المدخل
أردت لعنوان هذه الدراسة الدلالة على موضوعها: فهنا أتناول أهم الأسباب التي تصب في صالح تعزيز بقاء القبيلة، بكامل مظاهرها وحمولاتها، في العصر الراهن، وأسميت تلك الأسباب المضافرة لاستمرار وجود القبيلة بالـ«معوقات» لأن وجهة نظري تعد القبيلة ووجودها معوقا رئيسا أمام الدخول إلى العصر الحديث، وتأسيس بنيات ومظاهر حديثة تتناسب مع عصر الحداثة، أكثر من تناسب القبيلة معه، مثلما أُقدرها مانعا جسيما أمام تحول المجتمع الأحوازي إلى قومية جامعة تترابط بمقومات القومية المعروفة الحديثة. ولكن إلى جانب تلك المعوقات فلا نحتاج إلى التصريح بأن القبيلة ليست على عهدها السابق، العهد القديم، بل هي تعرضت إلى تحولات كبيرة، واصطدمت ببنيات ومظاهر مختلفة فتَّت من قوتها، وزاحمتها في تأديتها الأدوار: وقد أسميت هذه الأمور بالـ«عوامل» التي تساعد في إضعاف القبيلة تمهيدا لدحضها، في سبيل بناء مجتمع قومي يدخل التاريخ، التاريخ القومي.
وبخصوص طريقة الكتابة هنا فإنني لم التزم منطقيا بحصر الكلام في نِقاط القوة عند ذكرها، والابتعاد عن تسجيل نقاط نقدية ضديدها: وذلك استراحة للقارئ كي لا يعاود إلى فقرات في الدراسة سَبَقت، عند عثوره على ملاحظة نقدية تخص فقرة سابقة، من جهة؛ وعدم مقدرتي من جهة أخرى على كبح جماح تلك العقيدة الإيديولوجية الصارمة التي تخالجني وتعادي القبيلة وتبغضها بكامل ممادحها ومذامها ومختلف تمظهراتها، علَّه بغض لكل منظومات قَبْلية مُسْلفة لا تدور في مدار عقل البشر وما يقرر كل حين.
وبَعْدُ فهذه دراسة وجيزة تنقسم إلى لحظتين: أولهما هي البحث في المعوقات التي تساند بقاء القبيلة؛ وثانيهما العوامل التي أفضت إلى إضعاف القبيلة؛ قد تفضي، حال تَبَنْينها وتمأسسها إلى إزاحتها من الوجود وصناعة بدايل لها.
المعوقات المساندة لبقاء القبيلة
لم يستطع العالم الحديث النيل من البنيات القديمة المتوارثة والمتجذرة في المجتمعات العربية على العموم، والمجتمع الأحوازي موضوع البحث هنا على وجه الخصوص، فتبقت فيه من البنيات والحمولات المشتقة عنها: من نمط معيشي وقيم وأساليب تعامل و«أخلاق» إلخ، ما لم يتمتع باستمرار تأثيره على الأفراد والجماعات فحسب، بل أخذ ينافس بقوة المأتيات الحديثة، الناتجة عن إفرازات الحداثة من جهة، والخاضعة لناموس التغيير في المعمورة من جهة أخرى[1]. وهذه الحقيقة تلح بكثير على المتتبع الاجتماعي، وعالم الاجتماع سيان، الذي يريد تحليل هذه المجتمعات من زاوية علم الاجتماع.
وإذا أردنا عد أهم تلك المعوقات التي ما زالت تعزز وجود القبيلة في الأحواز وجدنها كالتالي:
-
استمرار الفعل التناصري
يتقوم هذا الفعل التناصري الخاص بكل قبيلة، والضيق الأطر القائم على مناصرة «الأخ ضديد ابن العم، وابن العم ضدا على الغريب» (يتقوم) بذلك الدعم، المتوفر على الدوام وبمحض الطلب، الذي يتلقاه أفراد القبيلة إذا تعرضوا لمن يريد مجابهتهم بصفة عامة. وفي هذا الفعل تنشَّد هِمم الجماعة المنتسبة إلى جد مشترك، وهمي أو واقعي، عند أقل مواجهة مع جماعة قبلية أخرى، مناصرة لفرد أو جماعة منها وقع ضيم عليها، أو تجاوزت على أخرى[2]، طلبا للمجد أو مجرد نزاع غريزي، يكثر في الحالة الأحوازية، بدوافع يسيرة يأتي بها أحد أفراد القبيلة، أو نزوة من النزوات.
وإذا ما اخترت القول الوجيز هنا بديلا عن الإسهاب الوصفي حَصْرتُ حينها أهم آليات تمظهر الفعل التناصري ذاك في اثنين: آلية تسديد «الودي» وآلية دفع «الفصل». ففي الآلية الأولى تكون المغرمة التي نزلت على القبيلة، نظير تكلفة مراسم تدفين متوفى، رجل كان أو إمراءة، تنقسم على عدد الرجال، ويتم فيها تسديد حصة كل رجل من المال، وتقديمه إلى البيت من بيوت القبيلة ممن فقد أحد أفراده. ولأن الأمر هذا معروف لدى الأحوازيين فلا أطيل في شرحه، بل كل ما أريده هنا هو وضعه في سياق تفسيري يشرح مكانته في العالم الحديث، ومآلاته المجتمعية:
وتعمل آلية دفع الودي على شد الأفراد بعضهم لبعض من جهة، وتعزيز الانتظارات فيهم حول وجود سند مالي مستديم، يتجاوب مع حاجاتهم على الدوام، من جهة أخرى. وتعمل هذه الآلية في اتجاهين: اتجاه يكون الفرد والجماعة فيه متمتعين بـالتلقي، تلقيهم الدعم، واتجاه آخر تجعلهم ينتظرون رد هذا الدعم لهم في الحالات المشابهة التي يكونون فيها هم أهل الحاجة لذلك الدعم الذي كان في الأمس القريب صادرا عنهم. فهنا المفعول مزدوج: يهب من جهة، ويتلقى من جهة أخرى. وغني عن القول أن هذا النوع من البذل والأخذ يعيد إنتاج العلاقة التناصرية، ويجعل منها متلاحمة مع مُحْدثات الأفراد والجماعة، ويحايث حياتهم اليومية التي هي محل أخذ وبذل.
وبالمثل تعمل الآلية الأخرى، آلية الفصل؛ فهي تمنح هنا سندا ماليا كبيرا، بالدرجة الأولى، إلى جانب منحها سندا معنويا من التناصر والتساند، تجعل الجماعة على متكئ يسارع لنجدتهم حال حاجة لتلك النجدة. فهنا عند وقوع جريرة يأتي بها الفرد أو الجماعة، تستوجب القصاص، القصاص المادي، يتوزع فيها ذلك الفرض المادي الواجب تسديده للمجنى عليه، على رؤوس الرجال، ويكون المجرم مُساندا من جماعته وقبيلته في المغرمة التي يجب عليه تسديدها.
آلية الودي والفصل إذا، هما آليتان تغذيان الفعل التناصري داخل القبيلة، وتعيدان معا قوتها وسر استمرارها في العصر الحديث، على الرغم من جميع الدوائر الحديثة المجتمعية التي تتخلف عن منح مثل ذلك المنح والتناصر المادي بالذات، والمعنوي بالعرض. نحن هنا أمام مال وفير تخصصه القبيلة لجميع أفرادها، أي لذاتها بذاتها، مال يُبذل عبر الفعل التناصري، ويجعل الفرد الذي يخصص مالا من أجل التستر على جريرة لم تكن من عنده غير عليم بها، تجعله يدفع المال كأنه يدفعه لنفسه، لأنه هنا على يقين بأنه سيتلقى نفس المال حال تعرضه لموقف مشابه هو وذوي قرابته، لأنه مال خُصص لمن نُسب إلى جد مشتركُ القبيلة[3].
-
الدور الردعي
إن النظام القبلي في الأحواز، في جزئية تأديته الدور التصادمي الحربي والردعي، قائم على أساس استعداد تام بين القبائل للتجابه مع أية قوة خارجية، خارجة عن نطاق القبيلة بكل تأكيد، والذب عن الكيان القبلي الوهمي في الوقت الراهن كل الوهم. فهنا وفي ظل الغياب المتعمد للجهاز الشُرطي والحكم المتوفق المتعمد، تعمل شكيمة القبائل على ردع أبناء القبائل العربية الأحوازية الأخرى من التجاوز على بعضهم البعض. إن التجاوز على مال الفرد أو عرضه أو سمعته إلخ، سيجابه، أولا ومن دون روية أو إيحالات مدنية مغيبة إلى حدود ملحوظة(الموضوع الذي أشرحه في فقرة متعاقبة)، يجابه من جانب قبيلته، فتفزع له هي في مثل هذه الحالات بجميع قوتها وأفرادها من أجل إعادة حقوقه إليه، وإيصال رسالة خطيرة إلى القبائل الأخرى تصرح باستعدادها التام من أجل الدفاع، إبعادا لشبهة ضعفها وصمتها أمام أي عدوان يقع ضديدها[4].
هذه الحالة بالتحديد: حالة استعداد القبيلة الضمني للذب عن جميع منتسبيها حال تعرضهم لضيم، وهذا الاستعداد القريب للتحول إلى الفعل الصراح، هو بعينه الدور الردعي للقبائل مقصود الحديث في الفقرة هذه. فهنا تهب القبيلة على قلب رجل واحد من أجل الدفاع، مأولة العدوان على أحد أفرادها عدوانا على جميعهم. ومن أجل ذلك لا يجد الأفراد في مجتمع فيه العدوان حديث الساعة وحدث يومي، لا يجد الأفراد مندوحة من التمسك به، والابتعاد الحاذر من التراخي فيه والتخاذل، خشية أن يقع كل من تراخى في سبيله أو خاذله في موقف معين يجد فيه نفسه محروما عن هذا التناصر والردع، بين فكي كماشة أبناء القبائل الأخرى المعتادين العدوان والتجاوز، في مجتمع لم يؤسس بعد قوة فائقة ينفض بها النزاع في نظام قضائي واضح الحدود والمغارم.
-
النظام القيمي
وإذا كان أفراد القبيلة وبيوتها تتلقى دعما ماليا عبر الودي والفصل، وتتوفر على رجال شداد مستعدين لبذل النفوس حال تعرضهم لعدوان، مثلما قلت في الفقرتين السابقتين، فإن الطريق من هنا إلى فيضان ذلك بمنظومة معنوية ليس ببعيد. أجل إن التعايش القائم على أساس مادي واضح وملموس لدى الأفراد، يتجلى في آليات محددة، ويتعزز بمدافعين مستعدين للتضحية في سبيله، يأتي بأساليب لحياة الفرد والجماعة، ينتظم طرائق تعاملهم وسلوكهم اليومي، ويجعلهم يسيرون وفق أنماط في السلوك محددة.
وإذا ما أردنا استعراض أهم ما تتميز به القبيلة، ذات الفعل التناصري المادي والردع المستعد المعنوي، فإنها تتميز بسلوكيات أخلاقية عديدة، نسجل أخطرها تأثيرا هي: الأبوية، والعنف. إن النظام الأبوي الذي يتصف به المجتمع الأحوازي ليس صنيعة عبط فيهم، بل هو نتاج طبيعي ومحتوم، إذا شئتم، لنمط الحياة السائد بينهم. فالقبيلة كما رأينا في أُولى تدرج وجودها عبر النظام التناصري والردعي، هي مجموعة من الرجال، المحاربين، الذين بقوة شكميتهم وثباة عزمهم للذب عن المجموعة (القبيلة) يناط وجودهم معا كمجموعة، وحال تفتت عزمهم يكون انحلال عرى الجماعة أمر منقضي[5]. ولذلك فالأدوار الرئيسة الحيوية، المناط بها الوجود، تنحصر في عداد المحاربين أولئك، ولا يتبق إلا عدّ النساء والبنات من النوافل الذين يأتي تدرجهم الوجودي أدنى من الرجال، وفي سبيل تكاثرهم وتوفير ما يحتاجونه من أجل تأدية الدور الوجودي ذلك.
وإذا كان وجود القبيلة، في حالة النزاع القبلي الذي هو سمة التاريخ، تاريخ القبيلة الذي يثبت أنها قوة بدائية وُلدت من أجل الصراع على البقاء، التاريخ الذي لم يسجل غيره بشأن دور القبيلة، فإنه من الطبيعي أن يكون سلوك العنف هو السمة البارزة لثقافتهم وجميع تمظهراتهم. وهنا لم أستخدم مفهوم الشجاعة بدلا عن النعف، لأن الشجاعة تعني سلوكيات فيها من المروءة قد تجعل من استخدامها مديحا أكثر منه وصفا مجتمعيا.
ويتقوم السلوك القائم على تقديس العنف في المجتمع القبلي الأحوازي بثلاث مقومات: الفروسية، والنخوة، والاعتداد بالنفس. ففي سلوك الفروسية ترى الرجل القبلي لا يهاب المنايا في نطاق ضيق، نطاق الاصطدام مع قبيلة أخرى تساوي قبيلته القوة، وترصده فارسا يصاول أضرابه بعنف منفلت. على أن هذا الاعتياد على العنف،الناتج عن تجذر سلوك الفروسية تجعل من الفرد القبلي إلى الحيوانات العجماوات أغرب: فهو في حياته اليومية أيضا يمارس العنف ذاته في جميع جزئياتها؛ وإذا شئنا التدقيق هنا أكثر، نرى هذا العنف يتسربل إلى الحياة الزوجية أيضا، فلا مجال هنا للترفق بالزوج ولا بالأطفال إناثا وصبيانا، بل يجري هذا العنف في التأديب: فتكون حينها الزوجة مجرد منجبة تكثر من الرجال المحاربين العنيفين، والإناث من البنات مجرد نساء يجب أن يتمتعن بقوة للإنجاب وإنجاب الذكور. (يذكر محمد عابد الجابري في كتابه الذي ضمنه سيرة حياته، «حفريات في الذاكرة من بعيد»، إن الرجل في الحياة الزوجية القبلية البدوية التي عاشها في طفولته، كان يدخل حجرة زوجه سرا في عز الليل، واشتداد الظلام، فإذا أراد مجامعتها ألقى على وجهها غشاوة لا يميطها عنها إلا بعد انتهاء الجماع معها. والحالات في المجتمع الأحوازي مثل ذلك كثير. ألا يعد ذلك تجل من تجليات العنف المتجذر في فطرة الفرد نتيجة الحياة القبلية العنيفة التي اعتادها؟)
إن العنف هنا يتحول، أو يحول هو بفعله الرجال إلى حياة جافة تتجلى في جميع الجهات الحضارية والإنتاج الثقافي.
أما بالنسبة للنخوة في المجتمع الأبوي الأحوازي ، فهي إحدى سمات القبيلة، وتعني لمن قد يلتبس عليه معنى النخوة: الاستعداد لتلبية طلب الطالب، ماديا أو معنويا أو مشاركة في التضحية في النفس (وإنْ رغب أحدكم هنا في البسط في شرح معنى النخوة، فيمكنه العودة إلى كتاب العقل الأخلاقي العربي لمحمد عابد الجابري، مرة أخرى، يسمى فيها النخوة بالمرؤة ويشرح صفاتها حتى يجعل منها العرب أصحاب أخلاقا ملائكية!). فهنا يكون الفرد القبلي مكمنا لتلبية طلبات الآخرين، لمَ لا وهو اعتاد في نشأته في القبيلة المشاركة في بذل المال لأصحاب القبيلة، وبذل النفس لردع الآخرين: وإذا كانت النخوة تعني في بداية تكوينها، وهي ملازمة أفراد القبيلة وجماعتها ملازمة الطبع، أجل إنْ كانت تعني خلالا حميدة فإن الغور في كنه هذه الخلة الحميدة، واستكناه حقيقة مدلولها، يظهر فيها منفعة فردية لا غبار عليها: فإذا كان الفرد يفزع «منتخيا» إلى أفراد قبيلته مُؤْثرا إياهم على نفسه بالمال والنفس وأعز ما يُطلب، فإنه في مقابل ذلك لا يرتاب بأنهم سيردون الجميل بالمثل له، أم هو أكثر. ومن هنا كان الامتناع عن رد الجميل مسبة وعار، ومن هنا بالتحديد تلك الأمثال المتداولة التي تأمر بوجوب القيام على ذُكُر من الجميل، والاستماتة برده أو أفصل منه، فحال تنكر الفرد للجميل لحقت به مذمة وأسقط من عداد الرجال الأجواد: يقول المثل العربي المأثور: «راعي الأولى لا ينلحق» و«الدنيا دين بدين حتى دمعة العين»… وإذا كانت هذه الأقول المأثورة تتردد على الأفواه بلهجة دارجة، فإن نصها ومضمونها عربي أصيل فصيح. وعلى ذلك يظهر جليا أن النخوة التي طالما تفاخر العرب بها، من أبناء القبائل وأهل السلوك القبلي، فهي في حقيقتها استثمار مستقبلي، وإيداع للمنفوق عند المقدرة لسحبه عند العَجَزَة.
وفي ترابط سلوكي فيه اتساق على خلال الفرد القبلي، فتراه رجلا (أي مثال الإنسان) يتمتع بالاعتداد بالنفس إلى أبعد الحدود، فهو يرى في نفسه كيانا مستقلا ومناط الشأن العام. وهذه العبارة التي أكدتها تحتاج إلى قليل شرح: إن الفرد القبلي، في بادي الرأي، هو أب وزوج وتجل لكامل سمات القبيلة من نخوة(=وكرم وتضحية) وعنف لا تتهيبه المنايا يجر الدنيا بقرنها… ليس في ذلك شك. ولكنه في جميع تلك المظاهر لا يعني فردا قائم بذاته، بالمعني الحديث للكلمة وفاعل للمعرفة فيه فردانية متمخضة عن تشخصه، كلا إنه إنْ كان فارسا مغوارا عنيفا، فهو في ذلك فارسا إلى جانب قبيلته مُسْند بها عنيفا أمام عنف على مقدرة عنف قبيلته في توازن تام أو يكاد مع قبيلة متحاربة، وإنْ كان كريما فهو ينفق ليجني عما قريب، وهكذا فكل شيء فيه قد يوهم بفردانية واعتداد بالنفس فردي، فهو في حقيقته يناط معناه ووجوده بمعنى قبيلته ووجودها. ولذلك عندما يصطدم الفرد القبلي الباسل العنيف هذا أمام قوة تفوقه، أو تفوق قبيلته، تراه ينمليء منها رعبا ويولي منها الأدبار. وإذا أردنا التعبير بمثال في واقعنا الأحوازي بناء على ذلك، فهمنا حينها تلك الخشية الجبارة في نفوس الأفراد من المحتل الفارسي، وأجهزة حكمه واحتلاله. ففي هذه الحالة التي رأى فيها الأحوازي القبلي قوة تفوق قوة قبيلته بمراحل انكفأ على ذاته، وفر من ساحة التصادم. وهاتيك مثال آخر: كلنا قد رأينا ونرى يوميا إنه إذا قتل أحوازي أحوزايا، أي قتل فرد من أفراد القبيلة فردا آخرا من أفراد قبيلة أخرى، تطايرت الرؤس بعد ذلك، وتهب القبيلة الموتورة على شكل غزو بدائي فتحرق بيوت الجاني وتسبي النساء(وهذه من أحدث المظاهر التي أخذت تكثر في يوم الناس هذا) ولا تذر… لكن القبيلة ذاتها إنْ قُتل فردا منها على يد شرطي بسيط، فارسي آت من أقاصي «إيران» من شمال شمالها، فهي ترعوي وتلتزم الصمت، وتستجدي الأمن من أجل الكف عن ملاحقة باقي أعضاء أسرة المقتول، بلِه الثأر والحرق؛ ويبق الشرطي ورجل الأمن القاتل متمعتا بحريته وجبروته يجوب ربوعهم باغترار وتحد.
ما سر ذلك؟ ما سر الباسل في الصراع القبلي بالأمس، خوارا في مجابهة قوات الاحتلال بالأمس واليوم، والغد إن تبق على قبليته؟ إن السر يكمن في تفوق المقدرة: فالرجل القبلي غذَّى بسالته العنيفة في ميدان يشهد تساويا بالقوى، فإذا اختل توازن القوى هذا لصالح المعتدي، ذهبت تلك البسالة حينها تَذْروها الرياح. على أن تفوق القوى لصالح المتفوق الإيراني الفارسي وفق المفردات القبيلة، ليس بالأمر اليسير، فهو يحمل في طياته شتى صنوف العقاب من السجن والمطاردة والتهجير والفقر إلخ، وكل ذلك محل ارتياب البشر عامة وليس صاحب العقلية القبلية فحسب.
ضعف الجهاز القضائي المحتل
إن إعادة إنتاج القبيلة، وتجديد تمظهرها ليس ناتجا عن فراغ.. ليس في ذلك شك. إن استمرار القبيلة يعني، بكل قوة، تمكنها من تأدية أدوار تجعلها بنية أو نظاما جديرا يتعاطى مع الحياة اليومية للأفراد والجماعات ويجيب على أسئلتهم وينتظم حياتهم العامة والخاصة. إن استمرار بنية ما في الوجود يعني حيزاتها الصلوحية.
إن النظام القضائي الذي أتى به النظام الإيراني، منذ بناء دولته المزعومة إلى عصر الجمهورية الإسلامية، نظام معطوب ينخره الفساد، وفيه مضيعة للحقوق وتسويفا بها: فهو إداريا يعاني من معاطب بنيوية نوجز القول في عنوانيها: أولا نظام قضائي ثنائي منشطر، يشهد نزاعا منذ ميلاده بين الأحكام العرفية الدنيائية التي أتى بها النظام الملكي العلماني البهلوي، والأحكام الدينية التي تحافظ عليها المرجعية الشيعية القوية. ثانيا هو نظام صوري غير ماهوي لم يشهد انفصالا حقيقا بين السلطات الثلاث: التنفيذية والقضائية والتشريعية. ثالثا: هو نظام مأدلج في الجمهورية الإسلامية يقسم الناس بين المؤمنين بالإيديولوجيا الحاكمة، أي الموطنين من الدرجة الأولى، والآخرين الجاحدين، أي المواطنين من الدرجة الثانية؛ وبالمثل هو مؤدلج في إطار أعم يفرق بين الفرس، أي أصحاب الدولة والعرق السامي، وبين غير الفرس من العرب، أصحاب الهوية المغلوطة أو الدنيا. ورابعا هو نظام يعتوره البلي الإداري يسري فيه الفساد إلى الرأس، حتى جعلت منه الرشاوي، على سبيل المثال لا الحصر، العقوبة لا تُقام إلى على الفقير فاقد الجاه والمال. وخامسا: هو نظام يعاني من بطئ في البتِّ، يجعل أصحاب المظالم في يأس من تظلمهم فيه. (سأتناول في فقرة لاحقة التأثير المزودج للنظام القضائي هذا: فهو من جهة معززا للقبيلة، مثلما سأقول هنا، وهو من جهة أخرى مزاحما لها، كما سأقول هناك).
وفي هذه الجزئية بالتحديد، جزئية فساد النظام القضائي للدولة برمته، تأتي القبيلة في الأحواز منافسا قويا أمامه، فتسحب البساط من تحت أقدامه: فالعُرف التشريعي الخاص بالقبيلة، أولا وقبل كل شيء، هو تمخض عن طبيعة القبيلة، وتكوين المجتمع العربي الأحوازي، ومتناغما معه ومع السلوك الفردي والجماعي فيه إلى حد التماهي بينهما: فهي منظومة تعكس واقع الحياة التي اعتادها القبلي بقبيلته، أو القبيلة بأفرادها ليس ثمة فرق: وأهم إثبات لذلك الصفات التالية التي تمتاز بها «المحاكم» القبلية:
أولا مرونة الأحكام القبلية الخاصة بفض النزاع: فهنا نحن لسنا أمام أحكام صارمة مقننة من قبل مدونة، ولا منظومة تشريعية متمخضة من فقهاء قانون.. كلا نحن أمام أحكام مرنة إلى حدود بعيدة، تجعل من كل حكم حكما خاصا لا يُقاس عليه مستقبلا لحالات مماثلة، بل هو صنيعة جلسة للشيوخ، ومدى نفوذهم على شيخ قبيلة المُجنى عليه، ومدى اصطحابه شيوخ ووجهاء لهم التأثير في تخفيف الحكم الذي يطالب شيخ المَجني عليه. فهذه الأحكام لا تنظر إلى طبيعة الجرم بحد ذاته، بحد ما تنظر إلى السبب الذي أدى إلى الجريمة، ويكون تعليق الحكم مشتق عن سبب معنوي لا مادي، إنشائي غير خاضع للتصديق أو التكذيب. فإذا بطش رجل بأنف رجل آخر، وكان العقوبة مقدار من المال، فإن هذا المال سيهوى إلى أدنى مقدار إنْ تبين أن الجاني هشم أنف المجني بعد سب هذا عرض ذاك. وبالمثل إذا كانت عقوبة الزنى، للمحصنة أو الثيب، محددة في الشرع الإسلامي والمحاكم العرفية، وهي ليست الرجم ولا القتل، فإن الحكم لهذه الزانية سيكون الموت، وللزاني مجرد مال يأتي على شكل فصل تسدده القبيلة كما أوضحت.
ثم ما لهذه المحاكم البدائية القبلية من ميزة فهي ميزة سرعة البت في القضايا، بتها بالقضايا: فإذا حدث صراع، دون القتل وبعض الحالات الزنا، تسارعت القبائل إلى المجني عليه، فكسبت رضاهم، وقدمت لهم الفصل، على عكس العملية الطويلة الأمد، التي قد تستغرق عاما أو أكثر، من المحاكم الإيرانية التي تمر من مراحل طويلة ومضنية، تستلزم على المجني أولا قبل الجاني أن يتتبع أمر نفسه، ويعطل من عمله اليومي، للمرابطة في أبواب المحاكم، والطب العدلي وغيرها، للتحقق من قضيته، ثم البت فيها، والمسار في ذلك جد طويل: ولعل هذا الدعاء الذي يتداول في سيارات الأجرة وعند الحديث العابر من الناس له دلالة قصوى على ذلك حين تقول الناس فيما بينها «الله لا يبلي عبد مسلم بالمحاكم والشرطة ولا المشافي». ففي الأولى مهانة من القضاة وضرب من الشرطة دون سبب، للمجني والجاني معا، وفي الثانية تسديد أموال باذخة لا يقدر عليها «عبد مسلم».
وهذه المحكام المعدومة القوانين المدونة تمخضا عن حياة القبيلة والمجتمع الأحوازي، لأنها مصبوغة بصبغة النخوة (الكرم وانتظار رد الجميل) بالمعني الذي شرحته. فهنا عندما يأتي شيخ قبيلة الجاني، يكون مبدأ كلامه على شكل تذكير: «إننا عثرنا (اخطأنا) عندكم اليوم فمنكم السماح، ومنا رد سماحكم بمثله إن عثرتم عندنا» لا محالة. وربما لا يدرك من لم يعش الحالة القبلية ولا يساير أحداثها وَقْع هذه الكلمات وواقعيتها التامة، فهي قبل أن تكون مجرد أقول تريد تأليف القلوب، فإنها واقع مستقبلي سيكون- على مستوى استمرار النزاع الذي تنظر له القبيلة مجرى من مجاري الحياة الاعتيادية اليومية، من جهة، وعلى مستوى رد ذلك السماح بالفعل، على قاعدة رد الجميل بالجميل من جهة أخرى. إن أفراد القبيلة وشيوخها هم أكثر من يعرف واقعها. ولا أحتاج هنا أقول إن الغفران (السماح) لا يعني المرحمة ورغبة في فض نزاع، بل إنه استثمار للعقوبة التي ستحل يوما ما على المستثمر يجني ثماره.
وإلى جانب كل ذلك فإن المحاكم القبلية محل ارتياح وثقة لأن مدعي المجني، شيخ قبيلة المجني عليه، متواجد في مختلف مراحل فض النزاع وصدور الحكم، وهو لا يفرط بحق ابن قبيلته، لأنه هو هو، ولأن القبيلة كلها هي المجنى عليها وليس مجرد فرد. فالقبيلة لا تعني قط فردا من أفرادها، بقدر من تعني جماعة من الناس، لهم أناتهم الجماعية الخاصة، وهي تجسد لكل فرد منهم في فردانية جماعية منتسبة إلى اسم مشترك. فإذا تراخى الشيخ/المدعي عن حق من جُني عليه من قبيلته، كأنه فتح الباب على مصراعيه للقبائل الأخرى أن تعدوا ضديدهم وتتجاوز عليهم، وكأنه ساهم في انتشار صورة عن جماعته متخاذلين يقبلون المهانة، ويرضون بالضيم. وهذا لا يمكن لأي فرد قبلي قبوله، ليس إباء ولا استطالة إنما خوفا من تكرار العدوان وتكاثر التجاوز.
الرمزية الجماعية والعقد الناظم شخصية الفرد
لا يوضع السؤال، من فئات كبيرة من الشعب الأحوازي بل من أكثريته، على الهوية الفردية، بل السؤال يكون عن «ابن من أنت؟» و«إلى أي القبائل تنتمي»؟ فهنا لا يعرف الواحد بمهنته، ولا بطبقته، ولا بمدينته، أي تجلياته الفردية الظاهرة على وظيفته وعمله، ولا بأي من هذه الانتماءات الحديثة، بل هو يتحدد هوويا باسم قبيلته وكفى. إن القبيلة هنا هي ذلك العقد الهووي الذي ينتظم شخصية الأفراد: على المستوى الفردي/ الجماعي، وعلى المستوى الرمزي.
ففي المستوى الأول نقول إن الفرد الأحوازي يحتاج إلى انتماء جماعي نفسيا يرى فيه ذاته جزءا من كل هو عبارة عنه وتجل له، يحتل فيه موضعه المتميز، ويكون هو فيه لبنة من صرح كبير. فالإنسان بهذا المعنى حيوان مدني الطبع لا يصلح وجوده إلا مع بني نوعه. ولكن الانتماء في الحالة الأحوازية لا يدور حول محور اللغة مثلا، أو محاور أخرى، بل كان مرجع الانتماء ومعينه بالوقت ذاته، هو القبيلة، لأنها بمنظومتها القيمية، وطرائق سلوكها، تجعل الفرد ضيق الأطر، لا يرى من الغابة إلا الشجرة الواحدة التي تطغى على كامل وجود الغابة بمروجها وسوادها إلخ.. ليس الآخر للفرد القبلي والجماعة القبلية سوى قبيلة أخرى تجاوره وتجاورها، لأن الفرد القبلي وإن عاش في المدينة وعانى احتداما مع المحتل، بيد أنه ظل حبيسا بعالمه الرمزي والمادي معا، يجتر شبكة العلاقات القبلية التي تحجب عنه العالم الحديث، ووهِلَ عن إدراك الآخر الآتي من خارج العروبة يحاول تفتيت هويته وتاريخه.
إنه يحيى بهوية «ذات بعد واحد» هي انتماءه الغريزي، كأنها غير قابلة للتغير ثابتة، ربط مصيره بها. فهنا يتصور المرء انعدام قبيلته انعداما له، وحل عرى شخصيته وتماسكة. وما يعزز ذلك الشعور هو المستوى المتدني من المعارف الحديثة بين أبناء القبائل، القبليين منهم، شعور يجعلهم يصطدمون أمام مأتيات العالم الحديث وإفرازته، ويهربون على هيأة وجل من هول الحديث إلى دفء المألوف من عالمهم المتوارث المعتاد. لا يمكن لمن لم يتعقل العقل الحديث المعنتق عن ربق المنظومات المسلفة، قبيلة أو دينا أو إيديولوجيا، لا يمكنه الاستناد على ذاته، لذلك يصاب بانفصام في الشخصية بمجرد الاحتدام بشؤن ودوائر جديدة لا تمثل عالمه القديم، وبذلك يلجأ مرة أخرى إلى القديم من معهوده، لفقدان أيا من الدوائر الجديدة تلك ملء الفراغ الحاصل له من بلي القديمة.
ومن هنا بالتحديد من هذه الخشية، تكتسب القبلية، والانتماء القبلي معه، رمزيتها فتتحول هكذا إلى رمز متخيل يهب الأفراد حسا جماعيا يكتنفهم ويمنحهم الشعور بالكينونة في البيت (Zu Hause sein) وَفق تعبير هانا آرنت. ولذلك فهي بالإضافة إلى دورها المشار إليه تأدي دورا رمزيا تعبر للأفراد عما يريدون وما يعرفونه، لتكون هكذا الدائرة التي تكتسب وجودها من وجودهم، وتستمر بوجودهم، فهي منهم ولهم، ولذلك فالنيل منها نيل منهم بالحري.
عوامل زوال القبيلة
ليس في ذلك شك أن القبيلة تمتعت باستمرار في العالم الجديد والحديث، ملفت وناجح، لجدارة فيها ومقدرة هي التي أبقت عليها وجعلتها تحافظ على جوانب وجودية من نمطها المعيشي وأسلوبها في التعامل ومنظومتها القيمية إلخ، جدارة رأينا في القسم السابق أبرز تجلياتها وسريان مفعولها. لكن ذلك لا يعني أنها تبقت على حالتها القديمة ذاتها، بل هي تعرضت لعواصف كبيرة فتت من قوتها، وجعلتها معرض التهديد الوجودي، وأمام تحد كبير يشير إلى إمكانية التجاوز عنها ودحرها من الوجود المجتمعي، وزوالها إلى الأبد، وإحلال دوائر مختلفة عنها، لها من القوة في التجاوب مع متطلبات الأفراد أكبر عما لدى القبيلة. وهنا في هذا القسم الآخر نعد أهم العوامل التي أضعفت القبيلة، وهي العوامل ذاتها التي يمكنها، حال تتمأسسها وتبنينها، إزاحة القبيلة كليا ومحوها. ومن أهم هذه العوامل التي أدت دورا في إضعاف القبيلة هي: زوال النظام الزراعي القديم، والقدوم إلى المدينة، ونشوء الدولة القومية الإيرانية.
زوال النظام الزراعي
يتقوم النظام الاقتصادي القديم في الأحواز على أساس الزراعة، وكانت هي محل معظم العوائد المتحصلة لآحاد الأفراد وعموم الناس والحياة العامة، ومن دون إهمال العوائد المتحصلة من موارد أخرى، فإن ما ليس به شك هو أن الاقتصاد حينها كان يستند على الزراعة. فشأن الأحواز شأن الكثير من المجتمعات المجاورة، مجتمعا زراعيا، ركيزة الاقتصاد فيه الزراعة الغير تجارية، والقليل من الصناعات اليدوية الخفيفة التي كانت متصلة اتصالا كبيرا في عملية الزراعة[6].
إن الحياة المركزية في المجتمع القبلي القديم كانت تتمحور حول القرية، وكانت القرى هي محل الكثافة السكانية ومدد الحياة العامة. لقد كان النظام الاقتصادي في القرى ينتظم حول الحقل الزراعي، وكان عبارة عن أرض زراعية، عادة ما تكون ملكا لشخص يدعى الشيخ، هو الذي يؤجر عدد من بني أقاربة، وهما أو حقيقة، هم من يقومون بزرع الحقول. وهنا كانت تتقولب هذه الحقول على نظام زراعي قوامه العلاقة النسبية بين القوى العاملة. ولذلك يبدو هنا في الوهلة الأولى تقسيم المجتمع القروي الزراعي هذا إلى فئة عاملة وفئة مالكة، سميت في التاريخ العربي الأحوازي الشيوخ والعوام بصفة عامة؛ دون تحديد فئات بينهما أو تتوسطهما.
ولكن مع دخول الأحواز إلى العالم الحديث، لأسباب كبيرة وتاريخية معروفة ليس من ضرورة ذكرها هنا، تغير هذا الاعتماد العام على المحاصيل الزراعية ومواردها، وباتت موارد جديدة، من نفط وصناعة وعوائد الدولة، دولة الاحتلال الإيراني، لا تزاحم العائد الزراعي فحسب، بل جعلته مصدرا لا يذكر إلى جانبها، ومن هنا فقد الحقل الذي يعود لملكية القبيلة، الشيخ بالدرجة الأولى، أهميته الاقتصادية، وبات البحث يتم حول مصادر أخرى.
وما نريد اللفت إليه هنا هو تلك المفارقة الكامنة في النظام الاقتصادي القائم على الأساس الزراعي بحد ذاته. وهو أن النظام الزراعي كاني يعاني من أمرين مناقضين: أولهما ممانعة علم المواريث الإسلامي عن توسيع الأراضي الزراعية بيد فرد، وثانيهما قداسة الملكية الفردية في الإسلام. ففي النقطة الأولى تتوزع تركة المتوفي بين أبنائه الذكور بالتساوي، وحظ للإناث يساوي نصف حظ الانثيين. وهذا التوكيد من الفقه الإسلامي في توزيع الأراضي على الأبناء مانع نشوء اقطاعية في الإسلام، وجعل الأرض الزراعية تتقلص على الدوام بتوزيعها على الأبناء، ويعني ذلك تقليص موارد الأفراد، شيوخا كانوا أو عوام، ولعل كثرة الشيوخ في قبيلة واحدة، في الحالة الأحوازية يعود في جانب منه إلى هذه الحقيقة التي تجعل كل أبناء الشيوخ متحصلين على أراضي يدعو فيها لنفسهم مشيخة. فأكبر ما يميز الحالة الأحوازية في عدد كبير من قبائلها وجود بيوتات في الرياسة والمشيخة كثيرة لا تجمعهم مشيخة عامة، وتكثر هذه الحالة في شط الكرخة، وتضعف في هور الفلاحية. وكثرة المشايخ هذه، وصراعاتهم على رئاسة موهومة يزعمونها إمبراطورية، أضعفت الروح القبلية، وجعلت أفرادها يضجرون من هذه الصراعات التي لا ناقة لهم فيها ولاجمل. ويقول ابن خلدون في ذلك، في هذه المناحرات التي لا حد لها بين الشيوخ على الزعامة الموهومة: ألقاب مملكة في غير موضعها، كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد.
ثم إن الإسلام يوكد توكيدا مبالغا فيه على قداسة الملكية الفردية، مما يتنافى مع الحياة القبلية التي تكون الملكية فيها، على الأقل على المستوى الضمني، ملكية مشاعة لكل الأفراد الحق في استغلال مواردها. إن المغنمة في الحياة القبلية هي جماعية، لسيطرة الروح الجماعية القبلية، وليس يضر بحال اشتداد الأناء القبلية أكثر من استئثار فرد من الأفراد بفضله، ونبذ الآخرين من بين قرابته عنها. وبالإضافة إلى الشرع الإسلامي وتوكيده على الملكية الفردية، فإن قيام نظام اقتصادي قائم على السوق، هو من جهة عزز المكلية تلك، وصب من جهته لصالح تفتيت الروح الجماعية المعيشية القبلية تلك.
القدوم إلى المدينة والاختلاط الحاصل عنه
تتميز القبيلة بصناعة عالم لنفسها، فهي لها أساطيرها ولها أمجادها وأبطالها، وقصصها المتوارثة من الآباء تروي ممادح أفرادها، للأجيال المتعاقبة على يد اللاحقة، وهي في ذلك تكون منقطعة عن الآخرين، والتعامل معهم يتأول على أساس مورثها هذا. ولذلك عَمِل قدوم القبيلة إلى المدينة على إضعاف هذا العالم المنكفئ، ونشأت نتيجة لذلك تعاملات بين أبناء القبيلة مع أبناء القبائل الأخرى كونت مصالح بينهم بعيد عن كيان القبيلة.
على أنه بالرغم من عد المدينة من عوامل تضعيف القبيلة، بيد أن المدن الأحوازية إثر استمرار وجود القبيلة بأدوارها وتأثيراتها، وعقلانيتها بالقول الواحد، اصطبغت بطابع قبلي، حتى يمكن عدها مدن قبلية الطابع والدوائر. فهنا المدينة بالرغم من ذلك التأثير الذي لا جدال فيه في زعزعة مكان القبيلة، تعرضت هي الأخرى لتأثيراتها وخضعت إليه. فكم من أحياء في الأحواز العاصمة مثلا تشهد تكاثر أبناء قبيلة ما عليها، وتفضليهم شراء بيوت تكون غريبة من أقرابائهم المنسبين لجد مشترك بينهم. وكم من أساليب في التعامل لا يتحكم فيها إلا المنطق المسلكي القبلي بتجلياته المختلفة إلخ.
على أن هذه السكنى في المدنية جعل من تعاشر الأفراد القبلي قليلا عن ذي قبل، فهو فهذه الجزئية فرض تعقيدا في الحياة مانعت التجمع المستمر بين الأفراد، مما يعني العمل على تذويب طول المعاشرة بين أفراد القبائل. فكم من أبناء القبائل لم يتعرفوا على ذويهم، وباتوا يفضلون قضاء أوقاتهم مع من كونوا صداقات معهم خارج إطار قبيلتهم. وهذا من جهته يبني منظومة قيمية لم تعد تخضع للتأثيرات القديمة وسلوكياتها.
نشوء الدولة القومية الإيرانية
لم ينحصر تأثير هذا العامل الكبير على حياة القبيلة فحسب بل إنه أخضع جميع مظاهر وجود الشعب الأحوازي برمته. على أن زاوية النظر هنا هي معاينة التأثيرات التي تركتها الدولة الإيرانية على القبيلة، وهي تأثيرات تتجلى في الأمور التالية: الجهاز القضائي، والجيش، والتعليم، والاقتصاد، والنظام البيروغراطي.
فبالرغم من النقاط التي سجلتها في فقرة ضعف الجهاز القضائي تعزيزه إثر ذلك العرف التشريعي القبلي بيد أنه زاحم من جهة أخرى تلك الأعراف وأخذ جانبا كبيرا من أدوارها وسلبها تأثيراها السابق: فالجهاز القضائي بالرغم من جميع معاطبه يشتمل على منظومات من التشريعات الواضحة، تجعل الأفراد على علم بحجم الحدود والمغارم، بها ينال جزائهم بالأخذ والعطاء. ولا مجال في ظل هذا الجهاز التنصل من العقوبات التي يفر منها القبلي، بفعل تلك المحاكم القبلية التي تسم بالمرونة كما مر ذكر ذلك. ثم إن الجهاز القضائي هذا من جهة أخرى نافس زعماء القبائل على احتلال موقع القاضي الوحيد، وهي مزاحمة من شأنها إضعاف الروح القبلي الذي يدأب الشيوخ على تغذيته وتعزيزه، من منطلق مصالحهم الفردية وحفاظا على منزلتهم الاجتماعية.
وإذا كانت الدولة الإيرانية كونت جهازا قضائيا هو من ملزومات الدول الحديثة، فإنها بتأسيسها جيشا جرارا يفوق عدد القوميات غير الفارسية، بلْه جموع القبائل القليلة العدد والمتشرذمة في الأحواز، أتى بذلك العنصر المتفوق في جميع نطاق السلطة، ما عمل على كبح جماح طغيان القبائل وعدونها على بعض وعَقَلهم عن التجاوز. وهنا تحول الفرد والجماعة في القبيلة من سلوكيات العنف اليومي في تصرفاتهم اليومية المسمى بالبسالة، إلى منقادين لتفوق هذه القوة المتفوقة، ومطعين لأوامرها. على أننا لو تذكرنا هنا انحصار عالم القبيلة في أفق ضيق وجد متضايق، لا يعدو نطاق التعامل مع القبائل الأخرى في أحسن الحالات، عرفنا حينها أن هذا التفوق لم تفهمه القبيلة عدوانا على قومية أخرى، بل فسرته قوة أكبر منها فيجب الانقياد لها. وبناء على هذه الزاوية يجب التماس تفسير لعدم خروج عرب الأحواز، إلا في حالات نادرة كما سجلها التاريخ، بعد سلب حكمهم العربي، واغتياد الأمير خزعل مسلوب الحكم على يد الفرس وملكهم رضا خان.
أما في التعليم فكان الأمر مختلفا تماما حيث كان الجهاز التعليمي للدولة وضع عرب القبائل أمام اندثار لغتهم، ولذلك أبوا ذلك وانعكس هذا في البدايات على الامتناع من ارتياد المدارس، وفيما بعد تحول على ضعف دراسي واضح لدى العرب، تتويجا بمسخ فئات كبيرة من العرب في الفارسية، ممن تحصل على تعليم عال، وابتعادهم عن العربية. ثم إن هذا الجهاز التعليم زاحم وجود القبيلة لأنه أتى بتاريخ هو غير تاريخهم، وبحث يعلم تقاليد وثقافة غير تلك التي عاشوها، ولذلك باتوا على استلاب كبير غذاها ذلك الفراغ القومي الذي تخلف الشعب الأحوازي عن بلورته، أعني به الخروج بالمجتمع الأحوازي من مجرد تجمعات قبلية، إلى أمة قومية لها جوامعها المحددة.
وإذا كان التعليم يمسخ الهوية العربية لدى القبيلة من أولى بدايات الطفولة، فإن الجهاز البيروغرطي التي أتت به الدولة أخذ يكمل ذلك المشروع التعليمي الذي بدأ منذ طفولة الفرد العربي. فهنا عمل الجهاز البيروغرطي على مسخ الهوية العربية، وبات يضع الفرد العربي الفاقد لمورد اقتصادي، كان بالأمس الغريب الزراعة يضعه أمام خيار الفقر أو إطراح الهوية العربية. فللنظام البيروغراطي ثقافته وأساليب الحياة فيه، كما هو معروف، يصطبغ به الأفراد، ويجعلهم على تصرف مغيار عمن لم يعش في حياة بيروغراطية.
الاستنتاج
لقد تحرينا في هذه الدراسة المعوقات التي جعلت القبيلة تتمتع باستمرار في العالم الحديث، ورأيناها تتجلى في عدة مظاهر أهمها هي: استمرار النظام التناصري يشقي تجلياته تسديد الودي ودفع الفصل؛ وضعف الجهاز القضائي، واستمرار المنظومة القيمية بشقوقها الثلاث المتجلية في العنف والنخوة والاعتداد بالنفس، وتأدية الدور الردعي، ورمزيتها المعنوية الهووية. أما في تناول العوامل التي أدت لضعف القبيلة في الأحواز فكانت العوامل المهمة هي: زوال النظام الاقتصادي القائم على الزراعة ما كان يغذي وجود القبيلة، والقدوم إلى المدنية والخروج من عالم القبيلة المتضايق، ونشوء الدولة القومية وما بها من جهاز قضاء وجيش ونظامي تعليم وبيروغراطية.
وائل العموري
المصادر
[1] محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، عدد طبعات.
[2] عبدالرحمن ابن خلدون، المقدمة، تحقيق علي عبدالواحد وافي، المركز العربي، عدة طبعات.
[3] محمد عابد الجابري، العصبية والدولة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة التاسعة 2009.
[4] . الظواهر القبلية والجهوية في المجتمع العربي المعاصر: دراسة مقارنة للثورتين التونسية والليبية، محمد نجيب بوطالب، المركز العربي للأبجاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، بيروت: 2012،.
[5] هشام شرابي، النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت1992.
[6] .Ann Lambton, Landlord and Peasant in Persia: A study of Land Tenure and Land Revenue Administration, Oxford University Press1953.