1
لقد مر حين من الدهر على الدولة الفارسية وهي في غفلة عن ذاتها، ليس لها حدود هووية تحدد به ذاتها وهويتها القومية، من جهة، وتحاول من جهة أخرى تأسيس دولة قومية تخرج بالهوية من نطاقها الفردي الاجتماعي إلى النطاق السياسي والدولة الأمة. ولا نقول ذلك قدحا بالفرس وهويتهم، كلا.. بل نقول ذلك لأنه مشترك جميع الأمم، وهو نتاج فترة تاريخية لم تكن القومية بعد قد دخلت في طور بناء الدول على أساس قومي، نظير ما حصل في أوروبا بدايات العام 1648 بعد عقد وستفاليا الشهير، الذي تأسست الدول بعده بناء على القوميات لكل، وهكذا نشأت الدولة الفرنسية على أساس القومية الفرنسية، والدولة الألمانية والبريطانية إلخ على أساس الأمة الألمانية والبريطانية.
لقد كانت الدولة الإيرانية في هذا العصر، عصر الدولة القاجارية، مثلما نعلم جميعا، دولة إلى النظام الكنفدرالي أقرب، أي ذلك النظام الذي تتمتع فيه الأجزاء بأكبر قدر من الاستقلال الذاتي، يتعمم بالدرجة الأولى على الاستقلال القومي والاجتماعي ثم السياسي، وإن كان الاستقلال السياسي منقوصا لأنه لم يكن يتمتع بالسيادة التي هي ميزة الدولة التامة. لقد كانت الدولة القاجارية عبارة عن مجموعة من الحكومات شبه المستقلة التي كانت لا تذعن للسلطة المركزية القاجارية إلا بدفع الضرائب، خاصة في الأحواز حيث وبالرغم من ذلك أبت امارة عربستان (شمال الأحواز) عن دفع الضرائب لمدة ٢٥ عاما، واذا دفعت اتقاء لشرها، وليس ولاء لها أو قناعة قومية وسياسية بوحدة بينها وبين النظام القاجاري، الذي لم يكن يمتد سلطانه إلا على بعض المحافظات المركزية الإيرانية على طول التاريخ، وهي طهران وشيراز وأصفهان وكرمان ومحافظات أخرى فارسية وسط ايران، وهي المناطق التي تمثل القومية الفارسية دون باقي المناطق التي تشكل حدود إيران اليوم.
إن شمال الأحواز، في هذه الفترة التاريخية والظرف الزمني المؤَسِس، كانت تُسمى بـ« الإمارة عربستان»، يجري عليها حكم عربي بقيادة حلف المحيسن وأسرة ألبوكاسب، لا يتواجد في نطاق حكمها سوى القومية العربية، حيث كان السكان كلهم من عرب الأحواز ما عدى السريانيين في تستر والقنيطرة وباب هاني (بهبهان). ولذلك فلم يكن الاختلاط المتعمد، أو سياسة الاستيطان بتعبير أدق، جاريا أو ملموسا في هذه المنطقة، ومن ثم فلم تكن الهوية العربية أمام آخر مقبلا عليها من خارج دائرة هويتها القومية العربية.
على أن هذا الإرباك الهووي، الذي هو موضوع البحث هنا في هذا المقال، لم يتفجر بوجه الأحوازيين إلا بعد ما آل حكمهم شبه الوطني إلى الزوال، وقضي على إمارة المرازيق عام ١٩٢٤ ومن ثم عربستان عام ١٩٢٥ بيد رضا بهلوي مؤسس الدولة البهلوية. ومنذ ذلك الحين والإشكالية الهووية عصفت بوجه الأحوازيين عامتهم وخاصتهم، وبات السؤال الوجودي القومي الطابع مشكلة الكافة: هل نحن عرب أم فرس؟ كما تروج النخب الفارسية الحاكمة الآن. هل نحن عرب إيران أم أننا لا نحقق عروبتنا القحة إلا إذا كسرنا ربق العبودية للفرس الذين فرضوا هويتهم وقوميتهم ودولتهم علينا.
إن ذلك الحدث التاريخي، بكامل حمولاته، خلق لشعب الأحوازي أزمة هووية بأتم معنى الكلمة. وهي أزمة عميقة حقا، لدرجة جعلت النخب الفكرية والسياسية العربية، حتى اليوم، غير مكينة على تقديم تعريف مناسب لعروبتها (لكونها عربية) تكون محل إجماع فيها. وبعبارة أخرى كيف ينظر الأحوازي إلى نفسه؟ كيف يعرّف عن نفسه؟ هل هو عربي أحوازي لإمتلاكه هوية قومية فحسب، أم هويته تنبع عن أنه عربي إيراني؟ هل من الممكن أن يحمل الشخص هويتين دون الوقوع في تناقض جوهري في تعريف هويته؟
وعلى الرغم من أن حرية الفرد في تحديد هويته أصل لا جدال فيه، ومن حق الفرد العربي التعرّف بنفسه عربیا إيرانيا كان أم عربيا أحوازيا، بيد أن هذه الحرية هي محدودة المفعول، لا تسري سوى بالحالات الفردية النفسية، والحالات الجماعية الاجتماعية. أما عندما يتعمم الأمر هذا إلى ساحة السياسة وقيام الدول، فيتغزم ذلك الاختيار ويفقد موضوعيته، بل يصبح الحديث عن الحرية القومية والانتماء إلى الدول حديث لغو، يفتح الباب، إذا سلمنا به وأذعنا لحمولاته وعظيم تبعاته، أمام احتلال دولة لدولة، وتبرير وجود الاستعمار ومسخ الأمم.
وهنا قبل البدأ بالحديث عن الهوية الأحوازية وجدنا الحديث يستلزم مباشرة تحديد الموقف من الهوية الإيرانية. وبذلك يكون السؤال عن معنى أن تكون إيرانيًا. لأي غرض تم اصطناع مفهوم الهویه الإیرانیه؟ وما هي الآثار السياسية التي تحملها، وتترتب علیها الهویه الایرانیه هذه؟ لماذا لا يمكن للأحوازی أن يكون إيرانيًا إذا أراد الاحتفاظ بعروبته، ولماذا یجب علی الأحوازي رفض الهوية الترکيبیه المتناقضه «العربية الإيرانية»؟
وللإجابة عن هذا السؤال سأستخدم هنا طريقة تحليل الخطاب النقدي، وسأحاول أن أوضح كيفیة إنتاج الفرس لهذه الهوية التركيبية المتناقضة من خلال أطروحتهم القاضية بأیرنة الخطاب الهووي الإيراني، والتنكر وراءه.
2
يتناول تحليل الخطاب النقدي الدلالات اللغوية التي تسري في المجتمع، وبالحري تترك آثارا سياسية عظيمة؛ فهنا الغاية هي معرفة كيفية محاولة الفاعل (وهنا هو الفارسي) الهيمنة، وجعل المعتقد أو المصلحة، أو السلطة بشتى مزاياها وتبعاتها بتعبير أدق، تبدو كأنها ناموسا يسري مسرى الطبيعة[1].
وغني عن القول إن المرجعية هنا هي التحليل الخطابي الذي أتى به كل من إرنستو لاكلو وشانتال موفهْ، وهما يبرهنان على أن الحقائق السائدة لا تتكون إلا في جوف الخطابات المهيمنة التي تسيطر في فترة تاريخية معينة على الساحة الفكرية للجماعات، وتفرض عبر هيمنتها تلك مسلمات اجتماعية وسياسية يرُاد لها أن تعكس الحقيقة المطلقة، ويتم عبرها هكذا اسناد جميع المحدثات، ورفض ما يناقض السائد. ويتبين عبر ذلك أن العالم الاجتماعي صنيعة الخطاب الذي يهب المعنى له. ولا يتم هذا الصُنع إلا إذا تدخل اللسان في ذلك، لأنه يصطنع الواقع من جهة ويعكسه من جهة أخرى. إن الوصول إلى الحقيقة هنا لا تتم إلا بتوسط اللسان، ولا أمر مسلف غيره، محدد واضح المعالم. وبناء على ذلك فإن أي تغيير في الخطابات سيعني التغيير في النظام الاجتماعي برمته. ولذلك فإن النزاعات الخطابية فإنها تفضي إلى تكوين الحقائق الاجتماعية وتغييرها أو إعادة بنائها[2].
وهنا نجد العملية التاريخية الخطابية تلك التي تحرك ضمنها الخطاب الفارسي، لتأمين مصالحه القومية الخاصة، في عملية لغوية، أنشاء من خلالها كلمات ودلالات وخطاب هووی تستر وراءه أو اختفى هو معه. وكما هو الشأن في جميع أمثلة العلاقات بين المجموعات المهيمنة والخاضعة، تحاول المجموعة المهيمنة تقديم الحجج والسرديات التاريخية من أجل اثبات عالميتها، محاولة بذلك إنكار جميع جوانب الخصوصية المهيمنة الخاصة بها.
وهذا التاريخ الذي صنعته الدولة الإيرانية خير مثال لتتبع كيفية إنتاج الخطاب، واسناده من خلال جماعة مهيمنة، تحاول وضع مصالحها وهويتها في قلب خطابها، ونكران فعلها لتأسيس هذا الخطاب، وإقناع المجموعات التابعة الأخرى بأنه مُلك الجميع، وإظهاره مشارکة منهم واسهاما، وتصويره انتاجا جماعيا ومن ثم أداة يفيد الجميع. إن أخطر ما في هذه الصورة الزائفة هو الاستماتة في الحفاظ على سرية نوع الخطاب، وعملية إنتاجه بواسطة المجموعة المهيمنة، تمهيدا لإيمان المجموعات الأخرى التابعه به.
ولذلك يتبين أن إنتاج كل خطاب سياسي وهووي، بتوسط «النظام الدلالي» الخاص به، لا يتم إلا من خلال قومية مهيمنة في الحالة الإيرانية، تتمثل مهمتها في إخفاء العملية الزمنية الطويلة المدى لمولد هذا الخطاب حتى تدعی هكذا بشموليته العالمیه.
3
تسعفنا هذه المرجعية الفكرية، أعني بها analysis discourse criticalت في تبيين تلك الحالة التي تمكن فيها الخطاب من ابعاد نفسه في صناعته، حتى إذا مرت الأزمان عليه نزل منزلة الثابت الذي لا مِرْية فيه. فهنا في الحالة الأحوازية أولا وأخيرا، نرى أن المواطن الإيراني صاحب القومية الفارسية الحاكمة، لا يعترف، لا على المستوى الفردي لدى الأفراد ولا على مستوى الجماعات سواء الأحزاب أو الجماعات السياسية والمجتمعية، لا يعترف بظلم وتمييز وقع على الشعب الأحوازي ، ولا يعترف بإسقاط الحكم العربي في الأحواز على يد مؤسس السلسة البهلوية. وهكذا يستعمل القومي الفارسي المهتم بالخطاب الفارسي القومي، يستعمل في طريقة كلامه الجملة التالية: « نعم هناك ظلم وقع عليكم أنتم العرب»، مستخدما هكذا فعلا مجهولا (passive verb) يسمح له بالتنصل عن الإقرار بظلم القومية الفارسية للأحوازيين ، وسلبها إياهم حقوقهم القومية والحضارية بكامل تجلياتها، بدل أن يقول «إني أُقر بوقوع ظلم عليكم أيها العرب مارسناه نحن المنتمين للقومية الفارسية عليكم». وهناك بون شاسع بين دلالات الجملة الأولى عن الجملة الأخرى. ففي الأولى هناك إقرار بوجود ظلم على العرب بيد أن الفاعل لذلك الظلم مجهول، ولا يتبين مَن ظلم الشعب الأحوازي. وهذا يظهر جليا كيفية تستر الفاعل وراء النظام الدلالي الذي يأتي به الخطاب المهيمن.
ليس هذا فحسب، بل إننا إذا تتبعنا الخطاب المهيمن هذا، وجدنا أظهر صفاته فرض حالة على المهيمن عليه تطالبه بأن لا يخرج عن عباءة الخطاب السائد ولا أن لا ينطق بما هو يقع خارجه. فهنا إذا ارتفعت المطالبة بالحرية، وضرورة دفع الظلم، والقول بالحقوق القومية، فكل ذلك يجب، وفق الخطاب المهيمن، أن لا يتحرك ولا يعلو إلا في نطاق الخطاب السائد: ففي نطاق هذا الخطاب الحرية تجد لها معنى، وفي نطاقه أبدا مختلف الحقوق تتحدد. لا يسمح هنا للأحوازيين أن يأتوا بتعريف للحرية يختص بهم، ولا للأتراك، ممن يشاطر الأحواز بوقوعه في الشعوب غير الفارسية، ليس لهم الحق في بلورة معنى خاص للحكم أو الحقوق القومية، بل كل تلك إنما يُشتق معناها عن الخطاب المهيمن الفارسي وهو من يسمح بالحرية المأذونة والحرية التي لا إذن ولا قبول لها وبها. وهكذا إذا نشأت أزمة في الدولة الراهنة، صاحبة الخطاب المهيمن، فلا تصور لوجود حلول تأتي خارجا عن نطاق الحلول التي يقول بها أصحاب الخطاب المهيمن.
وإذا ما أردنا جعل هذه الحالة أقرب إلى الفهم، فإننا نستحضر حركة السود في الولايات المتحدة، حيث أتت حركتهم بشعار كان مفاده «حياة السود قيمة»، يتقصدون بذلك الدفاع عن قضاياهم وإشهار خصوصيتهم، لكنهم وُجوهوا مقابل ذلك بشعار مضاد للبيض يقر بأن «حياة كل البشر قيمة»، وهكذا وبوعي من العالمين أو من دون وعيهم يعني شعار البيض فرض أمر على السود أن لا ينطقوا باسمهم، وأن لا يحددوا هويتهم بأنفسهم، وعلى أنهم سود، بل المسموح لهم هو فقد تحديد أنفسهم بأنهم مواطنين.
ولعل من سخرية القدر في هذه الأوقات التي تندلع فيه ثورة النساء، أن يطلب الفرس، لا بل يأمر الفرس من المعارضين والمفكرين على حد سواء، يأمروا ألاحوازيين وغيرهم أن لا ينتفضوا ضديد النظام الراهن، وأن لا ينضموا للثورة الراهنة بوصفهم عربا، ولا أن يطالبوا بمطالبات قومية، بل إن انضمامهم غير مرحب به في هذه الحالة وهو شرخ في صفوف الثورة، وهو ترهيلا للصف، ومساندة للنظام الاستبدادي الراهن، ولكن إذا انضم ألاحوازيين بوصفهم مواطنين إيرانيين لهم مطالبات المركز ذاته، بعيدا عن خصوصيتهم ووضعهم الراهن، فحينها يكون لهم مكانة في المستقبل. لا ترحيب بلأحوازيين ما داموا يأتون بوصفهم عربا، بل الترحيب فيهم لا يتم إلا إذا أتوا بوصفهم من أهل الدولة الإيرانية والمؤمنين بها المستمتين في بقائها. إنها آلية فرض تعمل في مختلف العلاقات التي تجري بين المهيمن والخاضع، بين السيد والعبد بالتعبير الهغلي إذا شئنا التعبير.
وهذا الأمر هو ما عبرت عنه حنه أرنت في كتابها «ايخمان في القدس» حين كتبت قائلة: «إنك عندما تهاجَمُ لكونك يهوديا فيستوجب عليك هذا أن تدافع عن نفسك كونك كذلك، أي كونك يهوديا، لا بوصفك ألمانيا ولا بوصفك مواطن العالم أو مدافعا عن حقوق الإنسان»[3]. وهذا ما أدركناه نحن شعب الأحوازی، حين وجدنا الشعب الفارسي فرض علينا أن ندافع عن أنفسنا بوصفنا «عرب إيران»، لا بوصفنا أحوازيين لنا خصوصيتنا ومطالبتنا التي لا تتقاطع مع المطالبات الفارسية ولا تشبه لها قيد أنملة.
ومثلما تبين من قبل فإن أي جماعة تحاول فرض الحقيقة التي تؤمن بها على الآخرين، فهي تدأب حينها إلى تصوير معتقدها على أنه الحقيقة المطلقة العالمية المفعول، ولا يضير هذه الحقيقة أي جماعة تريد الهيمنة عليها، كما لا يهم فحوى الحقيقة هذه ومعناها. إنه منطق فرض الهيمنة على «الآخر»بكلمة واحدة. وتلتبس الهيمنة هذه أسماء مختلفة ومعاني عديدة ومبررات متفاوتة: فتارة تكون باسم الإنسانية المشتركة بين الجنس البشري، أو الإيمان بالديمقراطية (غايتنا المشتركة هي الديمقراطية) أو الدين (كلنا مسلمون) أو الليبرالية أو الأبوية، أو القومية، والمبررات من أمثال تلك كثير. إنها عالمية تقف أمام الجزئية، غايتها محو الجزئيات الإنسانية الخاصة، التي تمنح كل من بني البشر والجماعات المختلفة هويتهم الخاصة بهم المتميزة عن الآخرين. ومن هنا من هذه العالمية يكون الطريق معبدا أمام نكران الهويات المختلفة، وإتمام عملية الدمج والمسخ، وجعل المصالح الخاصة بالجامعة والأمة مستباحة لا أصالة فيها.
على أننا يجب أن نعي تمام الوعي أن هذه العالمية هي عالمية زائفة كاذبة، إنها لا تعني قط عالمية كلية تتكون عن أجزاء تحتويها وتشتق عنها، أو أنها هوية عالمية تقف على الحياد من الجميع، بل إن العالمية هنا، هي أولا وأخيرا، تعبيرا عن روح تلك الجماعة المهيمنة، وتاريخها وتطلعاتها ومصالحها، عثرت على تسمية تخدع بها العالمين، وتستمر عبرها على المجموعات والأمم المهيمَن عليها. إنها إن أمعنا النظر فيها وجدناها تشتمل على نواة صلبة فحواها هو: إننا نشبه جميعا بعضنا البعض، ولذلك لا مكانة للتأكيد على الاختلافات التي بيننا، لأنها ستفرق وحدتنا حينها، لذلك يجب علي المختلف أن يروعي عن التأكيد على اختلافه، والرضا بالهوية الجامعة الموحدة، التي تفتح الأبواب واسعا لدخول المختلفين فيها لتحولهم إلى نمط واحد هو النمط المهمين.
4
وبات جليا الآن، بعد التلميحات التي جاءت أعلاه، أن القومية الفارسية الإيرانية نشأت في ظل هذا الظرف التاريخي الخطابي السائد، عند بدايات تأسيس الدولة الأمة الإيرانية مطالع القرن العشرين. ففي الدولة الحديثة هذه، التي قامت على أنقاض الأمبراطورية ماقبل الحديثة، شعر الفرس بأنهم بحاجة إلى خطاب قومي يسمح لهم بضم الأمم الواقعة تحت سلطانهم بفعل القوة القاهرة، دون مصادمات ولا خوض حروب. ومن هنا أتت أولى المساعي لبسط الهيمنة الناعمة تلك عبر جعل اسم جديد لدولتهم، هي إيران، بعد أن كانت التسمية بلاد فارس كما نلفظها نحن العرب، أو برشيا كما يلفظها الأجانب[4]. وهذا الأمر على العكس من مجريات الدول المجاورة التي لم ترغب في استحالة الأمم الأخرى من غير قوميتها استحالتها بقويمتها، ففي العراق وسوريا كانت الدولة منذ اللحظة الأولى عربية لا تعترف بالأكراد ولم تحاول اصطناع خطاب يحتويها أو يستحيلها فيه، بل إنها لم تعترف بوجودهم أصلا، كما هو الأمر بالنسبة لتركيا التي أسمت دولتها تعبيرا عن القومية التركية صاحبة الدولة ولا اعتراف منهم بوجود الأكراد ولا العرب.
إن إيران هي خليط من عدة شعوب وأمم، ففضلا عن العرب الذين يبلغ تعدادهم عشر مليون، ينقص أو يزيد، هناك أتراك وكورد وبلوش وتوركمان، جعل الفرس لا يبلغ تعدادهم 30 بالمئة، وهذا لم يسمح لهم بالعدة والعديد بسط دولتهم بالغلبة، ما حدى بهم البحث عن أساليب ناعمة تأتي لهم بما يريدونه من هيمنة. إن الخطاب الذي أتت به الدولة الإيرانية، أو أتى هو بها، سلك مسلكا غير نكران وجود الشعوب والأمم، بل كان طريقه التزوير في صناعة الأمة، تجري إعادة صياغة المفاهيم، وقولبة الحقائق بقالب يوائم الخطاب القومي الفارسي ويحافظ على كليته المصطنعة. لقد تحصل في هذا الخطاب العنصر الفارسي مكانة الأعلى السامي، بالتزامن مع خبو العنصر الأدنى المرفوض من باقي الأمم والشعوب المستعمرة.
إن الخطاب القومي الإيراني، الذي جرف المفكرين القوميين ومنحهم السلطة بذات الوقت، خلق أطروحة الإرينة، وأخفى بذات الوقت المركزية التي تحصلتها القومية الفارسية، والسيطرة التي أكتسبتها الهوية الفارسية. وبناء على ذلك باتت تعني إيران أمة صنعها تاريخ من «التعايش التاريخي» وهكذا باتت اللغة الفارسية لغة قومية أُختيرت لتكون لغة الأمة الإيرانية عن رضا وإجماع مطبق وهي لغة الفن والأدب والعلم والحضارة[5]. اللغة الأحوازية أو الكردية أو التركية هنا تعد لغة محلية، للناطقين بها الحق باستخدامها، لكن تاريخ التعايش ذلك أثبت أنها تنحت جانبا لصالح اللغة الفارسية، عندما أدركت أنها لا يمكنها أن تتحول إلى لغة الفن والأدب والعلم، لأنها محلية لا قوة فيها في مجاراة العالم والركب العالمي للتقدم.
يطبق الكتاب الفرس، أو «الإيرانيون»، المعنين بالهوية الإيرانية[6]، على أن اللسان الفارسي هي الوعاء للإيرانية، ولذلك فالحفاظ على وحدة إيران يستوجب، بما لا مجال للنقاش فيه، الحفاظ على اللغة الفارسية لغة قومية وحيدة للدولة الإيرانية. ومن هان فالطريق سانحا لإدخال كليشة أخرى هي جعل الفارسية القنطرة لـ«الحافظ على سلامة الأراضي الإيرانية».
ويتبين أن اسم «إیران» هو الدلالة الكبرى التي تسمح بالتقنع على محورية الفرس والفارسية. فإذا كان هذا الاسم «فارستان» مثلا، أو برشيا كما كان، فحينها لم يكن متاحا للفرس التقنع أو التستر على إرادتهم في الهيمنة على باقي الشعوب والأمم. لقد تحولت هنا الأرينة إلى العالمية، أو أريد لها ذلك، لتتستر على الفارسية وتفوق العنصر الفارسي. وصحيح أن فحوى الأرينة هو الفارسية، بيد أن شكل الخطاب يظل إيرانيا، وهو قالب وغطاء لإمضاء الصفات الهووية الفارسية والمصالح الفارسية باسم العالمية. إن وظيفة العالمية هنا بسط الهيمنة، والتستر على كون الإيرانية في جوهرها تعني الفارسية أولا وبالذات. والأرينة هي اعتراف بتفوق الشعب الفارسي على باقي الأمم والشعوب الذين يُطلق عليهم، من قبل الفرس، العشائر والقبائل. ولذلك تجد الفارسي يقول بملء الفم إنه إيراني، على عكس الشعوب الأُخر ممن لا يعد نفسه إيرانيا، أو أنه ينعت نفسه بمزيد من الريبة والامتراء، وتحت وطأة هذا الخطاب، ينعت نفسه بـ «العربي الإيراني» أو «التركي الإيراني» أو «البلوشي الإيراني» إلخ. ولا تجد قط ذلك عند الفرس الذين لم يُسمع عن أحدهم يوما أنه قال إنني «فارسي إيراني». إنهم ليس لديهم سوى تعبير واحد عن الإيراني، هو الفارسي. إن الإيرانية لديهم تعني، بالآن ذاته وبنفس الدلالة والقوة، الفارسية. وبناء على ذلك فلن يُثار لدى الفارسي أبدا السؤال عن نفسه هل هو «فارسي إيراني»؟ أو هناك فارسيا قد يكون غير إيراني؛ على العكس تماما من الأحوازي الذي ينصدم يوميا بهذا السؤال، ليحدد هل هو عربي أحوازي فقط، أم إنه «عربي إيراني»؟
ویفید الخطاب عن الكلمات والمفاهيم والدلالات أنها ليست قارة أبدية مجردة عن المصاديق، بل إنها تتولد في سياقات تبلور السلطة والقوة[7]. وبناء على ذلك فإنْ تموضع الشعب الأحوازي في تكوين السلطة موضع المهمين، لكانت حينها الإيرانية تعني العربية الأحوازية، مثلما فعل الفرس حين هيمنتهم التي حملوا فيها الإيرانية معنى ضمنيا ومسلما هو الفارسية، جعل الإيرانية تقف على أساسين: محورية الفرس، وتفوقهم. فعلى سبيل المثال تم تقدير اللسان الفارسي، من قبل طائفة من المفكرين الفرس/الإيرانيون كبيرة وجد كبيرة حتى لتكون المطلقة بينهم، أجل قُدرت الفارسية على أنها اللسان الرسمي للدولة، وهو محل تحديد الإيرانية عن غيرها.
ولكن إلى جانب ذلك فقد احتلت دعوة الحفاظ على «سلامة الأراضي الإيرانية» ونطاقها الجغرافي مبدأ مقدسا تشتق قدسيته من مبدأ سياسي أخلاقي. وبناء على هذا المبدأ القدسي لا يمكن للكردي أن يدعي حقا في موطنه كوردستان، ويعد نفسي إيرانيا، لأن الإيرانية لا تعني سوى الإقرار والإيمان بوجود سلطة سياسية وحيدة موحدة تتنزع هويتها من الإثنية الفارسية. وبالمثل فلا يمكن للشعب الأحوازي أن يكوَن قوة عسكرية قومية تنبع من العرب، ما دام يسمي نفسه إيرانيا ويحيى في دائرة إيران. كما لا يمكن للشعب العربي الأحوازي إيجاد علاقات مع أمم أخرى والدول الباقية، ما دام هو إيراني. وبجملة واحدة فلا يمكن لعرب الأحواز أن يحاولوا إقامة سيادة قومية عربية أحوازية على كافة ربوع الوطن الأحوازي، في كل من شمال الأحواز (خوزستان) وبوشهر ومناطق من عيلام وهرمزكان، إذا كانوا إيرانيين.
إن الأحوازية هنا هي هوية تمنح المجتمع العربي الأحوازي محددات قومية نظير: الجغرافيا الأحوازية، والتاريخ المشترك، والثقافة، واللسان، والسنن والعادات، منحها لهم رؤية كونية مشتركة بينهم، جعلت مصيرهم مشتركا يناط بهم جميعا. إن العربية هي هوية قومية، منها تُشتق الأحواز وتجد لها معنى. ولا تعني العربية الانتماء إلى الأحواز حصرا، بل إنها تعني العرب قاطبة. ومن هذه الزاوية تعني الأحوازية حق سيادة الإنسان والشعب العربي على ذاته ومصيره، بمثابته صاحب الأرض والوطن الأحوازي. ومن أجل ذلك قررنا أن الأحوازي لا يمكن له أن يكون إيرانيا.
إن هذا لبرهان يقف على أساس رفض عد الأحواز جزء من إيران، وهذا برهان كفيل بنسف الأرينة والرازخين في قيدها. لا يمكن الحديث عن هوية قومية أحوازية دون نسف نسيج الأرينة وتكوينها التاريخي المحشو بالهيمنة وفرض التسيطر. إن أولى الخطوات في تكون أي خطاب قومي متماسك هي التحرر من قيد رواية الخطاب السياسي-الفكري للأمة الفارسية بوصفها القومية المتعالية. على أن هذا البرهان صالح تماما لحالة باقي الأمم والشعوب من ترك وكورد وبلوش إلخ ممن يروم التحرر ويرنو إلى الاستقلال والحرية.
ولعل من جملة طائفة التناقضات التي يحملها الخطاب الإيراني هو التناقض الكامن في رصيده اللغوي المفاهيمي: فنحن كثيرا ما نسمع عن تركيب «الإيراني عربي الأصل» بينما لم نسمع قط يوما عن «إيراني فارسي الأصل». كما نجد الكثير من الأسماء الدالة على أذربيجان، وهي اسم محافظة وفق التقسيم الإيراني، أو على كوردستان أو بلوشستان وعربستان، التي شطبوها من الوجود، بينما لم نجد منطقة أسمها فارسستان مثلا أو نحو ذلك. ثم لماذا يستعمل الخطاب الإعلامي بكثرة ووفرة مصطلحات نظير «عربي اللسان» أو «تركي اللسان» أو «كوردي اللسان» أو «بلوشي اللسان» لوصف القوميات والشعوب المذكورة، ولا نجده إلبتة يوما يستعمل تركيب «فارسي اللسان» لوصف الفارسي. أجل تلك تنقاضات لغوية لها دلالاتها وحمولاتها المجتمعية والسياسية، من دون شك، لا يجب قط التقليل من خطورتها، والتعامل معها بغلفة التعامل مع الصغائر، كما يفيد بذلك تحليل الخطاب النقدي.
5
وبعد إذا عدنا إلى ما صدرنا به هذا المقال وقررنا، كرة أخرى، أن للأحوازي الحق في تحديد هويته، حتى إنْ خالف المبدأ الذي قلنا به أن التحديد الهووي لا يتعدى على الهوية السياسية القومية بل يظل محصورا في نطاق الهوية الفردية والمجتمعية، إذا صرحنا بذلك الإقرار فحينها على الأحوازي ذاك أن يدرك أن عملية التحديد الهووي هذا القاضي بأنك «عربي إيراني»، تخفي في مطاويها عملية من الهيمنة ونكران الذات، شرحناها أعلاه بما فيه الكفاية، وهي من جنس من لا يرومه حر ولا يرتضيه أبي.
ولكن على الرغم من ذلك فعلى الأحوازي الذي يريد تحديد هويته السياسية بـ«العربي الإيراني» أن يجيب على التناقضات الكامنة في هذا التحديد، ويكون عليما بتبعات ذلك التحديد السياسية والاجتماعية: هل القومية العربية الأحوازية هي تعبير عن شعب وأمة؟ أم أنها كما يقول الفرس فيها مجرد جماعات قبلية وعشائرية أو إثنية بأفضل الأحوال جذورهم تعود إلى عرب مستعربة؟ وإذا ما كانت الأحواز عبارة عن موطن لشعب عربي فماذا ستكون علاقتها بإيران وشعبها الفارسي؟ هل يمكن لشعب أن يكون شعبا وهو ينتمي لشعب آخر؟ وبعبارة أخرى هل يمكن أن يكون الأحوازي عربي ينتمي للشعب العربي بالآن الذي ينتمي إلى الشعب الفارسي؟ أما يلوح في هذا السؤال ارتباك ليس على مستوى المفاهيم والمصطلحات بل على مستوى أدنى مراتب الفهم واللغة؟
كيف يمكن لمن يلتبس هوية «العربي الإيراني» التخلص من هذه التناقضات: فهو من جهة يقر بأنه أحوازي قوام هويته تشتق عن كون الأحواز شعب عربي، بينما يقر بالآن ذاته بأنه إيراني، والحال أن مفهوم إيران لا يمكن أن يدل على شئ إذا اعترف بالأحواز شعب وقومية. لا يعترف كما رأينا، وكما يدل التاريخ والواقع المعيش كل يوم، الإيرانيون بوجود أمم في نطاق إيران غير الأمة الفارسية، وبناء على ذلك فلا وجود لشعب وأمة أحوازية، لها موطن جغرافي محدد، عاشت فيها تاريخا تليدا، صنعت فيه ثقافة مشتركة تختلف عن الفارسية، وإرادة عيش مشترك لا تقاطع الفرس تطلعاتهم، ورؤية كونية لا تضارع الفارسية ولا تقترب منها إلخ.
إن ما يكتسي خطورة قصوى هو أن يعي الأحوازي أن غاية الخطاب الإيراني، منذ تأسيسة لغاية الآن وبالضرورة المنطقية التي لهذا الخطاب، لا يمكن له أن يعترف بالأحواز شعبا وأمة، وأن الأحواز هي موطن العرب الأحوازيين، لهم الحق في السيادة عليها، وتقريرهم المصير. ولعل ذلك التيار السياسي الذي يطلق على نفسه «عربي إيراني» هو الأولى بالإجابة عن هذه الاستفاهمات والتناقضات؛ لأنه يظن بسذاجة أن إقراره بهذه الهوية المستحيلة منطقيا، كما رأينا، لن يجني له أولا اعترافا من الإيرانيين به بأنه ينتمي إلى شعب وأمة، ولن تحقق له ثانيا النظام الفدرالي الذي يطالب به.
إن على الأحوازيين، ممن ينادي بأنظمة حكم فدرالية أو كنفدرالية لإيران القادم، أن يعي أن هذه الأنواع من أنظمة الحكم ليس لها صلة بالموضوع المحوري الخاص بتحديد الشعب الأحوازي والقومية الأحوازية ونطاق حقوقها القومية والسياسية، لأن الهوية القومية لا تتحدد بهذا النوع من النشاط أو لنقول جدلا شبه التفكير السياسي. ولذلك فعلى جميع من يروم الخروج بالأحواز من مجرد جماعات عربية عائمة في المخيلة، إلى قومية عربية أحوازية، بجميع حمولات هذه الهوية، أن يجعل المنطلق المطالبة بحق الأحوازيين في تحديد هويتهم القومية، والإقرار بحقهم في تقرير مصيرهم بوصفهم شعب له خصوصيته مختلفا عن العالمين، وفي مقدمتهم إيران والفرس.
رحيم حميد باحث في معهد الحوار للأبحاث والدراسات
المصادر
[1] . نورمان فاركلوف، تحليل الخطاب: التحليل النصي في البحث الاجتماعي، ترجمة طلال وهبة، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2009.
[2] . إرنستو لاكلو وسانتال موفي، الهيمنة والاستراتيجية الاشتراكية: نحو سياسة ديمقراطية راديكالية، ترجمة هيثم غالب الناهي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2016.
[3] . حنه أرنت، ايخمان في القدس: تقرير حول تفاهة الشر، ترجمة نادرة السنوسي، ابن النديم للنشر والتوزيع، الجزائر 2014.
[4] . أمرت الدولة الإيرانية في بيان رسمي لها وزعته على جميع السفارات لديها، في 27 من ديسمبر من العام 1934، أن تستخدم الدول تسمية إيران بدلا عن برشيا أو برسه.
[5] . محمد توكلي طرقي، تجدد بومي و بازانديشي تاريخ، نشر تاريخ ايران، تهران 1382.
[6] . أنظر في ذلك كمثال صارخ على هذا الخطاب المهيمن المستحيل للجميع والمقولب لهم في هوية فارسية يتمية دون غيرها، جميع كتابات الكاتب سيد جوادطباطبايي الذي هلك مؤخرا.
[7] . باتريك شارودور ودمينيك منغنو، معجم تحليل الخطاب، ترجمة عبدالقادر المهيري وحمادي صمودي، دار سيناترا، المركز الوطني للترجمة، تونس 2008.
بارک الله فیک استاذ رحیم