمي إلى الإخفاق في بناء مؤسسات مختصة بحقوق الإنسان، ذات جهاز معرفي قانوني حديث، يتعاطى مع المؤسسات العالمية الناشطة بهذا المجال، ممن لها التأثير الكبير على الوضع الدولي، وسياسات الدول، وتوثيق عمليات الإجرام بحق الأقليات، والضغط على الحكومات لوقف الاعتقالات التعسفية، ومنع الاعتقال الاحترازي، وجميع السياسات التي تفصم العمل في الداخل الأحوازي. ولعل مرد ذلك إلى غياب أي برنامج مدروس من جميع الجوانب، يوضح مراحل التنفيذ على شكل رؤية قريبة الأمد ووسيطة وبعيدة.
وإذا ما أردنا محايثة الواقع المعيش قليلا، فمن السهل والمفهوم جدا أن نتسائل من جميع الحركات الأحوازية هل نفذت احتجاجا كبيرا فنظمته؟ هل نفذت عملية عسكرية كبيرة هزت بها مكامن القوة لدى القوات القمعية الإيرانية؟ هل نجحت في خوض صراع اقتصادي تعطل به امدادت النفط أو تمويل ذاتها بذاتها؟ إلخ. والجواب في كل ذلك هو بالسلب بكل تاكيد. لا يمتلك العمل التنظيمي الأحوازي من التؤدة والصبر ما بهما يستطيع زرع مقدمات عمل في نطاق فترة كبيرة، يجني بعدها ثمرات ما حرص عليه. بل تبقت السلوكيات التنظيمية تقليدية الطابع، تتوخى حصول أكبر المقدرات بأوحى الفترات، من دون مراقبة طويلة الأمد.
إن أكبر ما يمكن ملاحظته في طريقة عمل المؤسسات التي أقيمت على يد الحركات الأحوازية هي انعدام الاستمرارية فيها. فما من مجلة أو مؤسسة أو جماعة رأت النور إلا طَفِيء وذوى.. لا لشيء سوى لانعدام الصبر اللازم لمثل هذه العمليات. إلى جانب عصف الاختلافات المتعددة في كل شيء وفقدان الروح الجماعية مثلما نتطرق لذلك بعيد قليل.
وقد جعلت هذه الركاكة التنظيمية العمل الفردي والجماعي الأحوازي يتحرك في نطاق ردود الفعل، غير ممتلك زمام المبادرة، بل إنه يرتب خطواته في إطار التعامل مع الأحداث الطارئة التي تسبقه وتسبق تفكيره دوما. إن الحركة في إطار ردود الفعل يعني خسارة إمكانية التعامل لصالح الجماعة، والانصياع مع الأحداث التي هي، بطبيعة الحال، ستكون لصالح العنصر المعادي المبادر، في جميع الجوانب التي تسببت بخسران الشعب الأحوازي في مختلف مناحي حياتها.
-
الهشاشة التنظيمية
وبما أن العقلية التنظيمية مغيبة، في الحركات المنظمة بمختلف مشاربها، فمن البدهي أن تكون نتيجة تعامل الأفراد معها تعاملا يصدر عن عقليتهم هذه: ومن هنا قدَّر رؤساء الحركات الأحوازية، الحركات والتنظيمات التي يديرونها ملكا شخصيا لهم، من حقهم التعامل معها ومع العناصر التي تنتمي لها برأي فردي. وكذا عُمم هذا التعامل ليشمل المقدرات المادية، كما أشرت، لتعصف هذه العقلية بشتى مجال النشاط التنظيمي.
وإذا ما سلمنا بأن العمل التنظيمي ذاته سيفضي لا محالة إلى بروز القيادات على حساب القضايا التنظيمية والعناصر التابعة، كما يفيد بذلك ويلفردو باره تو[11]، فحينها سيعني ذلك أن النتيجة الحتمية للعمل التنظيمي الأحوازي هي بروز القيادة العليا، ماليا وسياسيا واجتماعيا، على حساب القضية والأفراد. وهذا ما حدث بالنسبة لكثير من الأحزاب، إذ بات معروفا أن اختيار القيادات الحزبية، لا يتم عبر عملية ديمقراطية بحسب المهارات الفردية، أو نتيجة إثبات كفاءات لدى العناصر، بعد تدرجهم التنظيمي، بل ظلت ترقية المكانة التنظيمية تابعة لمستوى الصلة بالمدير العام، خاصة إذا كان هو المؤسس أو من المؤسسين، أو الرمزية القبلية أو الدينية.
وخير دليل على ذلك هو أن معظم قيادات الحركات والتنظيمات الأحوازية هي من شيوخ العشاير أو السادة، بينما ظلت الكفاءات الموجودة فيها على هامش التنظيم لا تستطيع القيام بدور ريادي، أو توجيه الحراك إلى وجهة معينة أو العمل بأساليب مغايرة للمعهود. وهذا ما يفسر صورية الهيكل التنظيمي لدى الحركات الأحوازية، حيث أن الهيكل التنظيمي فيها، على عكس ما يأتي في أعلانها، هيكلا صوريا، يعاني من شغور في الكثير من المناصب المعنلة فيه، أو فقدان من يقوم بها، أو أنها فارغة عن عمل حقيقي يحتاج النهوض به.
-
ضعف الاستثمار اللوجستي التنظيمي
لكل تنظيم مشاريع متعددة، كما هو معلوم، تتطلب دعما لوجستيا على مختلف أشكاله التقنية والمادية. وقد ظلت التنظيمات الأحوازية، طيلة نشاطها تعول على الدول الخليجية أو الغربية، لتوفير تلك المتطلبات اللوجستية بدلا عن قيامها هي باستثمارات قانونية مهنية في الدول الغربية التي تتخذها مقرا لقياداتها، تسمح لها بتمويل ذاتي. وذلك أن أي دعم يأتي من جهات أو دول يأتي مصحوبا بإيعاز وطلبات عادة ما تخرج بالقضية عن الجادة، وتحيد بها من التركيز على قضاياها الخاصة، ولذلك يعني الاستثمار اللوجستي الذاتي التحرر من الانقياد لأي أجندة وأولويات خارجية مانحة، تأتي على حساب القضية على الدوام.
3
الأسباب البنيوية: الاجتماعية والسياسية
إنه إذا كانت الفقرة السابقة تناولت الجوانب الفردية، والفرد المناضل بوصفه أساس العمل التنظيمي، فحددت أبرز أسباب الفشل العام في فساد الخلق الفردية، الذي سرعان ما يظهر في فساد العمل التنظيمي، فإن هذه الفقرة ستبحث تلك الأسباب البنيوية التي يكون الفرد مظهرا من مظاهرها وانعكاسا لها وعاملا في إعادة انتاجها وديمومتها.
ونجمل الأسباب البنيوية في الأسباب البنيوية الاجتماعية، بوصفها هي صاحبة التقدم التاريخي والمنطقي، والأسباب السياسية بكونها التالي المنطقي والتاريخي. ومن أبرز أسباب الفشل البنيوي الاجتماعي في النشاط التنظيمي الأحوازي فهي: وجود مجتمع تقليدي قوامه القبيلة والمذهب، وغياب تكوين طبقة وسطى في السير التاريخي للمجتمع الأحوازي، وحصول تباين بين مطالب جماهير الشعب ومطالب نخبها النضالية، والفشل في إدراك الثورة المعلوماتية.
أما الأسباب السياسية فهي: وجود نظام استبدادي يستحيل معه قيام أي نشاط تنظيمي وحزبي، وعدم الرقي بالأحواز إلى مجتمع قومي، والفشل في ميلاد زعيم وطني وصناعته رمزا، وعدم اتقان العمل المباشر استخباريا ولوجستيا.
-
الأسباب البنيوية الاجتماعية
المجتمع التقليدي المتقوم بالقبيلة والدين
يزاحم المجتمع التقليدي العمل التنظيمي الحديث على مستويات عديدة، على رأسها استمرار مؤسساته ودوائره في تأدية دور مجتمعي يحتضن الأفراد، إلى جانب بقاء منظومته القيمية التي تناهض أي منظومة حديثة لا تنبثق عنها. فمن حيث الجانب الأول، ظلت الدوائر المنبثقة عن الدين، وعلى رأسها المرجعية، والضرائب الدينية، ووجوب الطقوس إلخ، تكتنف الأفراد بالمساوقة مع إبعادهم عن أي منافس لا ينتمي لدائرة الأنا الدينية. أما القبيلة، فهي الأخرى لها المفعول ذاته، ولها من الدوائر التي «تحولت على مر التاريخ… إلى رابطة سيكولوجية اجتماعية تعتمدها الجماعات لتحقيق مطالبها، وفرض ذاتها[12]». وإذا أخذنا بعين الاعتبار قِدم هذه الدوائر، وتجذرها على مدى أحقاب، وإذا حسبنا تاريخ ظهور الحراك التنظيمي ورجوعه إلى عقود قريبة ويسيرة، أدركنا حينها أنْ لا مقارنة بين تلك المؤسسات والدوائر وبين هذه التي لا تعدو من كونها طارئة الحدوث. وكل ذلك يظهر جليا أن إحدى عقبات، بل أسباب فشل، النشاط التنظيمي هو هذه الدوائر القديمة، التي تمانع بقوة وجود دوائر جديدة، فضلا عن تجذرها.
أما من الجانب الآخر، فيظهر جانبا مهما في ذلك الدور الذي تؤديه هذه الدوائر على المستوى القيمي، وهو التأثير الموجه لها الثاوي في اللاشعور الفردي والجمعي معا. أي أن لهذه الدوائر الطاعنة في القدم، مجموعة قيمية تنتج وتبعث سلوكيات خاصة، لها سماتها الخاصة، وهي من تجعل السلوك الفردي يصنف إلى سلوك ديني وسلوك قبلي أو نحو ذلك.
وإذا ما شئنا هنا التذكير بما ينتج عن الجانب الأول، فنذكر أن نطاق الدين لا يقبل بمأتيَّات التنظيم الأحوازي الداعي إلى الاعتداد بالقومية، ولا يتقبل الفردية، ويتنكر لأي قانون وضعي على الأفراد الذب عنه، وإن تطلب ذلك الوقوع في ما حرمه الدين. كما أن العقل المعيشي الديني يحتم تخصيص حجم من الأموال إلى الضرائب التي يجبيها الدين بوازعه الترهيبي.
أما تلك السلوكيات التقليدية النابعة عن ذلك الدور القيمي للقبيلة، وممانعتها لأي عمل يتطاول على ميدانها، سواء من حركة أو تنظيم أو دين مناهض، فهي تقدم العقل الجماعي على الفردي والتنظيمي، وتقدم الانتساب على الجدارة، والتلسل الهرمي، والعقل المنقاد إلخ. وكل تلك مثلما هو بائن يمانع نشاط تنظيمي حديث ويعدم إمكانية نموه.
وبذا يتبين أن المجتمع التقليدي هو الأرضية الجدباء التي تميت براعم العمل التنظيمي أو النشاط الحزبي، وأي عمل يصدر في هكذا مجتمعات فمحكوم عليه بالفشل، إلا إذا حارب مظاهر المجتمع التقليدي ودوائرة، وتقلب عليها بنوع من التغلب. وخير نموذج على ذلك هو العمل التنظيمي الأحوازي الذي يعاني في جانبه البنيوي من التذبذب والتأرجح بين دوائر المجتمع التقليدي، إلى جانب مساعية في بناء بعض الدوائر الحديثة، على رأسها الحركات القومية التحررية. وقد رأينا في القسم الخاص بالأسباب الفردية معاطب العمل التنظيمي التي نتمكن الآن من وضعها بمكانها الصحيح، وهو ابتعاثها من العوامل البنيوية أكثر منها من العوامل الفردية:
ففي هذا السياق يكون التسويف الاقتصادي ناتجا عن العقل الاقتصادي التقليدي الذي لا يفهم معنى الاستثمار المادي، بمنطق اقتصادي سليم، بل إنه مقيد في وضع اقتصادي معطوب يقدم الضريبة الدينية على الاستثمار في الحالة الدينية، ويقدم البذل والضريبة الجنائية في الحالة القبلية على النشاط الاقتصادي المعياري[13]. كما يمكن عزو تقدم الفردي على الجماعي إلى انفصام تلكم الأفراد الذين تحرروا عن وازع الالتزام الجماعي، في حالتيه الديني والقبلي، فنحلت عرى أخلاقهم وسقطوا في حالة اللاقيمة، أو اللاأخلاق، جعلتهم ينتهبون مقدرات التنظيم.
تاريخ يسير بلا طبقة وسطى
إن الطبقة الوسطى هي تلك الطبقة التي حملت على عاتقها منذ بداية فجر الحداثة الأوربية العُدة اللازمة للخروج من القرون الوسطى إلى عصر الحداثة، بمختلف طاقاتها الفلسفية والفنية والاقتصادية إلخ. لقد كانت الطبقة هذه هي الوعاء الذي حمل مختلف الأفكار والأطروحات الهادفة للتغيير، وهي التي استطاعت بكامل وجودها وابداعاتها القضاء على نمط الحياة التقليدي القديم، بعد مكنتها من عرض نمط حديث يستجيب للظرف الراهن ويستهوى قاطبة الجماهير، في أسلوب إنتاج اقتصادي جديد منحه القوة اللازمة لقيادة عملية التغيير الشاملة.
إن أولى ميزات الطبقة الوسطى بهذا المعنى هي أنها صاحبة اقتصاد يرتقي بها إلى مستوى يكون التفكير فيه أعلى من الانهماك المعيشي اليومي، في غمرة ابداع فكري، يطالب بمزيد دور قيادي مجتمعي، يعود بسلطة حقيقية لديهم، مصدرها هو وجودهم الوضعي ودورهم المتصاعد لا شيء سواه.
ويعني ذلك أن جميع مظاهر الحداثة فيجب أن تُلتمس في الطبقة هذه لا سواها، أو أن المظاهر تلك هي صنيعة هذه الطبقة بحد ذاتها. فهنا ينبع العمل التنظيمي ويثمر، وهنا يتم تبني الأفكار القومية، وهنا تشحذ الهمم من أجل محاربة الحكم الاستبدادي، وهنا يقف التاريخ بكامله أمام منصة الاتهام والمسائلة[14].
وإذا ما نظرنا إلى تاريخ الأحواز العربي، فحينها سنجد غيابا لهذه الطبقة الوسطى، صاحبة الاقتصاد المستقل عن الدولة وعن الدين واقتصاد القبيلة، المتحررة من القيود الدينية القبلية، وصاحبة منظومة فكرية وضعية، المطالبة بدور سياسي قيادي.
إن هذا الغياب للطبقة الوسطى في التاريخ الأحوازي قد تسبب، من وجهة نظري، بنتيجتين حضاريتين خطيرتين: أولهما جعل المجتمع مجتمعا نخبويا يسوق أن نسميه منشطر البنى، بين نخبة واعية، بنوع من أنواع الوعي الذي يجعلها غير منتمية للكيانات القديمة، وأكثرية صامتة فاقدة الوعي، وثانيهما اصطباغ الحداثة الأحوازية بطابع فردي، جعلتها حداثة فردية، إذا صح القول، جعلت الأفراد المتبنين لها متشرذمين قيميا وفاعلية. وهكذا انعكس هذا الطابع النخبوي على العمل التنظيمي وحدى بأهل التنظيمات أن لا يعير لأكثرية الناس الاهتمام، مثلما جعلهم يقدمون الفردي على الجماعي من منطلق نرجسية متشرذمة.
التباين بين مآرب النخب (وليس الناشط) ومطالب الشعب: غياب الإيديولوجيا
إنه لمن البدهي أن يحدث تباينا بين عموم الشعب، وبين نخبته التي نشأت وفق ذلك التكوين الذي فرض عليها تعال على المجتمع، سواء اغتذى (ذلك التعالي) من معين الحداثة، أو صدر عن التقليدية التي تكون النخبوية فيها أوليغارشية تتمظهر إما على شكل شيوخ عشائر، أو سادة ينميهم نسب إلى محمد.
ولهذا التباين مظاهر كثيرة على طول التاريخ: أبرزها هو ما حدث عند الحرب العراقية الإيرانية إذ ظل معظم الشعب الأحوازي غير عليم بمجريات الحرب، لا يعلم بما يدور بين نخبه المشاركة في الحرب على شكل الفوج الأحوازي وبين القيادة العراقية التي تورطت بحرب استنزاف مقيت. على أن أحدث شاهد على ذلك التباين هو ما يحدث، في الوقت الراهن، من مظاهرات كبيرة في نطاق الدولة الإيرانية، سعى الكثير من المناضلين في الخارج والداخل إلى جعل الشعب الأحوازي يلتحق بها، وسط تجاهل تام من جانب الشعب لهذه الدعوات المتتالية. هذا وقد عجز الفرد الأحوازي المنظم من كتابة دراسات رصينة تشرح أسباب تجاهل الشعب الأحوازي لدعوات مختلف الحركات والتنظيمات الأحوازية في الأحداث الأخيرة كمعهوده في تجاهل مثل هاته الأحداث الراهنة القائمة.
وبالإضافة إلى كل ذلك، فقد كان ضعف البنية العلمية، المشار إليه، قد جعل النشاط التنظيمي برمته والحركات بأجمعها متنافرة التوجهات والاتجاهات. وذلك كان ممكن التفادي لو تمكنت النخبة الأحوازية من صناعة منظومة إيديولوجية[15] تأخذ على عاتقها بناء جامعة فكرية تجمع الكافة على أسس محل إجماع الكل. لكن كيف لجماعة بنيتهم الفكرية ركيكة وهشة بناء إيدلوجية تتطلب رصيدا علميا هم فاقدوه.
وهنا لا تعني الإيديولوجيا حنين رومنسي إلى زمن الإيديولوجيات والحراك الحزبي المهمين، بل إنها تعني في واقع الحال التواطؤ على مرجعية فكرية تنقذ الأحواز، شعبا ومجتمعا وحركات وتنظيمات، من هذا التيه الفكري والعملي الذي يعانيه: فالأحوازي المنظم أو الذي يجب استقطابه لا يتمتع ولا يعثر على كراسات إيديولوجية أو كتيبات تنظيرية سَلِسَلة تشرح له الماضي الذي أدى إلى الواقع المعيش، ولا يجد ما به يستطيع فهم الواقع المعيش هذا، وطرق أو طرائق التخلص منه، وسط تصوير المستقبل له على صورة زاهرة قوامها الحرية والعروبة وعيش رقيد، بصفة عامة، تهبه الأمل للعمل، وتبعث فيه قوة الإقدام، وتزوده بالحوافز الآتية من حقيقة المستقبل الواعد، وقربه وإمكانية تحققه إلخ.
الفشل في إدراك الثورة المعلوماتية العالمية
ولا أبالغ إنْ أصْدَرتُ الفقرة هذه بالقول بأن أكبر مظاهر الفشل ودلائله اللائحة تظهر في تخلف النشاط التنظيمي الأحوازي من بناء منابر إعلامية مقبولة، ببرامج إعلامية وسيطة تستقطب فئات من الشارع الأحوازي وتؤثر عليهم بشكل غير مباشر عبر البرامج التي تستهوي الكافة. إنه من المستنكر تماما فقدان قنوات ومواقع تواصل إعلامية عربية تدار بيد الأحوازيين، تتناول القضايا الأحوازية بشتى مصائبها، بعد مضي قرن من العمل الحزبي.
وفي هذا الإطار فإننا لو نظرنا إلى وسائل الإعلام الأحوازية العاملة حاليا، طغى حينها على ناظرنا ركاكتها وضعف محتواها وتدني مستوى العاملين فيها. إن مستوى البرامج الإعلامية الأحوازية ظل لا يواكب متطلبات العصر، سواء على مستوى التناول المؤصل للقضايا، أو اصطياد الموضوعات، أو توظيف وتربية كوادر إعلامية. كما أن فيها من العناصر الريفية التي أتيح لها مجالا أكثر من طوقها، وهي رَشَحَت عما فيها، فصورت الشعب الأحوازي على أنه شعب مشحون لا يتقن التعبير عن آرائه إلا عبر التجريح والشتائم.
إننا سنتكلم كلاما مسترسلا بدهيا هنا إن قلنا عن دور الإعلام وتأثيراته في شتى المجالات. ولكن لنوغل في البدهيات قليلا، بما أن الحال فينا نحن في القضية الأحوازية لما تتجاوز بعد البدهيات ولم نكتشفها بعد. إننا نعيش في عالم قوامه الإعلام وبات العالم قرية قريبة أحداثها متأثرة على جميع البلدان وباتت الحدود الرسمية عاجزة أمام سد سيول المعلومات المختلفة التي جعلت العالمين يقتربون، شيئا فشيئا، إلى نمط حياة موحد، تسوده قيم متفق عليها لدى الجميع نسبيا.
وعلى كل حال فيمكن تلخيص تأثير الإعلام في ثلاث جوانب كأهم الجوانب بالنظر إلى الحالة الأحوازية: التنشئة المجتمعية السياسية، والتحشيد الإيديولوجي، والنشاط الفني المتصل بالوحدة العربية المنشودة.
ألف) لقد باتت الأفلام والمسرحيات والروايات والموسيقى ومختلف مظاهر الفن، الذي سرعان ما يترجم بلغات عالمية ليصل بذلك إلى أكبر عدد من القراء في مختلف القارات، باتت هذه المظاهر الفنية بمثابة وعاء يحمل معه قيما بحد ذاتها قُدمت على شكل صور فنية تحفز في المتلقي تبنيها أو مماثلتها، صورة جميلة استقطبت جميع الأديان وجميع الشعوب. وقد جعل الأمر هذا جعل الحديث يدور حول مجموعة قيم جديدة، هي محل أجماع العالمين، مجموعة قيم لها أدبياتها الخاصة المفهومة بين العالم. ومن هنا قيمة الحرية الفردية، وحق تقرير المصير، وأصالة الإنسان، والنسبية القيمية، وغياب الحقيقة، وإذا شئتم قلنا «موت الله» حسب التعبير النيتشوي. إن هذه الحالة التي يقودها الإعلام بجدارة وباكتساح تام، هي سيف ذوحدين يستجوب على الأحوازيين استغلالها بطرق مثلى لمناصرة قضيتهم، وذلك عبر أسلوب فني يفهم أولا اللغة العالمية المفهومة من جانب العالم، ويخرج ثانيا بأسلوب قريب من تلك الأساليب التي تسلكها المؤسسات العالمية. لا يمكن لبرنامج نظير ما يجتهد فيه الإعلام الأحوازي الرقي بالقضية الأحوازية إلى العالمية بل إنها ستظل، في انحطاط إعلامها أو انعدامه، لا ترتقي إلى استمالة الشعب الأحوازي ذاته، بلْه الوطن العربي أو الدول المتقدمة.
وبذلك يتبين أن التنشئة المجتمعية والسياسية تغايرت عن سابق عهدها، حيث كانت منحصرة في دوائر كالمدرسة والأقرباء، بل إنها باتت عملية مفتوحة ساحتها العالم وشعوب العالم القريب بأسره. وهنا وفي خضم العالمية تندرج المحلية: هنا يجب تصوير حق تقرير المصير في إطار كرامة الإنسان الفرد، وضمن حقه في اختيار المكان والانتماء الذي يريد الحياة به. ومن هنا يجب تصوير التمسك بالوحدة الإيرانية تمسك شوفيني يقارب التعنت الديني والأساطير القومية المرفوضة لدى الغرب، في مساع للتأثير على الفرد الأحوازي، وبالتالي تحفيزه على تبني القضايا الحديثة من جهة، واستمالة العالم وجلب نصرته من جهة أخرى.
ب) وفي سياق التأثير الذي يعزى للإعلام تتم تلك العملية اللازمة للتحشيد الإيديولوجي الظاهر على شكل مظاهرات مدنية ترفض سياسات النظام الإيراني، وترفض مبررات النخب الإيرانية المبنية على أساس التمسك بالوحدة الإيرانية حتى لو تمت على حساب الشعوب المقبوعة الأخرى. إن عناية الإعلام الأحوازي المنعدم، في النشاط التنظيمي فيجب أن تتركز على صناعة أناشيد عربية محفزة، بمستوى فني عال يبعث على الهمم ويواكب فترات الخروج. كما أن بث المفاهيم ذات الدلالة القومية العربية لا يتم إلا من خلال الإعلام المشارك في التحشيد الإيديولوجي الجماهيري. وبالإضافة إلى ذلك فإن الحفاظ على عروبة النطق الأحوازي لا يتم إلا في هذا الإطار: إطار الحملة الجماهيرية الرافضة لسياسات التفريس ومعاداة اللغة العربية.
ج) وهكذا يتبين أن الطريق للاتصال في الوطن العربي، الذي يعيش في الوقت الراهن في نوع من وحدة ثقافية جارية نأمل لها أن تتحول إلى وحدة تامة قدسية، يتبين أن ذلك المهيع السامي يمر من طريق الإعلام والفن: لقد تخلفت التنظيمات الأحوازية من صناعة جسر عروبي يتم من خلاله إيصال الكاتب العربي الأحوازي والفنان والروائي والممثل، وجميع القوى العمرانية الأحوازية، إلى المنبت الأول إلى الوطن العربي بكل أقطاره. لم نفلح لغاية الآن في إبراز فنان أو رسام أو مفكر أحوازي إلخ له ثقله في الوطن العربي، ليصبح ممثلا حضاريا للقضية الأحوازية لدى بني قومه.
-
الأسباب البنيوية السياسية
النظام الاستبدادي المناقض للنشاط التنظيمي
لا يمكن الحديث عن وجود حركات وتنظيمات سياسية في نظام استبدادي نظير النظم الإيرانية، سواء في العهد الملكي أو في عهد الجمهورية الإسلامية، لأن الفريضة الموجبة لتلك التشكيلات، وهي مبدأ تداول السلطات، غير متاحة في هذه الأنظمة، وبالتالي فإن وهم العمل في نطاق هذه التشكيلات سراب خداع وأمل واه. ومن أجل ذلك بالتحديد فشلت الحركات العربية التي نشطت في ظل هذا النظام في الداخل الإيراني وقضي على قياداتها وانحلت تشكيلاتها دون أن تثمر شيء للقضية الأحوازية، ودون أن تصيب أيا من الأهداف التي وضعتها كغاية قصوى لها. وسيكون الفشل المحقق هو مصير تلك الحركات التي تنبع عن العقلية ذاتها، وهي تريد وهما، في نطاق دولة إيرانية استبدادية، تتبع القضايا القومية. ذلك أن أي نظام سيحل محل الجمهورية الإسلامية، عاجلا أم آجلا، هو الآخر سيكون استبدادي الطابع يتذرع بدرء الانفصالية لاحتكار السلطة والقضاء على الشعوب غير الفارسية.
إن طبيعة النظام الاستبدادي القائم على تفضيل قومية على حساب أخرى يفرض على الحركات الأحوازية استهدافه وجوديا، وعرض بديل عنه يكون مغايرا تماما لتلك الوحدة التي هي من ساهمت، إلى جانب عوامل أخرى، بتوطيد هذا الاستبداد واستمراره. إن أولى أسباب الحكم الاستبدادي في إيران، هو انحياز النخبة الفارسية الإيرانية للحكم الاستبدادي، وأخذها بثاني الخيارين: حكومة ديمقراطية تعددية قد تسمح بحق تقرير المصير للشعوب غير الفارسية، وحكومة استبدادية تحفظ لإيران وحدتها على جماجم العرب والكورد والشعوب المناهضة[16]. ولذلك فلا نصرة للقضية الأحوازيىة إلا بتقديم حق تقرير المصير كشرط أولي لأي نشاط تنظيمي وحركي.
عدم الرقي بالأحواز إلى مجتمع قومي
إن من أولى سمات المجتمع القومي وجود لغة قومية، وانتماء موطد لحملتها، ونطاق جغرافي محدد يختص بالجماعة صاحبة اللغة ككل، متحرر عن التقيد بالقبيلة أو الجماعة المذهبية أو طبقة اقتصادية على سبيل المثال. لقد ظل المجتمع الأحوازي بغالبيته مجتمعا تقليدا، يحدد هويته إما بالانتماء إلى الدين أو الانتماء إلى القبيلة، لا إلى وطن اسمه الأحواز، الذي تم احتلاله من قبل قومية معادية مغايرة هي القومية الفارسية.
وبالرغم من وجود نخب تحررت من هاتين الهويتين غير أن هذه النخب تاهت بين من حدد ذاته الحديثة بالانتماء إلى الدولة الإيرانية وهولاء من المتفرسين، أو بين من تبنى القضية الأحوازية، فظل يجتر فشله نتيجة كل تلك المعاطب التي عددتها أعلاه.
إن الشعب العربي الأحوازي، سواء أجلى تمظهره عبر تلك الحركات، أو عبر مختلف فئاته فشل في بناء مظاهر المجتمع القومي: من تبني علم موحد، ونشيد وطني موحد، وتوطيد فكرة كونه شعبا محتلا. ويعود سبب التنافر والتباغض على علم موحد، بالرغم من شهرة العلم الراهن، إلى أنانية النخبة النضالية التي تقدم دوما، وكما رأينا، الفردي على الجماعي، جاعلة القضية والمبادئ القومية فرعا للمنافع الفردية الضيقة. على أن الفشل الرمزي هذا تجاوز إلى فشل المجتمع الأحوازي، خاصة الشعراء وأهل الموسيقى، من كتابة نص يصلح لأن يكون نشيدا قوميا عربيا أحوازيا، يذاع بين أبناء الشعب.
على أن أكبر وجوه التخلف عن الرقي بالمجتمع الأحوازي هو الفشل في ميلاد قيادة وطنية وصناعته رمزا. تحتاج القضية الأحوازية إلى زعيم رمزي وطني، يظل رمزا للحراك تشير الناس إليه كما تشير العُرب في فلسطين إلى الشيخ عز الدين القسام، أو إلى الزعيم جمال عبد الناصر. إن ما أقصده بالزعيم الرمز هو الاتفاق على أحد المناضلين الشرفاء الأحياء، وهم كثر كثر بكل تأكيد، يتم تحويله عبر ذلك الإعلام إلى رمز وطني حي تحيى به الجماهير العربية. وربما يكون السيد عبدالله أوجلان، في الحالة الكوردية، خير مثيل لما أقصده هنا.
اتقان العمل المباشر استخباريا ولوجستيا
وفي الأخير فلا يسعني، بالرغم من حساسية هذا الموضوع داخليا وخارجيا، تهميش دور العمل المباشر في الارتقاء بالقضية إلى العالمية. وهنا أقصد أن على الحركات الأحوازية أن تفكر بجد في سلوك العمل المباشر التنفيذي، واتقانه وتجهيز العدة الإيمانية له في الشبان، لحثهم عليه وعلى صدق جدواه. ومن دون استرسال في هذا الموضوع الحساس، جل الذي أقصده بالعمل المباشر هو القيام بالخطوات التالية:
ألف) اتقان العمل الاستخباري الذي تعاني منه الحركة التي تتبنى العمل المباشر، حيث لا تمر فترة قصيرة إلا يتم القبض على كافة العناصر التنفيذية فيها، وبالتالي تفكيك الخلية برمتها. وأكبر فرصة أمام المناضل، في الأوضاع الاقليمية والدولية الراهنة من أجل الحصول على التعليم اللازم لاتقان العمل الاستخباري.
- التعامل بجد مع العناصر الأكثر معاداة للشعب: من قضاة يصدرون أحكاما كبيرة ضديد النشطاء، ومن قيادات كبيرة في الأجهزة القمعية، بالإضافة إلى العناصر الثقافية المعادية، وبعض كبار النخب الاقتصادية التي تدير مشاريع اقتصادية تسمح بتوسع الاستيطان وجلب المستوطنين. وخير بداية في هذا المجال هو تهيأة قائمة بأسماء هولاء النخب المعادية، ثم تجميع معلومات عن محل حياتهم وأسرهم، وبعد كل ذلك “التشهير” بهم.
ج) كما يجب على العمل المباشر العناية القصوى بالمشاريع الاقتصادية التي تمول كل ذلك العمل، وتغذي مختلف السياسات على رأسها سياسة الاستيطان، عبر أسلوب زرع أجهزة كفيلة بتهديم البنايات الاستيطانية، والمشاريع الاقتصادية التي يقومون عليها. وذلك يخلق حالة تظهر المناطق العربية أماكن غير صالحة للمستوطنين الوافدين من خارجها.
الاستنتاج
لقد أخدت هذه الدراسة فشل النشاط التنظيمي الأحوازي، بمختلف تمظهراته الحزبية والحركية، في الداخل والخارج، أَخْذَ المسلمات، مستندة في ذلك، في البدء، على المعنى اللغوي للفشل، ثم على البرهنة لحقيقة وجوده، في المستوى الفردي ومظاهر الفشل فيه وهي: الضعف الاقتصادي، والركاكة العلمية، وفساد الأخلاق الفردية. ثم أردفته بالمستوى التنظيمي ومظاهر الفشل فيه وهي: ضعف العقل الجماعي التنظيمي، والهشاشة التنظيمية، وضعف الاستثمار اللوجستي. وأتممت كل ذلك بالتطرق للعوامل البنيوية، الاجتماعية منها وهي: وجود مجتمع تقليدي قوامه القبيلة والمذهب، وغياب تكوين طبقة وسطى في السير التاريخي للمجتمع الأحوازي، وحصول تباين بين مطالب جماهير الشعب ومطالب نخبها النضالية، والفشل في إدراك الثورة المعلوماتية؛ والسياسية منها وهي: وجود نظام استبدادي يستحيل معه قيام أي نشاط تنظيمي وحزبي، وعدم الرقي بالأحواز إلى مجتمع قومي، والفشل في ميلاد زعيم وطني وصناعته رمزا، وعدم اتقان العمل المباشر استخباريا.
بقلم وائل العموري
المصادر:
[1] . يعني الفشل لغة: الخيبة وعدم نيل الهدف، نتيجة الضعف والتراخي. وإذا ما نظرنا إلى الحركة الأحوازية، بصفة عامة، ومساعيها لنيل الاستقلال والتحرير، حينها يطغى على ناظرنا فشل الأحوازيين، مجتمعا وحركات وتنظيمات إلخ، في نيل غايتهم هذه.
[2] . حول علاقة الإيديولوجي بالمعرفي أنظر المقدمة الموفقة لهذا الكتاب: عبدالإله بالقزيز، نقد الخطاب القومي، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت 2009؟
[3] . ماکس وبر، دانشمند و سياست مدار، ترجمه احمد نقیب زاده، تهران، نشر قومس، 1378.
[4] . موریس دوورژه، احزاب سیاسی، ترجمه رضا علوی، تهران، بی جا، 1355.
[5] . حول تعريف ومناقشة المفاهيم السياسية نظير الحزب والحركة والتنظيم راجع الكتاب المرجع هذا، وهو أحسن الكتب في أسس علم السياسة:
Andrew Heywood, Politics, 2nd, 2002.
[6] . تظل المصادر الآتية، بالرغم من تأليفها قبل عقود طويلة، أفضل كتابات كتبت عن الكفاح التنظيمي لعرب الأحواز: علي نعمة الحلو، الأحواز، أجزاء تتجاوز 18، عدة دور نشر، صدر أول جزء منها في العام 1996؛ وأيضا الأحواز، ماهر إسماعيل وضياء أحمد، دون ت.م.
[7] . Vilfredo Pareto, The Mind and Society, Andrew Bongiorno and others, 1935
[8] . راجع: سعيد بوسامر، أنا لغتي: دراسة حول اللغة الأم وتنميتها في الأحواز، دار نشر قهوة، الطبعة الأولى، الأحواز العاصمة 2020.
[9]. David Menashri, Education and the Making of Modern Iran, Cornell University Press 1992.
[10] . وعلى كل حال فلكثيرين تجربتهم المريرة من التعامل مع المنضالين، ممن استغل القضية للوصول إلى مآربه الضيقة: فهذا رجل من «المناضلين» تحصل على دعم من دولة خليجية، شكّل بها مجموعة من المثقفين لكتابة دراسات، سرعان ما استدرجهم بذكاء شرير، إلى العمل في التجسس وتوثيق الحراك العسكري الإيراني، مظهرا زورا للجانب الخليجي أنه يمتلك خلايا عسكرية واستخبارية، حتى يحصل بذلك على مزيد أموال باسم القضية. والحال أن هذا الشخص كاد أن يودي بعمله هذا، بأرواح خيرة الشباب المثقفين ممن لا يصلح إلا للعمل التثقيفي، وقد كان فيهم الشاعر الفيِّه، والمترجم والكاتب، والخريج من كبريات الجامعات.
[11]. Vilfredo Pareto, المصدر السابق
[12] . الظواهر القبلية والجهوية في المجتمع العربي المعاصر: محمد نجيب بوطالب، دراسة مقارنة للثورتين التونسية والليبية، المركز العربي للأبجاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، بيروت: 2012، ص36.
[13] . ماكس فيبر، الاقتصاد والمجتمع: الاقتصاد والأنظمة الاجتماعية والقوى المخلفات السيادة، ترجمة محمد التركي، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت 2015. هذا وعنوان الكتاب بلغته الأولية هو: Wirtschaft und Gesellschaft: Die Wirtschaft und die gesellschaften Ordnung und Meachte. وعليه تكون الترجمة الصحيحة القریبة والمفهومة لعنوان هذا الكتاب الشهير هي: الاقتصاد والمجتمع: الاقتصاد والنظم و«السيادات» الاجتماعية. وربما وضع المترجم هذا العنوان العربي الغير مفهوم: «القوى المخلفات السيادة» لغیاب جمع مستساغ لمفردة السيادة في العربية، تناسب استعامل ماكس فيبر لمفردة Die Macht على شكل جمع وضبطها هكذا Die Meachte.
[14] . أنظر: أحمد موسى بدوي، تحولات الطبقة الوسطى في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت 2015.
[15] . John plamenatz, Ideology: Key Concets in Political Science, New York, Praeger Publishers, 1970.
[16] . Homa Katouzian, The Persians: Ancient, Mediaeval, and Modern Iran.
شنو کل هذا النظر ه السوداویه تجاه عمل الاحوازی! صح فی خلل بس الی متی جلد الذات حضرتک تردد مقولات الاحتلال …. دلیل بطاله هو شعب الاحوازی امي .. الحمدالله شعب الاحوازي عكس باقي ملل تحت الاحتلال في إيران لم تدعم ماليا و لا اعلاميا و لا عسكريا بس أكثر خخوف النظام من الاحواز و هذا يدل علي قدرة شعب الاحوازي …. والله اعلم