الخميس, مارس 28, 2024
دراساتالتحديات الأمنية أمام المجتمع الأحوازي

التحديات الأمنية أمام المجتمع الأحوازي

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

المقدمة

لا شك أن كل مجتمع يقف أمام تحديات متعددة تنبع عن طبیعة تكوينه، تاريخيا وثقافيا وسياسيا وأمنيا إلخ، تؤثر على مجهوده في الوصول إلى الغايات المرجوة. وشأن المجتمع الأحوازي المحتل هو شأن هذا المبدأ العام، حيث يواجه تحديات جسيمة، نابعة عن تكوينه التاريخي، وموضعه الجغرافي؛ وهو أمر انعكس على مختلف تمظهرات المجتمع السياسية والثقافية والحضارية بصفة عامة. لكن مهما يكن من أمر التحديات المتعددة التي تواجه المجتمعات المختلفة، فإن ما يتم التأكيد عليه في هذه الدراسة هو تلك التحديات الأمنية التي تجعل الأمن الأحوازي هشا، وأكثر عُرْضة للإرباك أو الإرتباك؛ وبناء على ذلك يمكن تسجيل السؤوال الرئيس هنا: عن ماهية أهم العوامل التي يمكن وصفها تحد للأمن الأحوازي؟

 

مفهوم الأمن

يعني الأمن لغويا حالة يكون الفرد أو الجماعة فيها مصونين عن التعرض، بشتى صنوفه الفردية والجماعية والروحانية والمادية إلخ. أما اصطلاحا فيعني الأمن حالة عدم التعرض للخطر، أو إتاحة إمكانية التحصن من الخطر[1]. أما من حيث أبعاد الخطر، بالنظر إلى المجتمع الأحوازي، فتنقسم هنا في هذه الدراسة، إلى المخاطر الصلبة قصيرة الأمد، والمخاطر الناعمة بعيدة الأمد. ففي جانب المخاطر الصلبة فإن أهم هذه المخاطر هي البطالة، وزيادة الإدمان بين الشباب وتعاطيهم المخدرات، وزيادة الأطراف التي تحوط مدينة الأحواز العاصمة، وانفلات الأمن جراء الصراعات القبلية، وهجرة العقول إلى الخارج أو إلى سجون الاحتلال الإيراني، والأخطار المتعلقة بتدمير البيئة. أما من حيث الأبعاد الناعمة وهي بعيدة الأمد بطبيعة الحال، فيمكن حصرها في الجانب الفردي والنفساني والثقافي والمجتمعي والسياسي.

 

المخاطر الصلبة: قصيرة الأمد    

إن من أبرز صفات هذه المخاطر، القصيرة الأمد، التي تهدد الأمن في المجتمع الأحوازي المحتل، هي أنها مخاطر جارية على قدم وساق، وحاضرة بقوة في الحياة اليومية للفرد الأحوازي والجماعات الأحوازية على سواء. وصحيح أن هذا الحضور الطاغي على الحياة اليومية يبدو من صنف الأمور التي تحدث تلقائيا في جميع المجتمعات، لكنها من دون ترديد انعكاسات لسياسات أخرى، سنوردها في المخاطر الناعمة التي لها تبعات أطول أمدا وأبقى تأثيرا. ومهما يكن من أمر فإن هذه المخاطر هي أيضا أكثر مشاهدة لدي الأحوازيين لأنها من صنف يومياتهم، يواجهونها في تغلبات مساعيهم اليومية، ولذلك فهي تكاد تصنف بدهية لدى الجميع، مما يجعلها أمور اعتيادية كأنها طبيعية، وليست نتاج سياسات خاصة أو برامج مقصودة.

  

البطالة

تعاني الدولة الإيرانية- الفارسية طيلة الأعوام الأخيرة من زيادة حجم البطالة بشكل مطرد. وتفید معلومات «مركز الإحصاء الإيراني» بأن معدل البطالة في المناطق الحدودية، وعلى رأسها الأحواز، أكثر من محافظات الوسط. هذا وبينما تظهر المعلومات الرسمية أن معدل البطالة قد انخفظ في السنين الثلاث الأخيرة، غير أن هذا الانحفاض في حقيقته يعود إلى تراجع نمو تعداد السكان، وليس إلى سياسات أفضت إلى عمل العاطلين عن العمل. وفيما يتعلق بـ«محافظة خوزستان» (شمال الأحواز) تظهر وثيقة رسمية تسربت على يد أحد الناشطين أن 96 بالمئة من إجمالي مناصب المديرين العامين هو بيد الفرس وهم أقلية من الوافدين، بينما لا تحتل الأكثرية العربية إلا 4 بالمئة من هذه المناصب. على أن عدد الموظفين العرب في الدوائر الحكومية والخاصة، هو الآخر، سجل أعداد متدنية جدا بالمقارنة مع العدد السكاني للعرب.

وعلى العموم فإن للبطالة تبعات جد خطيرة وشاملة تنعكس على أمن المجتمع الأحوازي بشكل كبير، من أبرزها: تدني مستوى دراسة الأبناء؛ وتدني المستوى الصحي؛ وتدني مستوى الخصوبة لدى الرجال والنساء نتيجة سوء التغذية؛ وزيادة العنف الأسري خاصة ضديد النساء؛ والجنوح نحو العنف في الحياة اليومية؛ وغيرها عشرات من التبعات.

وبالإضافة إلى مظاهر البطالة المتعددة هذه، فقد طالت البطالة جميع أصناف الشعب الأحوازي: ويظهر على عدد العاطلين أنهم خليط من أصحاب الشهادات الجامعية، وأهل المهن، وعدد من العاملين في السوق، وعمال البناء والمصانع، والعاملين في أعمال موسمية، ممن تحتم عليهم طبيعة عملهم العمل في فصل معين. وفيما يخص أصحاب الشهادات الجامعية، بوصفهم أكثر الناس وعيا بسوء أحوالهم وأكثر الفئات الشعبية غضبا من حكومة الاحتلال، فإن بطالتهم تنبع أولا: عن أن هؤلاء الأفراد تحصلوا على تعليم عال، جعلهم يتوقعون الحصول على مناصب تتناسب مع تعليمهم. ونظرا لقلة هذه المناصب وكثرتهم من جهة، وتوافد الفرس عليها من جهة أخرى، يظل المتعلم الأحوازي عاطلا عن عمل يراه يليق بقدراته الجامعية العلمية أو العملية. وهذا من شأنه تعزيز حالة الغضب نفسيا لدى هؤلا الأفراد ومزيد انعزال لهم عن الجهاز الحكومي[2]. أما باقي جيش البطالة من العرب في الأحواز فيعود إلى أهل المهن والعمال والمشتغلين بالسوق، على سواء، حيث انعكست العقوبات على انكماش أعمالهم: فعلى سبيل المثال جعل ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل انخفاض العملة الإيرانية جعل الكثير من أصحاب التجارة الصغيرة من أهل السوق يضطرون لتغيير عملهم أو تعطيله كليا. مثلما تسبب الانكماش في بناء العمارات وسوق العقارات في فقدان عمل الكثير من عمال البناء. وقد يعمل في هذه المهنة عمال من سكان أطراف مدينة الأحواز، على وجه الخصوص، وهم كثيرو العدد.

ولا يخفى أن قضية البطالة، كما أُشير سابقا، كثيرة التبعات، يمكنها المضي في تعديد تبعاتها إلى جوانب عديدة اجتماعية وسياسية وأخلاقية وثقافية إلا أن الأهم منها هو ما تم التطرق له بإختصار أعلاه.

 

الإدمان

ولهذه الظاهرة تفش واسع في الأحواز خاصة بين الشباب. على أن من أكثر الأماكن عرضة لظاهرة الإدمان، هي المناطق الواقعة على أطراف مدينة الأحواز العاصمة أو العشوائيات، حيث تشهد معدلات مرتفعة من الشباب المدمنين. ووفق دراسة ميدانية قام بها المؤلف، شملت ثلاث مراكز لإعادة تأهيل المدمنين في كل من حي الثورة وحي مندلي وحي«الشكاره»، فإن من بين 725 مدمنا راجع المراكز التأهلية الثلاث هذه، على مدى سنة وسبع شهور، عاود 456 إلى المراكز ذاتها بعد خروجه متعافيا منها، عاود بما معدله أربع مرات. وهذا يعني أن جل المدمنين لا يثبت على صحته بعد تعافيه، بل سرعان ما يعاود المراكز مرة أخرى بعد عودته للإدمان في فترة زمنية قصيرة. وإذا ما أطلنا الفترة الزمنية الخاصة بتعافي المدمن ثم عودته للتعاطي إلى سنوات، فحينها يكون معدل العودة إلى الإدمان أكثر بكثير من المرات الأربعة التي أحصيتها.

وعلى العموم تخضع ظاهرة الإدمان إلى مسببات متشعبة وغريبة يمكن إيجازها في الأمور التالية: علاقة الإدمان والجنس: فبموجب دراسات اتحاد علم الاجتماع الإيراني[3] تظهر علاقة تأثير مباشرة فيما بين «عدم ممارسة الجنس بشكل منتظم من قبل الشباب والشابات الذين برحت بهم العزوبة»، وإقبالهم على تعاطي المخدرات، كما أن «رغبة إطالة فترة ممارسة الجنس لدي من يمارسه بشكل منتظم» هي الأخرى لها علاقة مباشرة على تعاطيه.

وتستمر هذه الظاهرة تعاطيا مع باقي جوانب الحياة حين يظهر أن زيادة معدل البطالة، يؤثر جدا على الميول لتعاطي المخدرات. فبتأثير من زيادة الفقر، وتقزيم المقدرة الشرائية لدى الأسر التي تنعكس على أبنائهم، يقدم الشاب على المخدرات. على أن دراسات المركز المذكور تشير إلى نقطة خطيرة هي توسيع فترة التعرض لتعاطي المخدرات في إيران، من 17 إلى سن 23 ما يعني توسيع شرايح المعرضين بشكل ملحوظ. ومن الأسباب الأخرى المؤزارة لتفشي الإدمان هو انعدام خيارات الترفيه في الجمهورية الإسلامية. فبدافع الحفاظ على الحدود الإسلامية يمانع النظام القائم كثيرا من النشاطات الترفيهية، ويمنع عرض بعض من الخدمات المدرجة في صنف الترفيهيات التي تعرض في كثير من الدول الإسلامية فضلا عن الدول الغير إسلامية. ولذلك فهناك بيئة مساندة، سواء من حيث التشريع أو من حيث ضعف العمل الحكومي، للإقبال على المخدرات. أما بالنسبة للمجتمع الأحوازي فإن التراخي المتعمد للأجهزة الأمنية في التعامل مع تجار المخدرات، يعمل كمحفز على تعاظم نشاطهم، مثلما فساد الجهاز القضائي يمنح تجار المخدرات حصانة أمام الملاحقة القضائية. وليس غريبا أن تكون إحدى خطط الجهاز الاستخباري الإيراني بث ظاهرة الإدمان بين الشباب للقضاء على القوى العمرانية الشبابية للشعب العربي الأحوازي، حتى وإن عاود ذلك بتبعات على أمن المستوطنين.

 

 زيادة الأطراف

وإذا كانت البطالة والإدمان هما أكثر الظواهر التي تهدد الأمن العام في الأحواز، في الأمد القريب، فإن هناك تزايد بشكل مطرد للمناطق العشوائية التي تحوط الأحواز العاصمة بشكل كبير، ما يجعل هذه الظاهرة مدرجة في التحديات العامة للمجتمع الأحوازي. فقد شهدت مدينة الأحواز العاصمة منذ العام 2004 عمليات كبيرة من قبل بلديتها لزيادة الأحياء الواقعة على الأطراف، وتوسيع المدينة. وقد جلب هذا التوسيع في مدينة الأحواز العاصمة تبعات أبرزها زيادة أعداد المستوطنين الفرس وبالتالي مزاحمتهم للعرب ماديا: على المناصب الحكومية والخيرات العامة، ومعنويا: من حيث تعزيز سياسة التفريس وزيادة المظاهر الغير عربية المتجلية في شكل الملبس والعادات والتقاليد، وأمنيا: من حيث طرد «العرب المنبوذين» من السلطة الفارسية إلى مزيد من التقوقع في الأطراف وإبعادهم عن الاقتراب من المدينة والتشبع بالروح المدنية.

وفيما يتعلق بالجانب الأول فجميع المشاهدات، بالإضافة إلى الاحصاءات الحكومية المفبركة، تشير إلى زيادة نسبة الفرس في عاصمة الأحواز المحتلة بالنسبة للعرب. فصحيح أن نسبة 44 بالمئة للفرس مقابل 55 بالمئة للعرب في الأحواز العاصمة، وفق احصاءات الحكومة هي نسبة مبالغ فيها، بيد أن مما لا شك فيه هو أن هجرة الفرس المستوطنين كبيرة ومهولة. لم لا وقد يجد المستوطن الوافد عملا متوفرا في الأحواز وسكنا مهيأ وحفاوة من السلطة تظهر على شكل منح قروض سريعة وشقق سكنية غريبة من عمله وسط المدينة، وشعور بأن قدومه إنما جاء على مدينة تخصه تاريخيا وحضاريا، حسب النشاط الثقافي الحكومي.

 على أن أكثر المظاهر شأنا هي الظاهرة المتعلقة بتأثير هولاء على العرب من حيث العادات والتقاليد المدرجة في سياسة التفريس. فصحيح أن ظاهرة التفريس هي من طبعية التحديات الطويلة الأمد غير أن التطرق المستجعل هنا يستوجب التنبيه بأنها ظاهرة عززتها سياسات مادية على رأسها تسريع وتيرة توافد المستوطنين الفرس من جانب السلطات. ويتأثر العربي الأحوازي من الفرس المستوطنين بملبوسه وعاداته إلخ، حتى أصبحت شريحة من المجتمع الأحوازي لا تنطق بلغة الضاد تأثرا من لغة الفرس وتصورهم على أنهم أصحاب الحضارة المتغلبة الأفضل، بوعي منهم أو من دون وعي.

ثم إن زيادة الأطراف تتميز بشكل خطير بمشاهد تتعلق بتدني الخدمات فيها: فمن حيث المياه الصالحة للشرب فهناك انعدام تام لها في كل من حي الملاشية ومندلي وصياحي والزوية وسيد خلف وغيرها، حيث لا تصلح المياه المخصصة للشرب في هذه المناطق إلا للري. إلى جانب ذلك تعاني هذه الأحياء من شوارع غير معبدة وغير مخططة، بالإضافة إلى فقدان مدارسها أبسط المتطلبات، وانعدام بناء مسشفيات فيها.  كما أنها تعاني من انعدام شكبة صرف صحي، أو معالجة النفايات، وغيرها من المظاهر كثير.

وإذا لاحظنا أن عدد كبيرا من الاحوازيين هم يقطنون هذه المناطق، عرفنا حينها أن جمعية كبيرة من العرب تتصارع مع ظروف الحياة العشوائية، مقصية بفعل ذلك عن تأدية أي دور قومي أو روحاني يساهم في حياة الأمة الأحوازية ويشارك في تقدمها المطلوب نحو الوعي الذاتي والمطالبات القومية الهووية، أي المطالبات المتعلقة بالحرية والكرامة الانسانية.

 

القبلية وانفلات الأمن

وبالإضافة إلى ما تعانيه الأطراف هذه مما تمت الإشارة إليه، من انعدام الخدمات والمدارس المعيارية والمراكز الصحية عموما، حتى وصل الأمر إلى فقدان المياه الصاحلة للشرب، بالإضافة إلى كل ذلك تعاني ثقافيا هذه الأطراف من وجود ثقافة وانتماء قبليين بين سكانها. فصحيح أن هذه الثقافة القبلية طاغية على باقي المدن الأحوازية، غير أن الروح القبلية لها سيادة أكبر في الأطراف: ذلك أن دولة الاحتلال الإيراني تتعمد في التسويف في توطيد الأجهزة الحكومية، الأمنية والشُرطية والقضائية في الأطراف، ما يعني أن ضمان التنفيذ لا يجد معناه إلا في القوى القبلية هذه، الأمر الذي يساهم في استمرار حياة القبيلة، كضمان للأمن الفردي والجماعي. وذلك يعود إلى أن القبيلة «تحولت على مر التاريخ وفي عدد من الأقطار العربية إلى رابطة سيكولوجية اجتماعية تعتمدها الجماعات لتحقيق مطالبها وفرض ذاتها في حالات العجز التي تصحب عمل الدولة[4]». وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن هذا العجز متعمدا، مثلما سلف القول، فإن استمرار حياة القبيلة يصبح أمرا يصب في مصالح جهات معينة.

ومن أبرز الأسباب التي تجعل الروح القبلية محبذة من جانب حكومة الاحتلال هي أن الروح القبلية تمانع تماما تحول الشعب الأحوازي إلى شعب موحد: بوحدة اللغة والتاريخ المشترك والموطن الواحد والمستقبل المشترك إلخ، بل الواقع القبلي يشير إلى وجود قبائل متفاخرة فيما بينها متصارعة ضديد بعضها.

ومن دون الاسترسال في ظواهر القبيلة والقبلية، فإن أبرز تحدياتها في الأمد القريب هي تلك المعاركات التي تنشب بين الفترة والفترة بين رجال القبيلة مناصرة لبعضهم ضديد القبايل والعشائر الأخرى، وتلك الظاهرة التي يفزع بها أفراد القبيلة على بيوت القبيلة المخاصمة يرشقونهم بوابل من الرصاص. فبالإضافة إلى الأضرار المادية لهذه الظاهرة فهي تعمل كإنعاش للقبيلة وتماسكها الجواني، وتوطيد قيمها في نفوس الأفراد والجماعة على حساب الأفراد والجماعات الأُخر دوما.

 

هجرة العقول

 لا يمكن للفرد الذي تحصل على أعلى دراسات ومهارات أن يبق في مجتمع فيه بطالة متعمدة لفئة من الشعب، تعصف به حياة شبه مدنية في الأطراف لا تتوفر فيها أدنى متطلبات العيش الكريم. لذلك يعاني الفرد المتعلم في المجتمع الأحوازي من تهميش مضاعف: تهميش يطاله من السلطات الفارسية التي لا تعير اهتماما بالمثقف العربي ولا تترك له مندوحة للولوج في مغانم الدولة، دولة الايرانية (على أن الانصاف يحتم التنويه بتلك النخبة القومية الثورية التي لا ترتضي لنفسها العمل في دوائر سلطة الاحتلال الإيراني الذي تغذي ديمومة الاحتلال بشكل مباشر: نظير المحافظية والجيش والحرس والأمن وشركة النفط ونحوها)؛ وتهميش يطاله من القبيلة التي لا تتمثل لأفكاره ولمطالبته الحديثة.

لذلك سجلت الأحواز في السنوات الخمسة عشر الأخيرة معدلات عالية من الهجرة إلى الخارج من قبل المتعلمين والمثقفين فضلا عن الطغام. وتشير المعاينات اليومية والانطباعات الفردية، في ظل غياب احصاءات تسجل أعداد المقتربين، تشير إلى أن عددا كبيرا من المتعلمين اضطر للهجرة نتيجة الضغوط المتصاعدة من جانب سلطات الاحتلال الإيراني.

وهذا بالتحديد هو ما يقود إلى الوجه الآخر من الهجرة: فإلي جانب الهجرة إلى الخارج، هناك هجرة تتمثل هذه المرة إلى سجون الاحتلال. فالكثير من أبناء الأحواز من المثقفين يتعرض يوميا للإعتقال والأسر إلى مدد تترواح من 5 إلى 20 سنة بتهم المطالبة بالاستقلال والانفصالية ونحو ذلك. ومن البدهي أن تكون للهجرة المضاعفة هذه، للخارج أو لسجون الاحتلال، تبعات متعاظمة من أبرزها خلو المجتمع العربي من العقول المتفكرة التي لها المُكنة في فهم الواقع وتدوين نسخ للتعامل الأمثل معه.

على أن الأدهى في كل ذلك هو أن جموع العقول المهاجرة إلى الخارج وإلى السجون معا سرعان ما تقطع صلتها أولا بأفكارها التي هاجرت من أجلها، وثانيا قطع الصلة بالمجتمع الأحوازي أفرادا وجماعات. فكثير من المقتربين عندما ينصدم بما في الغرب من حرية وتوفر إمكانيات يستحيل في خضم حياة فردية قوامها اللذة والأنانية، مثلما تجعل صدمة الأسر لدى من هاجر إلى السجن تجعله منطويا على ذاته مثقلا بهموم حياة ما بعد التحرر من الأسر، وهي حياة يعصف بها الفقر وتعامل الاستخبارات المؤرق: من استحضار يومي وتتبع على مدار الساعة يصل إلى حد السادية في كثير من الحالات.

على أن أحوال الأَسْراء المحررين هي أمرّ بكل تأكيد، ففي هذه الحالة يجد الأسير المحرر نفسه أمام أزمة اقتصادية خانقة، وتنكر الأصدقاء له ونفورهم عنه مخافة الاستخبارات. وهنا يأتي ذلك الدور المنعدم للحركات التحررية التي لم تخصص روافد مالية ضيئلة لهؤلاء الأحرار المناضلين يديرون بها شأن حياتهم وحياة أسرهم المعذبة. وهذا يمثل أكبر التحديات بالنسبة للمناضلين؛ إذ يصبح المنضال المثقف أمام ألف ريبة للمضي في معتقده، وهو عليم بما سيحل بأسرته من جوع ومسخ كرامة وذل السؤال إلخ.

 

تدمير البيئة

وبينما تقدر الظواهر القريبة الأمد المذكورة في الأعلى ظواهر قديمة تقريبا، فإن تدمير البيئة هو الآخر ظهر بقوة في العقد الأخير طاغيا على جميع الجوانب المذكورة. ويعود السبب الرئيس في دمار البيئة إلى تلك السياسة الغالطة التي نفذتها سلطات الاحتلال بوتيرة عظيمة: وهي سياسة نقل المياه، وتجفيف الأحواز أنهرا وأهوارا وجداول.

فبموجب سياسات الدولة الإيرانية- الفارسية عملت الحكومات المتعاقبة فيها على منع المياه الجارية من الجبال الواقعة في المحافظات الفارسية من الوصول إلى نهري كارون والكرخة في الأراضي الأحوازية مما تسبب في تجفيف كافة الأراضي والأهوار التي ترتوي من مياه الأنهر هذه. وقد عادت هذه السياسات بمغبات على البئية تتمثل أهمها في زيادة ظاهرة العواصف الرملية[5]، واقتراب حياة البحرية من التلف[6]، وبطالة المزارعين والصيادين، وارتفاع نسب الحرارة في الأحواز إلى ما لا نظير له، وعشرات التبعات التي يمكن لأي تخصص تعديد مضارها الكبيرة.

 

المخاطر الناعمة: بعيدة الأمد

أفادت الفقرة السابقة التي تناولَت المخاطر الصلبة المتجلية على وجه السرعة في أمد قريب، أفادت أن أهم التحديات المحدقة في المجتمع الأحوازي في مرحلته الراهنة هي: البطالة، وتفشي الإدمان، وزيادة الأطراف، وهجرة العقول، وتدمير البيئة. وهذه المخاطر هي من صنف تلك المخاطر العاجلة والتحديات المحدقة التي تستوجب تعاملا سريعا ونهوضا عاجلا من أجل التعامل معها والسعي للحد من وطأتها. ولكن بالإضافة إلى هذه التحديات فهناك تحديات أخرى تتميز هذه المرة بأنها تحديات لا تظهر في بادي الرأي، بيد أن تأثيرها أبقى وأشد، وهو تأثير يزحف بشكل ناعم غير ملموس مما يجعل التعامل الأمثل معها يندرج في سياق التعامل الاستراتيجي الطويل الأمد.

ومن أهم هذه التحديات هي: التحديات الفردية، والتحديات النفسية: الفردية والجماعية على سواء، والتحديات الثقافية، والتحديات المجتمعية، والتحديات السياسية.

 

التحديات الفردية

تبدأ التحديات بالنسبة للأحوازي، الملقى في واقع شاذ، منذ ميلاده وصولا إلى تبلور فرديته. ففي الحالة الأحوازية التي يأتي وجه شذوذها من واقع الاحتلال ذاته، يلفي الفرد الأحوازي نفسه منذ أول تفقه له للحياة أمام تحدي اللغة الثنائية، بين لغته اللغة الأم التي ارتضعها مع لبان أمه ولغة جيرانه المستوطنين الذين ارتضعوا البغض له وللغته وكامل وجوده مع لبان أُماتهم. وتبلغ وطأة هذه الظاهرة الذروة في المستوى الأول من الدراسة الابتدائية حيث يجد الطفل الأحوازي ذاته في غمار كتب وتعليم لا يفقه منه شيئا، تماما مثلما يجد نفسه عاجزا عن التعامل مع الأفراد الناطقين بغير لغته في السلك التعليمي[7]. ويعود عدم التعليم باللغة الأم إلى تبعات متعددة من أهمها الضعف الدراسي في الطلاب ونفورهم عن الدرس، ولجوء الوالدين، خاصة أولئك الذين لا يتمتعون بوعي ذاتي قومي، لجؤهم إلى استخدام اللغة الفارسية مع أحداث أبنائهم بمبرر السعي لإنجاح الطفل في التعامل الأفضل في المدارس[8].

وإلى جانب هذا التحدي الكبير فإن الفرد الأحوازي بعد تبلور شخصيته على ضوء تنشأة اجتماعية مطبوعة بنبذ لغة وثقافة محددة والتحفيز على التمسك بأخرى بديلة، بعد كل ذلك يلقى الفرد الأحوازي العربي في واقع لا يتمتع فيه بما يسمى في الدراسات النفسانية بالشعور بالطمأنينة. ذلك أن تجسس السلطات في الحكومة البوليسیة الإيرانية يمنعه من حفظ حياته الخاصة وحيزه الفردي بعيدا عن التدخلات السلطوية. فليس للفرد الحرية في الزي ولا في المعتقد ولا في البيان. ومن هنا يتم نقض أول مبادئ حقوق البشر: وعلى رأسها حرية التعبير. فلا يمتلك أحد في النظام الإيراني الراهن حرية التعبير، أو إتاحة مجال للنقد. وإذا كان هذا الحال هو واقع عموم الناس الواقعين في سلطة النظام الإيراني القائم، فإن الشعوب الغير فارسية تعاني من مضاعفة في هذا الأمر. فهي تفقد كليا حرية التعبير عن مطالباتها القومية، ونقد ممارسات الاحتلال الإيراني وتنفيذه سياسات تضر بواقع القوميات الأخرى.

وإذا ما أخذنا نموذجا عن هذه الأحوال، فخير نموذج في التحديات التي تواجه الفرد هو طريقة عمل السلك القضائي في إيران، إذ يكون فيه المتهم مجرما إلا إذا ثبتت براءته: عن طريق الرشاوي أو الحصول على واسطات. وفي الحالة الأحوازية فإن السلك القضائي لا يلتزم بالقوانين المكتوبة الجنائية والمدنية، بل إن القضاء هو ما تقرره السلطات الاستخبارية.

 وفي هذا السياق يكون اتهام الانفصالية كفيل بإصدار أي حكم يراه عنصر الاستخبارات، بناء على حالته المزاجية، بدء من السجن لفترات طويلة جدا، وصولا إلى الإعدام أو الموت تحت التعذيب. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن معظم عناصر الاستخبارات، خاصة المراتب العليا فيها، خاضعة تماما للفرس من اللر، مثلما أشير، وإذا استذكرنا مدى معاداة هؤلاء وبغضهم للعرب، عرفنا حينها أن البطش بكل عربي أحوازي اتهم بالانفصالية سيكون بطشا لا رحمة فيه، فضلا عن التقيد بالقانون القضائي المنصوص.

وبعبارة أخرى فعندما يصبح البت بقضية فرد أحوازي، أي عربي، يصبح البت بها بيد صاحب سلطة من الفرس، فإنه يستطيع إقصاء هذا الأحوازي مرة واحدة بمجرد أن يتهمه بأنه صاحب ميول انفصالية أو قومية. وهذا اتهام جاهز يهدد جميع الموظفين الأحوازيين في أجهزة الحكومة، فضلا عن طلاب الجامعات والناس العاديين، مما يجعلهم في حالة تتطلب منهم دوما التصريح بإدانتهم للقوميين الإنفصالين، وإثبات معاداتهم لهم بالعمل وبجميع التصرفات. وعلى رأس هذه التصرفات هي إعلان موالاتهم الدائم للمرشد والمذهب والحرس، وبراءتهم من أعدائهم. ومن التصرفات الأخرى الملزمة لإثبات البراءة من تهمة الإنفصالية هو الابتعاد عن التمظهرات العربية: من الملبوس والعادات والتجمهر ولغة الأبناء، حيث أن لغة أبناء هؤلاء من العرب ضعاف النفوس عادة ما تتحول إلى لغة الفرس الغزاة.

 

التحديات النفسية

إنه إذا كان هذا هو واقع حال التحديات التي تواجه الفرد الأحوازي على مستوى الأمد البعيد، فإنه من الأولى أن تخلق له نفسية خاصة: قوامها الرقابة الذاتية والإزدراء الذاتي. ففي الرقابة الذاتية یفرض الفرد رقابة باطنية على كلامه ومعتقده، متحاشيا عما يتخيل أنه سيثير عليه السلطة التي تمارس عليه مباشرة: سواء كانت سلطة الدولة، أو الجهاز الحكومي الذي يعمل فيه، أو سلطة الاستخبارات المنتشرة على طول المجتمع حسب تصوره. وعادة ما تكون هذه الحالة موهومة غير مبنية على واقع موضوعي. ويساهم الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، والجهاز البيروغراطي الحكومي، في توطيد هذه الحالة في نفوس الأفراد والجماعات على حد سواء[9].

وتكتسي هذه الظاهرة أبعادا اجتماعية أيضا. وصحيح أن مفعولها يظهر على الفرد أكثر، لكن حقنه إنما يتم في العلاقات الاجتماعية في المجتمع. وتعد الحالة الأحوازية أرضية خصبة لسريان الرقابة الذاتية، ذلك أن الفرد العربي مهاجما من قبل السلطات والمجتمع على سواء. لقد دأبت السلطات الإيرانية بدعم من نخبها على صياغة تنشأة اجتماعية قوامها تصوير العرب في أدنى مستويات التقدم الحضاري، بموازاة قولبت الفرس بقالب المتقدمين عقلا وثقافة وحتى شكلا وجسما[10]. وبعد مضي التعامل مع هذه الصورة الموهومة التي تم بثها في الكتب المدرسية وعلى وسائل الإعلام، باتت تشكل حقيقة لا جدال فيها تكتسب اجماع عامة الناس. وبتأثير من ذلك أصبح العربي الأحوازي يفرض رقابة ذاتية على نفسه، وصلت إلى تنصله من الإقرار بعروبته، ومحاولة التخلي عن العربية عبر تفريس الأبناء، كما قيل سابقا، وبذل مجهود اقتصادي كبير للسكن في الأحياء التي تقطنها الأكثرية المستوطنة.

ولعله بات واضحا أن عملية الرقابة الذاتية المشار إليها إنما تغتذي بالدرجة الأولى من الشعور بالإزدراء الذاتي، فهذه ظاهرة مصاحبة لتلك. ولهذه الخلة تمظهرات عديدة منها الشعور الجلي بالخجل، خاصة الخجل المفضي إلى التخلي عن الظهور في الساحات العامة، وما يصنف في الدراسات النفسية بالسلوك الراغب في الانتقام والثأر. على أن هذا السلوك له تبعات إيجابية في حالات الاحتلال لكنه يبقى سلوكا معيوبا لأنه لن يجد حد يقف عنده. فمن تبعاته الإيجابية هي الميول نحو الثأر والانتقام، الانتقام من عملاء ورجال السلطة، بيد أن ردود الفعل هذه لم تظهر بعد في الفرد الأحوازي ولا الجماعات الأحوازية.

 

التحديات الثقافية

وتتعلق هذه التحديات بالجوانب الثقافية التي تختزن حياة الجماعة الواحدة على طول تاريخ وجودها. فإذا أخذنا معنى الثقافة على أنها الروح التي تُنفخ في جسد التاريخ المشترك، والموطن الواحد، والتمظهرات الجسمانية الظاهرة على الآثار العمرانية إلخ[11]، تكون حينها التحديات الثقافية هي أكبر التحديات التي تواجه الحياة الأحوازية ماضيا وحاضرا ومستقبلا.

إن أكبر ما يتجلى من التحديات الثقافية فهي سياسة التفريس الجارية بوتيرة كبيرة. فبموجب هذه السياسة الاستراتيجية التي تتبعها مختلف الحكومات الإيرانية منذ تأسيس النظام الإيراني في نهاية القرن التاسع عشر يتم مصادرة جميع الآثار غير الفارسية في الشعوب الأخرى ومصادرتها لنفع الجانب الفارسي صاحب الدولة الجديدة. وفيما يتعلق بالأحوازيين فقد تم تغيير الكثير من أسماء المدن والقرى في الاقليم، وتم في الوقت ذاته العبث بالحدود الفاصلة لهذه المنطقة عن الأراضي الإيرانية[12]. وقد نسبت السلطات الإيرانية الأحوازيين تارة إلى ما سمته الخوز ومرة عزت عروبتهم إلى مجاورتهم للعرب وبالتالي انحراف لغتم الآرية بتأثير هذه المجاورة. وقد قادت الدولة الإيرانية حملة بمآزرة المثقفين العنصريين حملة كبيرة لبث هذه الأفكار، وسودت صحائف كبيرة في ذلك. وقد كان البعض من هولاء المثقفين قد دعى بضرورة إيفاد مستوطنين فرس للأراضي الأحوازية العربية لإتمام عملية تفريس عربانها.

وإلى جانب ذلك دأبت السلطات الإيرانية على منع الزي العربي، وسن تشريعات لا تسمح بارتداء اللباس العربي في المدارس والدوائر الحكومية والأماكن الرسمية. وإلى جانب هذه السياسات الظاهرة فإنها اتبعت سياسة غير ملموسة صورت فيها الزي العربي محل انتقاص وأمارة على التخلف، كما ذُكر سابقا.

وقد بلغت هذه السياسة مصادرة الآثار القديمة وتغيير الأسماء العامة من اسماء المدن والحضارات. حيث تم تقدير الآثار العيلامية التي تلفظ بالكتابات الفارسية إيلاميه تقديرها جانبا من تاريخ الدولة الإخمينية، وليس حضارة سامية تغاير تماما الجوانب الإخيمينية من آثار وسمات.

 

التحديات الاجتماعية

إننا إذا نظرنا إلى المجتمع الأحوازي من الداخل فإنه يواجه انشطارات ملحوظة، بالإضافة إلى التنافر الرئيس الذي يعاني منه، وهو تنافر قومي بين الأحوازيين والمستوطنين الفرس؛ وتتمثل هذه الانشطارات في التنافر فيما بين النزوع نحو المحافظة أوالحداثة، وتوطيد مجتمع نووي، وسريان الثقافة القروية.

لقد كان شأن المجتمع الأحوازي شأن باقي المجتمعات العربية وغيرها من دون شك، عصفت به أمواج الحداثة الغربية منذ دخولها إلى الأقطار العربية، حيث خلق توجهات حداثية تقابلها توجهات تقليدية سلفية تريد الحفاظ على الواقع والانفصال عن التطور الحاصل بقوة. وقد تمثلت هذه الميول نحو الشذرات الحديثة الجائية من الغرب بكل تأكيد بحدوث انفصال، بالنسبة لبعض الفئات، عن الدوائر التقليدية نظير القبيلة والمذهب والمنظومات القيمية التابعة لهما، مقابل تمسك فئات أخرى بالدوائر القديمة. ولكن بالرغم من حدوث هذا الانشطار العام، فإن هناك حقيقة هامة مفادها أن الشذرات الحداثية لم تصل إلى الأحوازيين إلا عبر القنطرة الفارسية، ولذلك بات النزوع نحو الحداثة يلازم الموقف من الفرس: إما على سبيل التماهي معهم، أو على سبيل التصادم ضدهم. مثلما حدث الأمر ذاته بين الفئات المتمسكة بالتقليدية حيث انقسمت إلى فئة تتمسك بما تلتزم به الفئات التقليدية الفارسية نظير الدين والاعتداد بالنسب، وفئة ترفض العادات والتقاليد الفارسية مصنفة لها من صنف التقاليد والعادات المناقضة للعرب والعربية بصفة عامة.

ووسط هذا الانشطار لوحظت سمات بارزة يمكن إطلاق اسم المجتمع النووي عليها. فبعد إضعاف القيم والدوائر التقليدية مقابل إنشاء دوائر حديثة متزعزعة في مدن لا هي بمتقدمة ولا قروية تماما، انفصم الفرد الأحوازي على سبيل التماسك الشخصي، وبات هائما بين الميول نحو القيم والمؤسسات الجديدة وبين تأثير الدوائر القديمة التي لم يتجاوز بعد الواقع المعيش. ومن أبرز صفات المجتمع الذري هو أن أفراده يحيون منفصلين عن البعض على شكل كتل هائمة تبحث عن عقد ينتظم شتاتها. ومن هنا يبرز بين الفينة والأخرى دور المؤسسات القديمة التي تحتضن الفرد عند الملمات. نظير استفحال دور القبيلة في الفيضانات في الأحواز، وقيامها بدور الأجهزة الإغاثية. لكن مع غياب الباعث الذي تسبب باستفحال الدوائر القديمة تعود هي مرة أخرى إلى الحالة الكامنة، ليجد الفرد مرة أخرى نفسه في حالة ذرية منفصلة عن الترابط القديم[13].

وبالإضافة إلى كل ذلك هناك ظاهرة تعاني منها المدن الأحوازية هي ظاهرة الطابع القروي في المدن. فإنه بالرغم من وجود حياة مدنية في الأحواز تعاني المدن هذه من أنها قروية الطابع: بتخطيطها وأخلاقها وقيمها وطبيعة العلاقات القائمة فيها. فالكثير من المؤسسات الحكومية قائمة على أساس وجود شبكة من التناصر والمحسوبية، فضلا عن أن الالتزام المهني هو في أدنى مستوياته. كما تعاني المدن الأحوازية مما أسماه جورج ريتس المجتمعات التي تنشأ فيها دوائر حديثة تزاحم الدوائر القديمة في كافة مناحي الحياة. فيعيش الفرد في مثل هذه الحالة حياة لا هي بحديثة ولا هي بتقليدية، حيث تعيش جنبا إلى جنب إفرازات العصر الحديث بكامل قوتها وحداثتها، وما تبق حيا من العالم القديم برمزيته وابتعاثه بين الفترات التي تشتد بها أزمات مستحدثة.

 

التحديات السياسية

يمكن تصنيف التحديات السياسية على أنها التحديات الاكثر فتكا بحياة الأحوازيين، وهي تحديات تصدر مباشرة من أعلى السلطات الإيرانية. ومن أبرز هذه التحديات هي وجود النخبة السياسية الحاكمة في محافظة “خوزستان” (شمال الأحواز) من اللر الممسكين بأعلى المناصب الاستخبارية والمدنية والعسكرية على سواء؛ وظهور تيار إصلاحي- عربي يدعو إلى جعل العرب مكونا من المكونات الإيرانية؛ وضعف الحركات الانفصالية على جميع المستويات، خاصة مستوى التخطيط الإستراتيجي.

تقع “المحافظات الأحوازية” على المستوى السياسي بقبضة اللر، وهم من يديرون هذه المحافظات سياسيا وأمنيا وثقافيا إلخ. وهذه القومية المعادية هي من أكثر القوميات عداوة وبغضا وترصدا بالعرب. وترتكز القيادات من الألوار، بمختلف تصنفيهم، على الحفاظ على الطابع الفارسي للأحواز المزعوم، وقمع أي توجه أو حركة أو فرد تصدر منه أفكار قومية. على أن النقطة اللافتة في هؤلاء هو تدنيهم العلمي الذي يجعلهم غير مؤهلين لقيادة عامة، سواء سياسية أو اجتماعية أو حتى أمنية إلخ، الأمر الذي يظهر في تردي الأوضاع العامة في هذه المنطقة، وتخلفها عن معظم المناطق الخاضعة للنظام الإيراني؛ فضلا عن جعلهم يسلكون سياسة عنيفة وضاربة في التعامل مع أي حالة طارئة، نظير الاحتجاجات والمطالبات القومية الاجتماعية، لا يحسنون التعامل معها إلا باستخدام القوة المتفوقة لديهم، وهي قوة ليس فيها رقيب لاستخدامها بل أطلقت أيديهم فيها. فتشير بعض المعلومات الرسمية إلى أن المركز الإيراني، لجهله بالحالات الواقعة في الحدود، نظير الأحواز والبلوش والأكراد، يفوض مهمة التعامل السريع معها إلى القيادات العاملة في المنطقة، الأمنية والسياسية على وجه الخصوص، ويكون التفويض في مثل هذه الأحوال مطلقا.

ولعل أكثر السياسات ضررا لهذه القيادة العنصرية هو استغلالهم القضاء والاستخبارات لإبعاد أي منافس احوازي في السلك الحكومي تظهر عليه جدارات محددة. وهذا يثبت تماما أن الطريقة الطاغية على إدارة اللر لهذه المنطقة هي طريقة عشائرية تتصور خيرات الأحواز مغنمة لها يجب استغلالها وإبعاد أي منافس عنها. وإذا ما لاحظنا نزوع اللر نحو العيش في مراكز الدولة الإيرانية، نظير طهران وأصفهان وشيراز، أولا لأفضلية طقسها ثم للاقتراب من مصادر السلطة الرئيسة، حينها عرفنا أن معظم الذين يتبقون في الأحواز من القيادة اللرية فهم من اصحاب الشهادات المتدينة والمستوى العلمي المنخفض. وهذا من جهته ينعكس سلبا على الواقع.

ولعل احتكار السلطة بيد اللر هو من قاد بعض العرب ممن لا يؤمن بالتحرير والاحتلال أن يسعى إلى الانتماء للتيار الإصلاحي على سبيل الحصول على بعض المغانم، وشيئا من مزاحمة اللر على حصد المناصب الحكومية التي يحتكرونها. وصحيح أن بعض مطالبات الإصلاحيين العرب تمثل في الدعوة إلى حرية الرأي والمعتقد وبعض الحقوق القومية، غير أن معاينة أحوال التيار الإصلاحي العربي يثبت أن معظم الغايات عند هؤلاء هي غاية فردية لجني الأرباح والمشاركة في كعكة الفساد التي يتقاسمها أصحاب السلطة. على أن هذا التيار بالرغم من خيبته في الوصول إلى معظم أهدافه المجاهر بها، فإنه نجح في تشتيت الصف الأحوازي، وترهل الجبهة المطالبة بتحرير الوطن المغتصب، وساهم في تضييع جهود وطاقات كبيرة كان توظيفها الأجدر في المطالبات المبدئية القومية.

ولعل الذي أتاح المجال موسعا لهذا التيار هو ضعف تلك الحركات التحررية على كافة الأصعدة السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية. فبعد مرور قرن من تشكيل الحركات التحررية الأحوازية لم يشهد هذا القطر وجود حركة رصينة تحظى باحترام الشعب وتوسعا بين مختلف أوساطه، لها القول الفصل. بل الغالب هو أن هذه الحركات منفصلة عن الشارع العربي لا تمثل إلا نفسها ومنتسبيها القلائل.

وصحيح أن جانبا من هذا الواقع يعود إلى ضعف الوعي السياسي العربي في الأحوازي، إلا أن الوعي السياسي يجب أن يكون منبثقا عن عمل ومساعي هذه الحركات المنظمة لا عن سواد العامة المنهمكة بواقعها اليومي التعيس. إن ضعف الوعي السياسي التحرري في الأحواز، إلى جانب الكثير من الأسباب الموضوعية الأخرى، فإنه حصيلة ترهل العمل التنظيمي للحركات التحررية، وانعدام رؤية استراتيجية لديها ترسم مراحل في الطريق النضالي، وتحدد مستوى بلوغها الهدف.

 

الاستنتاج

أظهرت هذه الدراسة أن التحديات التي تواجه المجتمع الأحوازي بجميع فئاته، على صنفين: صنف قريب الأمد وصنف بعيد الأمد. فبخصوص التحديات القريبة الأمد، فإن أبرز ما يميزها هي أنها تحديات محدقة، وتجري في كل يوم من جانب السلطات المحتلة وقواها البشرية المبثوثة في المجتمع وفي جميع أجهزة الحكومة. ولذلك فهي تحديات تتطلب تعاملا سريعا ورد فعل مستعجل تجاهها من جانب المتسهدفين وهم الأحوازيين. إنها تحديات لا تحتمل البت الآجل بها، بل على الحركات التحررية بالدرجة الأولى، وعلى مختلف النشطاء وآحاد الشعب الأحوازي، أن ينهض بمهمة مجابهتها والحد من وطأتها ومختلف تبعاتها الموسعة.

أما التحديات البعيدة الأمد فهي من صنف تلك التحديات التي لا تستوجب حلا طارئا ولا تعاملا مستعجلا، على العكس من التحديات القريبة، بل إنها تريد حلولا وخطط متأنية استراتيجية، تشمل مختلف الجوانب وتقييم مختلف الساحات التي يجب تنفيذ هذه الإستراتيجيات بها. وبالرغم من عدم استعجال النهوض في هذا الصنف من التحديات، غير أنها أكثر تبعات، إذ إن تبعاتها تبقى إلى أمد بعيد، وليس من السهل القضاء عليها بمجرد ردود فعل عاجلة. إن التحديات بعيدة الأمد التي تم احصاءها أعلاه هي مخاطر ستظل تؤثر على حياة الأحواز والأحوازيين لعقود من الزمن، ولذلك لا يمكن التخلص منها إلا ببرامج تستمر لعقود من الزمن، لأنها سياسات حصيلة أعوام من التفكير والتخطيط لضرب عروبة الأحواز في الصميم.

 

 

حسين علي، باحث في معهد الحوار للأبحاث والدراسات

 

 

المصادر

[1] . بررسي نظام امنيت ملي و ابعاد مختلف آن، علي صالح نيا، آثار برگزیده دهمین كنگره پیشگامان پیشرفت.

[2] . نظام آموزشي و ساختن ايران مدرن، ديويد بلامناشري، حسين بادامچی وعرفان مصلح، نشر سینا، تهران 1397.

[3] . انجمن جامعه شناسى ايران

[4] . الظواهر القبلية والجهوية في المجتمع العربي المعاصر: دراسة مقارنة للثورتين التونسية والليبية، محمد نجيب بوطالب، المركز العربي للأبجاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، بيروت: 2012، ص36.

[5] . شناسایی کانون های منشا ریزگرد در استان خوزستان، علی اژدری، وزارت صنعت معدن وتجارت، آبان 94.

[6] . ارزیابی انتقال فلزات سنگین (سرب، نیکل« و وانادیوم) در زنجیره غذایی تالاب هور العظیم، محمد بستان زاده ودیگران، مجله اقیانوس شناسی، سال یازدهم، شماره 42، تابستان 99.

[7] نقش زبان مادری در آموزش های اولیه کودکان غیر فارسی زبان، هادی آرزومندی، کنفرانس بین المللی ادبیات و زبان شناسی.

[8] . أنا لغتي: دراسة حول أهمية اللغة الأم وتنميتها في الأهواز، سعيد بوسامر، دار قهوة للنشر والتوزيع، الأحواز المحتلة 2020.

[9] . طراحی الگوی خودسانسوری در سازمان های دولتی بر اساس نظریه داده بنیاد، میر علی سید نقوی ودیگران، فصلنامه مطالعات رفتاری در مدیریت، دوره 10 شماره 20، 1398.

[10] . ناسيوناليسم نژادی در تاریخ ایران معاصر، عبدالرضا نواصری، گام نو، تهران، 1400.

[11] . مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، دنيس كوش، ترجمة منير السعيداني، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2012.

[12] تاريخ عرب الأهواز، عبدالنبي قيم، دار مدارك للنشر، 2013.

[13] . المجتمع العربي في القرن العشرين: بحث في تغيير الأحوال والعلاقات، حليم بركات، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت2000.



error: Content is protected !!