الثلاثاء, مايو 7, 2024
دراساتهيكل المدينة الكلونيالية في الأحواز العاصمة: القائم على المركز/الفارسي والأطراف/الأحوازية

هيكل المدينة الكلونيالية في الأحواز العاصمة: القائم على المركز/الفارسي والأطراف/الأحوازية

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

تخطيط المدينة الكلونيالية القائمة على مركز فارسي وأطراف أحوازية

 إن أول ما يلفت النظر في الأحواز العاصمة، سواء لمن يعيش فيها منذ ميلاده، أو من يَفِدُ عليها إلخ، هو تكون المدينة هذه من أحياء متقاربة جغرافيا ومتفارقة عمرانيا؛ أعني بذلك أن التخطيط العمراني الأحوازي، في وضعه الراهن، يظهر وجود أحياء فارهة، يطلق عليها المناطق المترفهة، وأحياء مهمشة، يسوق أن نطلق عليها هنا الأحياء المهمشة أو الأطراف.

وإذا كانت هذه الظاهرة هي الطاغية على جميع المدن الإيرانية، خاصة في العاصمة طهران، حيث من المعروف انقسام، بل انشطار، المدينة هذه إلى منطقة تسمى «بالا شهر» وأخرى تسمى «بايين شهر» انشطار يروي، بالدرجة الأولى، التفاوت الطبقي الصارخ فيها، وهو بالأساس مشتق عن الاختلاف في عوائد الناس، ما خلق مفازة بين هؤلاء القاطنين في الجنوب أو «بايين شهر» وبين أولئك القاطنين في «بالاشهر» اقتصاديا، وما يتفرع عن ذلك في كافة شؤون الحياة، الدينية والثقافية والاجتماعية إلخ، أجل إذا كانت هذه الظاهرة طاغية في المدن الإيرانية وهي اشتقاق عن التفاوت الطبقي فيها، بيد أن هذا الانشطار في مدينة الأحواز يقتعد على أساس آخر، مغاير عن ذلك الأساس الاقتصادي المشهود في طهران والمدن الإيرانية الأخرى: إنه، حسب ما أريد إثباته، قائم على أساس تقسيم قومي، ومنبثق عن التفاوت ما بين العرب سكنة الأحياء الفقيرة المهمشة الواقعة في الأطراف، وبين الفرس المستوطنين المتربعين على المركز في الأحياء المتقدمة «المدنية الراقية». إنه بعبارة أخرى انعكاسا لواقع الكثرية العربية «المتخلفين» المتوزعين على «عشائر» وبين الفرس «المتقدمين» «المدنيين»، من يجب على العربي الاقتداء بهم لبلوغ «التحضر» (حسب الرؤية الفارسية)، ولتجنب الطرد أولا، وللدخول في دائرة الأنا التي توفر على الفرد الأحوازي، العربي بالضرورة، معاناة الآخر غير الفارسي المطرد والمنبوذ ثانيا حسب ما يعكسه الواقع المرير هذا الذي نحن عايشوه.

ثم هناك اختلاف جوهري آخر يظهر في تقسيم مدينة الأحواز إلى مركز وأطراف، مقارنة بباقي المدن، وهو إنه إذا كان المركز والأطراف في المدن الإيرانية الأخرى يظهر، أول ما يظهر فيه، من خلال التباعد الجغرافي، فإن الواقع المنشطر هذا في الأحواز على عكس ذلك تماما، وهو يتجلى في أحياء لا يفصل بينها سوى شارع عام واحد يفصل بينها بعشر أمتار في جملة الأحوال: وإذا ما أردنا دعم ذلك بأمثلة أتينا على: حي «كيانبارس» مقابل سيد خلف (ليس بينهما سوى دوار عام)، وحي «كورش» مقابل حي الزوية (بينهما شارع عرضه 20 مترا)، وحي «باداد» وحي «خروسي» متحايثين تماما متلاصقين، وحي «كلستان» وحي الجنيبة إلخ.

ما سبب ذلك؟ ما هو السبب في إنشطار الأحواز العاصمة بين أحياء ينصب عليها التركيز الحكومي، وبين أخرى طردت فنبذت وأريد لها أن تجتر حرمانها؟ إن الإجابة تظهر في الغايات الكامنة وراء تكوين المدينة في النظام الإيراني ودولته. لقد كان ميلاد المدينة في إيران، ملازما ميلاد توجهات حداثية فيها، حيث جاء تخطيط المدن يبتغي إدخال إيران إلى العالم الحديث، وفق فهم النخب الإيرانية القومية وسلطة البهلوي الممثلة لها تقريبا، وإخراجها من العالم القديم بما يحمله[1]: من اختلاف شعوب وأمم، ولغات وأديان، وثقافات وتاريخ إلخ[2]. ولكن بما أن الحداثة، وفق الفهم الإيراني لها[3]، كانت تتطلب بناء دولة قومية، بأضيق معنى لمفهوم الدولة القومية، بل بمعنى ميلادها على أساس قومية واحدة هي الفارسية، فلأنها كانت كذلك قد تم طرد كل ما هو غير فارسي فيها على يد النظام السياسي الذي تمخض عن مثل هذه العقلية وهاته الأفكار.

ومن هنا جاءت جميع إفرازات هذه السلطة، ومن بينها المدينة، مصطبغة بهذا الفهم، ومُنَفَذَة على طريقة طرد الغير. وكما يبين الدكتور عماد المزرعاوي فإن تكوين المدينة الإيرانية قد كان قائما على أساس فرض أنماط من الحياة محددة، صوروها على أنها مدنية، على أنماط أخرى قدروها على أنها بمتخلفة، يجب التحرر منها لتجنب الكثير من العقوبات الناتجة عن الكيون في حالة هي لا تنتمي إلى محددات الحياة المدنية المفروضة من خطاب الحداثة بنسختها الإيرانية/الفارسية[4].

على أن الأهم في هذه المحاولة المنطوية على فرض طريقة حياة جديدة، فهي ليست عمليتها الجارية علانية عن طريق الأذرع التنفيذية للدولة الفارسية، بل، مثلما يقول الكاتب ذاك، فقد كان الأهم والخطير، في كل ذلك، الطرق الخفية التي وقفت كدافع ووازع، بالآن ذاته، لإمضاء أساليب في الحياة سيواجه التخلف عنها، أو التنصل من الالتزام بها، بشتى صنوف العقوبات الخفية من جهتها، من وصم بأنواع الأحكام: كالـ«متخلف» و«القروي» و«الفقير» و«القديم» و«القبيح» و«عَرَبه»إلخ، ليجد المرء نفسه تحت طائل هذه الأحكام غير الجسدية، ولا المعذبة، الصادرة عن جميع أفراد المجتمع «المتقدم»/الفارسي، لا مندوحة لديه سوى الفرار منها ومن وطأتها النفسية، ولا سبيل إلى الفرار منها سوى الاطصباغ بصبغتهم، والذوبان في طرائق حياتهم وقوميتهم، كما يقول المزرعاوي، أو الإنكفاء على الذات والاحتماء بالمجتمع القديم وأخذ حالة الدفاع في فسطاط هذا الآخر المنكفيء المطرود الموصوم بشتى صنوف التقيبح والنبذ كما أقول أنا مستلهما طريقة تكوين الخطاب المقاوم الذي يضد الخطاب المهيمن[5].

وهكذا يتبين أن المدينة الفارسية التخطيط والعمران والمنشأ، هي بوتقة من بوتقات النظام السياسي الإيراني الذي توخى من جميع ما بناه من مؤسسات ومرافق عامة بناء دولة فارسية الحكم واللغة والثقافة والمستقبل، فارسية الوجود بكل ما تحمله الكلمة من معاني. ولذلك تساوَقَ توسيع المدن عمرانيا مع توسيع التنميط والذوبان الثقافي والمجتمعي:

وهكذا أُريد للأحياء «المتقدمة» على الأحياء العربية أن تكون أحياء يرمقها الأحوازي، وهي مجاورة له، لتوحي له، بكامل عقليته، بأن لا سبيل إلى نيل التقدم سوى الاستحالة في الأحياء «المتقدمة» هذه، تقدما يعني تعلم الفارسية ثم إحكامها لفظا ولهجة، لأن النطق بالفارسية بلهجة غير لهجتهم سيكون دلالة على عروبة هي منقوصة، ومحل تقبيح الفرس المتقدمين هؤلاء؛ وتقدما يعني التستر بالزي الفارسي ونبذ العربي لأنه علامة التخلف؛ وتقدما يلزم منه الذوبان بكل ما يمكن للفرد أن يصبح مدنيا بالمعنى الفارسي له[6].

وإذا كان هو هذا حال المدينة الأحوازية التي بناها الفرس، وهذه هي غاياتها القصوى المتمثلة في تفريس العرب، فإن الأحوازي وقف أمام السياسة هذه أمام خيارين: أولهما الإنصهار داخل المدينة هذه بجموع الفرس المستوطنين، والذوبان في لغتهم وثقافتهم والتحول إلى أحد منهم خلاصا من الطرد والتبعات الجسام، التي أعددناها أعلاه؛ وثانيهما هو الإنكفاء على الذات، والابتعاد عن كل ما هو فارسي وافد على الأحواز معاد عروبتها، والتقوقع على الأطراف وأخذ موضع الهامش.

وقد كان خيار الأحوازيين، خاصة منذ بدايات توسيع التمدين في الأحواز وإيفاد جموع المستوطنين، هو خيار الإنكفاء والانغلاق على الذات. وإن من أخطر النقاط التي يجب التفطن لها هو أن هذا الانكفاء الذي تبدى طبيعيا في عيون الذين رصدوا نمو المدينة في الأحواز العاصمة، جاء بتبعات جسام على الشعب الأحوازي، وجعله يتموضع في الأطراف على هامش المدن، في أحياء فقيرة تعاني من فقدان شبه تام للخدمات، وهي إلى القرى الكبيرة العشوائية أقرب.

وهنا في القسمين التاليين، نعدد أبرز أسباب ازدياد الحاشية على أطراف الأحواز العاصمة، نظير الملاشية و«زردشت» و«كوي سادات» ونحوها لنختم القول بالتبعات في دراسة لاحقة تردف هذه.

 

أسباب زيادة الحاشية الواقعة على أطراف الأحواز العاصمة

زيادة نسبة المدن ووتيرة التحديث

 إن أولى الأسباب التي أفضت إلى هذا الاستفحال المتفاقم للأحياء الهامشية في الأحواز، بعد ما ذكرته أعلاه من الخلفية التي تنزل منزلة البنية التحتية لبناء المدينة الفارسية التنفيذ، هي تلك الأسباب المتعلقة بزيادة نسبة المدن وتسارع وتيرة التحديث. وهذه ظاهرة قد برزت بشكل كبير في العهد البهلوي الثاني، إبان حكم محمد رضا شاه بهلوي، حيث تعود ظاهرة زيادة التمدين إلى عهده، لما توفر لديه في فترة الستينات على وجه الخصوص، من أموال طائلة من بيع النفط الذي شهد في تلك الفترة زيادة في الأسعار، جعلته (الـ شاه) على مكنة مالية كبيرة، أخد يخطط فيها سياسة عمرانية مستعجلة، على رأسها توسيع المدن وظاهرة التمدين وتقليص عدد القرى والقرويين[7]. فبموجب هذه السياسة التحديثية أخذت المدن تتوسع، وأخذت في مقابل ذلك القرى والمناطق الحاضنة لنمط حياتي غير مدني تتقلص مساحة، أو تفقد قابليتها الحياة الطبيعية، لا توفر أسباب الحياة التامة لمن يعيش فيها، مما أضطر ذلك جموع الناس القاطنين فيها إلى البحث عن مكان يوفر لوازم الحياة، فكانت المدينة هي الوجهة الأولى بالنسبة لهم.

 هذا من حيث الوضع العام الجاري في النظام الإيراني ونطاق حكمه؛ أما بالنسبة للأحواز ومن الزاوية الأحوازية فإن توسيع المدن الذي كان يأتي دوما على حساب القرى بانعدام الإمكانيات المساعدة لاستمرار الحياة فيها، فقد كان يعني توسيعا لنطاق زاحم نطاقا آخرا، دون أي بديل لهذا النطاق القروي: أقول دون أي بديل لأن الهجرة إلى المدينة بالنسبة للأحوازي، كانت تعني ترك عشيرته ونطاق قبيلته وموطنه الذي ألفه منذ صغره، وهو موطن الأب والجد في معظم الحالات، والدخول إلى نطاق آخر أول ما يتطلبه منه هو التخلي عن ذلك السند المألوف المعنوي والمادي المتمثل بكل مِنَحِ العالم القديم؛ وليس هذا فحسب بل إن الدخول إلى المدينة كان يعني للأحوازي، في حالة مزودجة، الدخول إلى عالم غريب لغويا، وعادات وتقاليد وحضارة إلخ، لا يعرف عنه شيا، عالم الفرس المدني المستوطن بوفرة العيش مقابل مسغبة هذا الذي انعدمت أبسط أسباب الحياة في موطنه.

إن دخول المدينة الفارسية المنشأ قد عنى بعيون القروي الأحوازي، والقرى هنا هي مدد الأمصار وقوامها، حالة دخول إلى عالم غريب غربة مزدوجة: أولاهما، وهي الأهون، الخروج من العالم القديم بجميع مقوماته: من القرابة والقبيلة والمنطقة المألوفة إلخ، إلى عالم اختلاط الأنساب وبُعد المسافة وتنافر الناس؛ وثانيتهما، وهي الأخطر والأجل: هي الدخول في نطاق حضاري مناقض هو نطاق الفرس وجميع ما به ينافرون العربي الأحوازي. ومن أجل ذلك بالتحديد، ساقت ضرورات الحياة الأحوازي العربي إلى اختراع بديل آخر للمدينة هذه التي تعاني، من وجهة نظره، من اختلاط مزدوج، اختراع أراد به دفع الفاسد بالأفسد: النزول على حاشية المدينة وتجنب الأفسد فيها المتمثل بمخالطة الفرس، وقبول الفاسد المتثمل بمخالطة العرب من غير العشير والقبيل.

 على أن هذا الاختراع لم يكن نتيجة وعي قومي ينزع إلى العربية ضدا على الفارسية، كلا.. إنه أبعد ما يكون عن ذلك. إن مردَّ قبول الأحوازي القروي، بمخالطة عربي آخر من غير العشير في الهامش وعلى حاشية الأحواز العاصمة، يعود إلى إنعدام مكنة مواجهة عالم التمييز والطرد والازدراء إلخ الذي كانت المدينة الفارسية ناضحة به. وأقول بعبارة أخرى إن الحاشية المتكونة من الأحوازيين على أطراف مدينة الأحواز، كانت تعني بعيون العربي الفار من مسغبة قريته، الاحتماء بعالم يشابه عالمه الذي فر منه، وهو يرحب به لأنه عالم المماثلين قدرا واقتصادا وعرقا ولسانا، هو عالم العرب؛ بالتزامن مع الفرار من عالم المدينة الذي كان يعني الدخول في عالم المتنافرين منزلة واقتصادا، المعادين عرقا ولسانا، هو عالم الفرس.

ومن دون الإكثار في القول فإن من هذه النقطة بالتحديد يجب التماس التأويل لظاهرة مستفحلة اليوم في هذه الهوامش: ألا وهي استنكاف العرب الأثرياء القاطنين في الحاشية من القدوم إلى قلب المدينة والأحياء الراقية، الفارسية الطابع والمستوطنين، وتفضيل المكوث في المنطقة المعتادة، لا لشيء، في رأيي، سوى لكراهية مخالطة الفرس في أحيائهم، وترك المدينة القريبة على العادات والمألوف والسنن واللغة.

     

سياسة التمييز الممنهج

 ولعل الذي ذكرناه أعلاه، من أسباب زيادة الحاشية في الأحواز، هو خير مدخل للتذكير بدور السياسة المزمنة للفرس، بنظامهم السياسي، القائمة على مأسسة التمييز ضد العرب في موطنهم، وتنفيذها على الوجه الأشد. فهذا التمييز المهيكل في النفوس والأبدان، يتجلى في بعدين: معنوي ومادي.

 ففي الجوانب المادية يتجسد، في أبرز ما يتمثل فيه، في عدم توظيف الأحوازيين في الدوائر الحكومية وإبعادهم عن المناصب العليا حال التوظيف؛ وصرف المخصصات المالية في الموازنة العامة للأحياء الفارسية حصرا؛ وانتهاج مسلك الاستغلال والإفساد بمقدارت الأحواز وثرواتها الطبيعية. وصحيح أن للتمييز هذا وجوه مادية أخرى متشعبة كثيرة، ولكن من البدهي أن لا نتطرق لها كلها. أما في الجوانب المعنوية لهذا التمييز فيمكن الحديث عن ممانعة التعليم باللغة الأم، العربية؛ والنظام التعليمي المفروض الذي يعمل كقناة لنقل التزوير، تزوير التاريخ أولا، قوامه نكران كل ما هوعربي في الأحواز؛ والإعلام وترويجه تفوق الفرس الأريين على العرب الساميين، أهل الأحواز وسكنتها.

إن أحدث الاحصائيات التي عمل عليها نشطاء أحوازيين[8] أفادت بأن عدد الموظفين الأحوازيين في النظام البيروغراطي الفارسي، في الأحواز، لا يبلغ نسبة 6 بالمئة، تتقلص هذه النسبة إذا تعلق الأمر بالمناصب العليا للجهاز البيروغراطي. ولعل خير شهيد على ذلك هو أن ما يسمى «محافظة خوزستان» في شمال الأحواز على الرغم من أغلبيتها العربية الساحقة، لم تشهد، لغاية الآن، تولي منصب المحافظ على يد عربي. وعلى العموم فإن ما نريد التوكيد عليه في هذه الجزئية هو أن هذا التمييز البيروغراطي الممنهج ضد العرب يعزز تقوقعهم على الحاشية؛ فهو، من وجه، يجعلهم بغير حاجة إلى المدينة وما بها من أنطمة وأنماط عمل؛ جعله إياهم، من وجه آخر، منكوبين عن خيرات الدولة ومن التطاول على ثرواتها.

وتُزامن هذه الظاهرة، ظاهرة ممانعة المناصب الحكومية البيروغراطية من العرب، إتاحتها للفرس المستوطنين، حيث جعلت سياسات النظام الإيراني التوظيف الحكومي حافزا ومنحة لكل مستوطن يأتي من أقاصي إيران فيقطن في المدن الأحوازية، حتى يجد نفسه مكينا بما فيها من وفرة عيش وإتاحة وظيفة، وكثرة قروض تسمح له بشراء بيت في الأحياء الغالية الأثمان، ونحو ذلك من المحفزات المغرية للمستوطنين الوافدين.

ليس هذا فحسب، بل لهذا الطرد من النظام البيروغراطي تبعات جسيمة أخرى على الحياة العامة في مدينة الأحواز العاصمة ترتد بنتائج وخيمة: من أبرزها هو تربع الفرس على نظام تسيير الحياة العامة، وعبثهم بالأصول المالية المخصصة للعمران المدني: فإذا أردنا تقريب هذه الصورة هنا استذكرنا أن جميع مديري إدارة العمران في الأحواز كانوا من الفرس، وكانوا ولا يزالون يتميزون بإصرارهم على صرف المخصصات المالية للعمران على الأحياء الفارسية دون الأحياء العربية، الأمر الذي جعل الأحياء العربية الواقعة في قلب مدينة الأحواز العاصمة تبدو حاشية بالمقارنة مع هذه الأحياء الفارسية.

 فإذا أخذنا حي العامري والخزعلية وإرفيش إلخ مثالا على ذلك، وقارناها بأحياء نظير ما يسمى «كيانبارس» و«باهنر» و«كورش» و«زيتون کارمندي»، وجدنا هذه الأحياء تتفوق من حيث الخدمات، وأسعار العقار، والشكل العمراني، ومستوى الوسائط العامة للتنقل، وقرب المشافي إلخ… على تلك، ما يجيز لنا القول بأن واحدة من هذه تكفي لتتفوق على كل تلك الأحياء العربية؛ والحال أن كل هذه الأحياء الفارسية بجمعها لا تقترب عمرا ولا تكوينا إلى واحدة من الأحياء العربية التي كانت عامرة ووفيرة فيها كثرة سكان في الوقت الذي كانت الأحياء الفارسية مجرد مستنقعات مائية ليس أكثر[9]. (ليس هذا تناقضا في عرضنا: لاقرارنا من جهة بأن العرب فضلوا السكن في الأطراف للأسباب التي ذكرنا، بالتزامن مع غلبة العنصر الفارسي على المدينة من جهة أخرى. أجل ذلك ليس تناقضا لأن مدينة الأحواز العاصمة قد شهدت فعلا تواجدا عربيا في مختلف الأحياء، كان من الممكن أن يتحول إلى مدنية عربية أحوازية، لولا ذلك المد الاستيطاني الذي أجهض، مرة أخرى، النمو المدني الطبيعي العربي في الأحواز.. هذا موضوع آخر).

على أن أمرّ صورة من مشاهد وقوع المناصب العليا لإدارة مدينة الأحواز العاصمة بيد الفرس من غير أهلها الأحوازيين، من المستوطنين الوفود، فهي تلك التي تتعلق بطرق إدارتهم المدينة والتصرف بخيراتها. إن المشهود في هؤلاء المديرين هو أنهم من المستوطنين الذين تركوا موطنهم في محافظات إيرانية، ومعظمهم من اللر، بعد فشلهم في الحصول على شهادة جامعية محترمة، أو مصدر رزق قار، ولذلك تجد جلهم من أنصاف المتعلمين الذين نبذتهم مناطقهم ففروا إلى مناطق أخرى طلبا للقبول ولقمة العيش، فوجدوها في الأحواز ومختلف ربوعها. لكنهم بعد حصولهم على أضعاف ما حلموا به في الأحواز، لم يشكروا النعمة، فيحاولوا رد الجميل إلى أهله، كما يفعل اللاجئون في البلدان الأوروبية مثلا، بل إنهم فتكوا بالأرض التي آوتهم وأكرمتهم وأهلها، على صورة شعورية ولا شعورية.

ففي الجانب اللاشعوري تم فتكهم بالأحواز بتوليتهم المناصب العليا، التي لم يتهيؤا لها، ولم يحملوا العدة العلمية والعملية اللازمة فيها، فظلوا يشرعون قوانين، ويمضون سياسات عمرانية هي إلى الدمار أقرب وبالهبل أجدر. فهذه قضية تصريف المياه وقد عانت منها الأحواز منذ عقود، لم يستطع أيا منهم العثور على حل لها، لأن ثقافتهم العلمية لا تسعفهم بذلك. ثم إننا إذا قارنا الشكل العمراني العام للأحواز الثرية والمصنفة ضمن «المدن الإيرانية الكبرى» (كلان شهر) إذا ما قارناها بأصفهان أو شيراز أو مشهد وجدناها تتخلف عن هذه المدن، المتخلفة أصلا، بمراحل كبيرة ليصبح التخلف تخلفا مضاعفا هنا.

أما في الجانب الشعوري العالم فإن فتك المستوطنين الفرس الحاكمين الأحواز العاصمة يظهر في شتى الجوانب – ما يجعل المستوطنين هؤلاء هم شركاء جرم مع النظام الإيراني يمكن ملاحقتهم في النظام القضائي العادل وإقامة الدعاوي ضدا عليهم، مثلما سنرى في فقرات الأضرار المعنوية بشكل أوضح- على رأسها عدم الاكتراث بمستقبل الأحواز وثرواتها وما سيحل بها. ففيما يتعلق بمستقبل الأحواز نرى أن المستوطنين من رؤساء بلدية ونحو ذلك تصرفوا بشكل فاسد في طبيعة الأحواز[10]، لتحصيل أكبر قدر من العوائد وإنْ على حساب دمار كل ما على أرض الأحواز: فهذا مشروع قصب السكر وقد جفف الأحواز، ورماها بمختلف الملوثات في الجو، وسلب ملكية الأراضي من أهلها العرب بقوة السيف إلخ؛ وهذا نهر كارون الذي يغتذي بأنابيب مياه الصرف الصحي التي مدتها بلدية الأحواز إليه بمديرها اللري السابق، بعد أن بنيت على مصادره السدود فحولته إلى جدول لجريان مياه الصرف الصحي تلك؛ وهذا هور الحويزة وقد جفف بالكامل لا للتنقيب عن النفط لأنه من الممكن تماما أن يتم استخراج النفط بطريقة التنقيب في البحر دون حاجة لتجفيف، بل جُفف لإجبار العرب هناك على الهجرة بعد جفاف مصادر رزقهم إلخ.

أما بخصوص الأسباب المعنوية المعززة لتقوقع العرب على أطراف مدينة الأحواز في الهامش، فتقف على رأسها ممانعة التعليم باللغة الأم: إن أكبر تجل حضاري للتمييز الممارس في المدينة الفارسية ضد الأحوازيين فهي منعهم من التعليم بلغتهم لغة الأم[11]. إن هذه السياسة التي يسوق تماما نعتها بالسياسة العنصرية تجعل النظام التعليمي الذي هو صفة التمدين والمدينة نظاما غريبا عن الأحوازي، يثبت له غرابة المدينة عنه، ويعمل على تضعيف انتماءه لها، لأنها خالية الصلة بلغته، أي بكل ما يظهر له في لغته من آثار مادية ومعنوية.

ويردف النظام المدني الفارسي منع التعليم باللغة العربية يردفه بتزويد كتب المدارس، والطلاب العرب، بمادة تاريخية يحكي لهم فيها عن أمجاد وأبطال لا يعرفها الأحوازيين، ولا يهشون لها، ولا تعنيهم بشيء: لأنها ببساطة بعيدة عن واقعهم المعيش وما اعتادوا عليه توارثا جيلا بعد جيل. فلا الشعر الفارسي يروي العادات العربية ولا طبائعم: لا نجد على طول شاهنامه فردوسي أي تنويه بالكرم، ولا تمجيدا به، وهو خصلة من خصال العرب وعاداتهم يفخرون بها وإنْ أفضت إلى الفقر والمسغبة وبلي الثيات إلخ. كما لا نجد في المواد التاريخية أي ذكر للمحمرة وأمرائها، ولا للحويزة وساداتها، ممن سمعنا عن أجدادنا وجداتنا حكاياهم وسطوتهم، بل إننا لا نجد اسم الحويزة أصلا، وهي بهويزة وفق روايتهم التاريخ، ولا المحمرة وهي خرمشهر عندهم.

أسماء لا شك اصطنعوها لنكران التاريخ العربي في المنطقة هذه، واسناد نسب العرب إلى جهات مشوهة خوزية تارة، وتأويل العروبة على أساس الجوار مع العرب تارة أخرى، ضمن تأويلات كاسدة لا قيمة لها، تزيد من حدة ابتعاد العرب وخروجهم من هذه المدينة الظالم أهلها، إلى عالمهم المسالم، العالم العربي، عالم الهامش على أطراف الأحواز، الهوامش العربية التي تَهُبُّ فيها أرواح عربية تُنْعش الروح وإنْ في غياهب انعدام تام للخدمات وهيمنة للحرمان: هوامش كأنها صُنعت للروح لا للأبدان مترعة بالانتماء العربي كلما استشعر بضيق من مدينة الفرس وتمييزهم.

أجل إن الأحوازي يواجه معنويا حالة من الطرد والنبذ في المدينة الفارسية، بسلطاتها ونهب ثرواتها، فإذا أراد الدخول إلى عالم المدينة هذه فأول ما يجد نفسه مضطرا له هو اتقان اللغة الفارسية، ليس اتقانها على سبيل استخدامها وفهمها فسحب، بل اتقان اللهجة الدارجة فيها، لأن التساهل في اللهجة سيعني، بالدرجة الأولى، الاستخفاف بمرتكبها من قبل المستوطنين، وعدم الاكتراث لمعاملته في الجهاز البيروغراطي، ونعته بالـ«عربه» للدلالة على وضعه المنحط، وتجنب البنات الفارسيات من إقامة العلاقة معه في الجامعات، ورميه بشتى صنوف الطرد والإخفاف والإزدراء؛ هذه المرة لا على يد نظام حكومي أو جهاز مادي قابل للرصد والتبيان، بل من قبل ثقافة ناعمة خفية تسري مسرى الروح في المجتمع قنواتها هي المستوطنين.

فهنا يكون كل مستوطن بمثابة جهاز رقابة على آحاد العرب المتواجدين في المدينة، فإذا ظهر، شعوريا أو لا شعوريا، من عربي أدنى ما به تتمظهر عروبته عمل، على الفور، الجهاز الرقابي هذا، وراح بأساليب مختلفة ينزل العقاب ضدا على هذه الفلتة العروبية: سواء عبر الازدراء، أو النبذ، أو السخرية، أو الوشاية عند موظف سام إلخ. ولأن الجهاز الرقابي هذا هو من صنف الظواهر المعنوية الخفية، التي لا تجسد مادي لها، فهي تنزل منزلة الأمور العادية اليومية، ولا يتفطن على كبير تأثيراتها المتشعبة، وأثرها بعيد الأمد.

ألا يحق لنا التساؤل عن المسؤل في كل ذلك التمييز الممنهج، ماديا ومعنويا، والدمار الناتج عنه؟ أليس للمستوطن: المحافظ، ورئيس البلدية، ورئيس شركة النفط، ورئيس شركة قصب السكر، ورئيس الجهاز القضائي، ورئيس السجن العام، ورئيس الاستخبارات، ورئيس الجامعة والباحثين المدونين للمشاريع، ورئيس النظام التعليمي، والإعلامي، والمؤرخ والمواطن/الفارسي/المثل الأعلى وإلخ.. أليس له مسؤلية بيروغراطية وقانونية وشرعية وأخلاقية في كل ذلك؟ وهو المشرع والمدون والمنفذ والسلطان والخصم والحكم؟                 

 

زيادة التعداد السكاني

ولاستفحال ظاهرة الأطراف والسكنى في هامش المدن في الأحواز أسباب أخرى، لها وزنها، يأتي على رأسها زيادة العدد السكاني الأحوازي على وجه الخصوص. وتظهر المشاهدات اليومية، بين الكثير من الأسر العربية الأحوازية، فضلا عن توكيد الاحصائيات الإيرانية، بأن العقد الثامن والتاسع من القرن العشرين شهد نموا سكانيا كبيرا، فبينما كان التعداد السكاني الإيراني عند ثورة العام 1979 قرابة 30 مليون نسمة، فإن هذا العدد أصبح في العقد الثامن والتاسع قرابة 60 مليون نسمة، حتى بلغ عند العام الماضي ما يفوق 80 مليون نسمة[12]. وإذا كان العدد السكاني الإيراني شهد تباطؤا بين الفرس، فإن الأسر الأحوازية، في مختلف أنحاء الأحواز، ظلت تجري في خط تصاعدي من التكاثر، حتى أفادت بحوث الباحث كميل ألبوشوكة بأن العدد السكاني الأحوازي يبلغ قرابة ثماني ونصف المليون نسمة.

وترجح الاحصائيات الإيرانية بلوغ عدد سكان الأحواز العاصمة مليوني نسمة، من دون أخذها بالحساب العدد السكاني الخاص بالأطراف التي هي ثقل العاصمة، والمد العروبي لها. ومهما يكن من احصائيات النظام الإيراني فإن المسالم عليه هو عد الأحواز العاصمة المنطقة الأكثر كثافة سكانية بين مختلف المناطق الأحوازية؛ يتوزع الثقل السكاني فيها بين العديد من الأحياء في العاصمة، بالإضافة إلى الأطراف التي تشهد أكثرية عربية ساحقة، أو يمكن القول مطلقة. فالمشاهد على الحزام الذي يحوط بالجهات الأربع للعاصمة هو تطويقها بحزام من القرى والأرياف والحاشية العربية التي اعتادت الحياة في هذه المناطق منذ أحقاب وقرون.

وإذا أخذنا زيادة العدد السكاني العربي باطراد بالحساب، عرفنا حينها أن هذا النمو السكاني يثير عدة قضايا: أولها هو الغلاء المعيشي، وثانيها هو البطالة، وثالثها هو الشيخوخة الفارسية. فبينما يشكل الغلاء المعيشي المطرد الذي تشهده العاصمة  تحديا على إمكانيات العربي الأحوازي المثقل بالتمييز البيروغراطي، والمبعد عن خيرات الدولة وثرواتها، فإنه يحتم عليه الابتعاد عن الحياة المدينة الباذخة حسب نظرته، ويجعله يؤثر الحياة الهامشية سبيلا للهروب من الغلاء ذلك. على أن الحياة في الهامش هي، في واقع حالها، أرخص تكاليف من حياة المركز، وتكون المنازل أقل سعرا منها، بالإضافة إلى رخص أسعار استئجار البيوت، البيوت التي عادة ما تكون صغيرة ذات تصميم بدائي، وظاهر مهمش. إن هذا الغلاء الذي يعاني منه النظام الإيراني، الظاهر على شكل تضخم منفلت، يجد انعكاسه الآكد بين الفقراء والمعدمين سكنة الهوامش والأطراف ممن لا يتمتع على مصدر رزق قار.

ومن أجل ذلك بالتحديد شهد هامش مدينة الأحواز في السنوات الأخيرة هامشا مضاعفا، يعاني من تدهور في شتى المرافق العامة للحياة أعتى من معاناة الهامش الأول إذا صح القول: فبينما كانت الملاشية، على سبيل المثال، تعد من أكبر الأحياء التي نمت على حزام الأحواز، تفرع في السنوات الأخيرة عن الملاشية هامشا آخرا هو حي السادات الذي يشهد حالة من الفقر المدقع وانعدام شبه تام للخدمات، أبسطها التبليط وتخطيط للصرف الصحي، وتوفر الغاز المنزلي، والمياه الصالحة للشرب، والكهرباء إلخ ناهيك عن المراكز الصحية والمؤسسات التعليمية؛ مما خلق مأساة بأتم معنى الكلمة، تظهر على معاناة الأطفال للحصول على مدراس ثم الوصول لها، وعدم المقدرة في الذهاب للمشافي لفقدان المال اللازم لذلك إلخ.

ثم من البدهي جدا أن يكون اختيار الهامش للسكن نتيجة للبطالة وفقدان مصدر رزق قار، لأن الأحوازيين السكانين في الأطراف هم من بقايا جيل الثمانيني والتسعيني الذي تخلف عن الدراسة لأسباب كثيرة، فأصبح غير متعلم، في نظام سياسي لا يتيح مجال للمتعلمين الأحوازيين، فما بالك بغير المتعلمين منهم، جعلهم لا يجدون مصدر للرزق إلا طرق شاذة، في حالات نادرة، نشير لها في القسم التالي(الآتي إثر هذه الدراسة). إن البطالة لا تنعكس على هروب الفرد الأحوازي للسكن في الهوامش فحسب، بل إنها تجعله مصابا في جميع مستويات حياته: فهو من جهة يعاني من سوء تغذيه، مثلما يعاني من صحة متدهورة أو معدومة، وسط شبه أمية محدقة، منقطع تماما عن العالم، بانقطاع الثروات الأحوازية الواقعة تحت قدميه المحروم عنها.

وإذا كان لزيادة العدد السكاني تبعات كارثية على الفرد الأحوازي في العاصمة، فإن ذلك انعكس بشكل مغاير على الفارسي المستوطن، إذ أن غلبة الطابع الحداثي على حياة الفارسي المستوطن في الأحواز جعلته يميل إلى تقليل عدد الإنجاب، وتفضيل الجانب الفرداني، عبر تخصيص العوائد لملذات الفرد، بدل الجانب الجماعي، الظاهر على مقاسمة العائد على أفراد أسرة يكونها المرء؛ وهذا ما جعل العدد السكاني الفارسي يعاني، في السنوات الأخيرة، من الشيخوخة[13]، ومن أجل ذلك أصبح الوضع الأحوازي بحاجة إلى مزيد من العمالة لتسيير الحياة اليومية من تجميع نفايات، وبناء بيوت ومصانع، وتنظيف شوارع، وغيرها من الأعمال الخاصة بالمشاغل الدنيا، ولأن الفارسي المستوطن في الأحواز هو صاحب الدولة، فلا مجال لنشاطه في هذه الأعمال، ما أتاح فرصة العثور عليها للأحوازي الذي يعاني من البطالة، ومن أجل ذلك أصبحت هذه المشاغل حكرا للأحوازيين دون غيرهم من المستوطنين؛ وقل ما تجد فارسيا يعمل في تجميع النفايات أو نظافة الشوارع إلخ.

على أن هذه الشيخوخة الفارسية قد تأتي بنتايج إيجابية في المستقبل القريب، لأن الشيوخة الفارسية هي العكس تماما في الأطراف وحاشية الأحواز إذ أن التكوين الأسري العربي فيها يشهد معدل إنجاب يبلغ 4 أطفال لكل زوج، بينما النسبة تلك 1 لكل زوج فارسي، و2 لكل زوج عربي يقطن الأحياء المركزية في الأحواز العاصمة[14]. وهنا تكمن نقطة خطيرة لا بد من العناية بها من أن الأسر العربية الأحوازية نحت منحى الفرس المستوطنين في مدينة الأحواز، وأصحبت تميل نحو تقليل الأطفال، لضغوطات يقف على رأسها الغلاء المعيشي وانعدام الأمل بالمستقبل.

 

الحرب الإيرانية ضد العراق

للحرب الإيرانية ضد العراق تبعات متشعبة على الأحواز ومختلف البنى والظواهر فيها، لم يفرد المختص الأحوازي بعد مؤلفات أو دراسات بحثية لسبر غورها وتحديدها وبيان مآلاتها. ومهما يكن من حقيقة إهمال هذا الجانب المهم، فإن ما يبدو تأثيرا صدر من الحرب ذاك غير ملتبس هو هذا التأثير على نزوح عدد كبير من النازحين من الحرب إلى مدن وقرى أخرى، هي إلى مدينة الأحواز العاصمة أقرب. ولأن الحرب كانت قد اشتعلت في الخفاجية وماجاورها وعبادان وما قرب منها، فإن الأحوازيين في هذه المدن لم يجدوا بديلا عن النزوح نحو مدينة الأحواز العاصمة التي كانت بعيدة عن الحرب تقريبا.

على أن هذه الجموع النازحة، وهم في تلك الحقبة، كانوا مزارعين أو رعاة مواشي أو صيادين إلخ، من المهن المعيشية القديمة، نزحوا بكليتهم، أي أنهم أتوا الأحواز نازحين بقبائلهم وعشائرهم ونمط حياتهم القديم ومنظوماتهم القيمية، فقطنوا على شكل جماعي وفي قرب بعض، في مخيمات بناها النظام الإيراني لإيوائهم. (على أن هناك عدد غير يسير من الأحوازيين قد نزحوا جراء الحرب إلى مناطق إيرانية فارسية، لا نخصص القول الوجيز عنهم هنا، وهم بحاجة إلى دراسة لحالها).

ومن هنا، من هذا النزوح الجماعي القبلي العصائبي، انشطرت حياة الأحوازيين النازحين هؤلاء، وباتوا يعايشون حالة من الإنشطار بين نمط قديم من الحياة، باتت مقوماته منعدمة ماديا: من زراعة وصيد واحتماء قبلي أمني يظهر بالمعاركات القبلية، وبين نمط جديد باتت مقوماته الحديثة تلح عليهم: من ضرورة سلوك عمل اقتصادي حديث، والشعور بالاستقلال عن القبيلة والروح الجماعية فيها بالوقت ذاته من الاعتزاز بها إلخ.

على أن هذه المخيمات المخصصة للنازحين هي الأخرى كانت مخيمات عربية بأسرها، واقعة على أطراف الأحواز، التي كانت مدينة صغيرة وقتها. ولأن النظام لم يجد حلا لهذه المخيمات التي رفض معظم أهلها العودة إلى مناطق سكناهم، فقد جعل مدينة الأحواز أكبر نطاقا، وباتت هذه المخيمات التي تحولت إلى أحياء اليوم، هي ضمن المدينة. ولكن بالرغم من ذلك ظلت هذه الأحياء تعاني، إلى فترات قريبة، من انعدام الخدمات العامة، فضلا عن انعدام الأمن، تسجل بين كل فترة معاركات على النمط القديم يذهب ضحيتها عشرات القتلى والجرحى واليتامى.

ولهذه الظاهرة المنشطرة تبعات جسيمة، إذ تروى تلك الفترة ارتباك الحياة العامة بين جموع النازحين، كما ظهر عبر التذبذب بين الحالة القديمة بالحياة، والحالة الجديدة المستحدثة، وهي حالة يسميها العالم الاجتماعي فريد ريغز المجتمعات المتشرذمة، التي لا هي إلى الحداثة انتمت ولا في القديم تبقت. ارتباك تجسد في عدة ظواهر مناقضة: استفحال القبيلة مقابل ضعفها، انعدام الأمن إلى جانب توفره ذاتيا، انعدام الاقتصاد إلى جانب تعاظمه من بيع المخدرات مثلا، انتشار النزوعات القومية في الحرب مقابل ذوبان بعض العرب في الفارسية سواء من الهجرة إلى باقي المناطق الإيرانية أو الاحتكاك بالمستوطنين إلخ.

 

دمار المعاش بدمار البيئة

 ولعل هذا العامل هو من العوامل التي تحول، بفعل تسارع وتيرة التدمير البيئي وتسليط الضوء الإعلامي، إلى حديث الساعة، وباتت تبعاته ظاهرة للعيان في الأحواز برمتها، وليس على مدينة الأحواز العاصمة حصرا. على أن تبعات ذلك على العاصمة تظهر عبر كثرة الهجرة إليها، بعد تدمير البيئة المفضي إلى تدمير النحل المعيشية المستمرة باستمرار سلامة الطبيعة والبيئة.

فكما رأينا في مختلف التقارير التي صدرت عن معهد الحوار، فقد تجسد تدمير البيئة أول مرة على شكل تدمير النحل المعيشية من زراعة وصيد وتربية مواشي؛ وإذا أخذنا بعين الاعتبار العدد السكاني المهول للمشتغلين بهذه النحل، البالغ عددهم وفق معلومات معهد الحوار مليوني نسمة على طول الأحواز، فإن تبعات ذلك العدد من العاطلين عن العمل لا ينحصر في زيادة الحواشي فحسب بل لها تبعات حضارية متشعبة كبيرة.

ومن هذه التبعات الارتماء على الأطراف واستفحال المنظومات القديمة إثر غياب المنظومات الحديثة البديلة أو تخلفها عن احتواء الفرد والجماعة، نعني بهما استفحال الدين والقبيلة؛ وتمأسس الفقر واستفحاله؛ وزيادة الإجرام؛ وارتباك التعليم أو انعدامه؛ وتعاطي المخدرات وبيعها؛ وانعدام الأمن بصورتيه المادية والمعنوية؛ وتوالد المجتمع النووي؛ وزيادة الأمراض وارتباك الصحة؛ وانعدام الخدمات المدنية وغياب الدولة بأجهزتها؛ وانعدام المرافق العامة. وكل تلك التبعات هي موضوع الجزء الثاني من هذه الدراسة.

الاستنتاج

لقد تبين في هذه الدراسة، وهي متكونة من جزأين هذا الأول منها وسيأتي التالي بعده مباشرة، أن الأساس الذي يجب وضع السؤال عن أسباب زيادة الحواشي في أطراف مدينة الأحواز عليه، هو تلك العقلية الفارسية التي ادعت إمضاء الحداثة، فعمدت إلى بناء المدن، فتصدت في ذلك لكل ما هو غير فارسي، فخرجت بمدينة مفروضة من فوق غير نابعة عن أهل المناطق التي فيها خططت المدن، ليصبح عمرانا إيديولوجيا فجا، ووسيلة للذوبان، أو تنفيذ عملية طرد ممنهجة لمن لا يستحيل في عملية الذوبان تلك.

وبعد الإشارة إلى هذا الأساس العقلاني لتخطيط المدن، بينت مختلف الأسباب الكبيرة التي ساعدت في زيادة الأطراف وأعددتها في: سياسة توسيع المدن والتحديث؛ وسياسة التمييز الممنهج،  وزيادة العدد السكاني، والحرب الإيرانية ضدا على العراق، والإبادة البيئية.

وها أنا ذا أنتوي في الدراسة المقبلة التي ستكون، إن أنسأ الله في العمر، تكملة لهذه، تعديد التبعات الناجمة عن زيادة الحواشي والعشوائيات على حزام الأحواز العاصمة.

 

 

سعاد عبدالرزاق

 

 

 

المصادر

[1] . الدكتور عماد المزرعاوي، فراسوي يك نام، ذاك الصوب، الديرة، بهلوي ورضاشاه كبير، مجلة النوابت، العدد الثاني، الأحواز العاصمة مايو أبريل 2019.

[2] . الدكتور محمد توكلي طرقي، تجدد بومي وبازانديشي تاريخ، نشر برديس دانش، تهران1397.

[3] .الدكتور رضا ضياء إبراهيمي، بيدايش ناسيوناليسم إيراني: نزاد وسياست بي جاسازي، ترجمة حسن أفشار، نشر مركز، تهران1398.

[4]. الدكتور عماد المزرعاوي، خشونت نظم شهري: كارنامه انضباط أحواز مدرن، مجلة النوابت، العدد الرابع، الأحواز العاصمة شباط فبراير2021.

[5] . Phillips Louise and Jorgensen Marianne, Discourse Analysis as Theory and Method, Sage publ 2002.

[6] . وصحيح أن هذه العملية جرت في النظام التعليمي والإعلام والرواية عن التاريخ إلخ لكنها عملية كانت حاضنتها المدينة، ولأن زاوية البحث هنا هي المدينة فيكون التركيز عليها كأنها هي معقد الأمر. وتلك نقطة منهجية مبررة على أية حال.

[7] . راجع في ذلك مؤلفات المؤرخ الفارسي هما كاتوزيان، خاصة: اقتصاد سياسي إيران.

[8] . في ظل التعتيم الممارس من النظام الإيراني على جميع الاحصائيات الخاصة بعرب الأحواز، وعددهم وأحوالهم وبيئتهم وأمراضهم إلخ، سلك بعض النشاطين والمثقفين العرب مسلك البحث الذاتي، فتحصلوا، بجهود جبارة، على معلومات موثوقة وعلمية تختص بالقضايا الأحوازية نظير العدد السكاني (وهو عمل جبار قام به الأستاذ كميل ألبوشوكة ونشره ضمن كتاب قيم) وعدد الأمراض الناتجة عن الإبادة البيئة في الأحواز (الدكتور مهدي سواري) وعدد الموظفين العرب في الجهاز البيروغراطي الإيراني إلخ.

[9] . وهنا يجب أن أعبر عن تسامحي باستخدام «الأحياء الفارسية» في الأحواز العاصمة؛ وذلك أني سمعت من بعض المطلعين الأحوازيين المعنين بالتركيب الديموغرافي لأحياء مدينة الأحواز، سمعت منهم يقولون: «لا توجد لدينا أحياء فارسية، فليس في مدينة الأحواز حي به أكثرية فارسية تتفوق على العرب؛ وإذا تبدت هذه الأحياء للناظر لها والداخل عليها أن فيها أكثرية فارسية، نتيجة حديث الناس في الأماكن العامة بالفارسية، وتقارب لباسهم الفارسي الهندام، ما يجعلهم كأنهم فرس، أجل إذا تبدت الأحياء تلك كذلك في بادي الرأي، فمرده إلى تجنب العرب القاطنين فيها عن إظهار عروبتهم، وإصرارهم على التشبة بالفرس»؛ ربما للأسباب التي قلتها صدر الدراسة من خشيتهم الطرد والنبذ والازدراء. تلك نقطة تستحق التأمل.. وتلك نقطة تستحق الحَزَن.

[10] . راجع في ذلك سلسلة تقارير يضطلع بها معهد الحوار توثق مختلف الجرايم التي ارتكبت بحق البيئة الأحوازية وما تتعرض له الأحواز من إبادة بيئية.

[11] . التعليم بغير اللغة الأم في الأحواز وأبرز التبعات التعليمية والهووية والاجتماعية، معهد الحوار للأبحاث والدراسات.

[12] . بررسي مسايل نوظهور جمعيتي ايران، مجموعه مقالات سياستي، دانشكاه تهران 1394.

[13] . مجيد كوششي، دلالت هاي سياستي مسايل كنوني و بيش روي سالخوردكي جمعيت، المصدر السابق.

[14] . هذه احصائيات تحصلت عليها من أحد الموظفين في إدارة النفوس في الأحواز ولا سبيل لدي إلى توثيقها.



error: Content is protected !!