تعد ظاهرة الانتحار من الظواهر المعقدة التي تفاقمت في العصر الحديث؛ فبتعداد طرق الانتحار تعددت الأسباب والعوامل التي تخلق البيئة الحاثة لهذا الفعل، إذ إن هذه ظاهرة تحولت إلى سمة من سمات الحياة الحديثة حتى شغلت الكثير من العلوم الحديثة سيما علم الاجتماع بوصفه الحقل الذي تنعكس فيه الأزمات الإنسانية بعمق لا مثيل له.
ففي علم الاجتماع يتلاقي الشأن الفردي مع الشأن المجتمعي، ويكون الباحث الاجتماعي هو صاحب «الخيال العلمی الاجتماعي» حسب عبارة سي رايت ميلز الذي يمتزج المستويات الفردية بالاجتماعية ويخرج بتبيين موضوعي تلقي أضواء كاشفة على ظاهرة أو ظواهر ما كنت جلية قبل ذلك النشاط الاجتماعي العالم.
وهذه دراسة يتم فيها السعي لإثارة موضوع مؤرق في المجتمع الأحوازي يتعلق بتفاقم ظاهرة الانتحار فيه بصورة متنامية لا مثيل لها من قبل لما فيها من تزايد يومًا بعد يوم. وستستند الدراسة هذه في تحليل ظاهرة الانتحار على آراء عالم الاجتماع الشهير إميل دوركهايم وما ورد منها في كتابه «الانتحار» الذي يعد المصدر الأساس لدراسة هذه الظاهرة، بالإضافة إلى مصادر أخرى تصب في شرح آراءه بوضوح أكبر.على أن حركة البحث هنا ستزاوج بين تناول مختلف أنواع الانتحار، سواء عبر السم أو الغرق إلخ، وبين الأسباب الحاثة على القيام بالانتحار، سواء لأجل البطالة أو عدم تسديد الرواتب إلخ، بناء على المعطيات المأخذوة من المجتمع الأحوازي في السنوات الاخيرة.
ما مفهوم الانتحار
قد يبدو مفهوم الانتحار، للوهلة الأولى، واضحًا للجميع، إذ «يتداول الناس كثیرا في أحاديثهم كلمة الانتحار، حتى ليمکن الظن بأن معناها معروف من الجميع، وأن تعريفها لا طائل منه. غير أن كلمات اللغة المستعملة، مثلها مثل المفاهيم التي تعبر عنها، غالباً ما يشوبها الغموض في الواقع»[1]. وهذا الغموض يكتنف، بصورة عامة، توظيف فعل الانتحار في الأحواز بصورة فضفاضة؛ حتى يمكن بسهولة رصده في الحديث اليومي للناس.
ولكن على العكس من ذلك يرى إميل دوركايم أنه لا بد « من أن تكون مهمتنا الأولى هي تحديد نسق الحوادث التي ننوي دراستها تحت عنوان الانتحارات(…) فيما إذا كان بين مختلف ضروب الميتات ما يملك منها خواص مشتركة، موضوعية بما يكفي، كي يتمكن أي مراقب من أن يسلّم بها بحسن نية، خاصة بما يكفي، كي لا نجدها في ميتات أخرى، ولكنها في الوقت ذاته، قريبة بما يكفي من تلك التي ندرجها، بوجه عام، تحت اسم الانتحار، لكي نتمكن من الاحتفاظ بهذا التعبير دون أن نغلو في استعماله»[2].
وبعد ذلك يعمد دوركهايم لعمل الانتحار فیشرحه فيقول: «ليس هناك انتحار واحد، وإنما هناك انتحارات. ما من شك بأن الانتحار هو، على الدوام، فعل يقوم به إنسان يفضل الموت على الحياة»[3]. وهذه القناعة القاضية بتفضيل الموت على الحياة، هي السبب الأساس للإقدام على فعل الانتحار بكل أساليبه ووسائله. «فلنقل إذن بأن هناك انتحاراً في الواقع حينما تكون الضحية، في اللحظة التي تقدم فيها على الفعل الذي يضع نهاية لحياتها، متيقنة كل اليقين من النتيجة التي ينبغي أن تترتب على فعلها بنحو طبيعي»[4]. وبذلك يحدد إميل دوركايم فعل الانتحار لإبعاد الخلط بينه وبين أفعال أخرى قد تودي بحياة الشخص: وهو تلك الحالة التي يقدم فيها الشخص على وضع حد لحياته، بأساليب مختلفة، يتقين منها أنها كفيلة بإنها الحياة، بشكل تام.
ثم يستمر، بعد ذلك، في تحديد مستويات أفعال الانتحار، والأفعال القريبة منه، نشرحها في الفقرة الآتية.
الانتحارات الجنينية
ولكن إذا كان الانتحار يعني قناعة يرافقها فعل يفضيان إلى الموت المطلوب، فإن دوركايم يرى الانتحار على درجات، لذلك يدعو لإزالة بعض التعريفات القريبة منه فيقول: «سيكون لديكم واقعة جديدة لم تعد انتحاراً، بل ما هو قريب من الانتحار، مادامت الفروق بينهما فروقاً في الدرجة»[5]. يشير دوركايم بذلك إلى حالات قريبة للانتحار يقصد بها مثلا «إنساناً يخاطر بنفسه عن وعي في سبيل الآخرين دون أن يكون على يقين بأنه سيموت في النهاية، حيث لا يعد عمله انتحاراً، من دون شك، وحتى لو لقي حتفه؛ ومثله الشخص المتهور الذي يلعب لعبة التصميم على الموت ساعياً كل السعي إلى تجنبه؛ أو الشخص الخامل الذي بسبب إهماله وعدم اكتراثه بأي شيء يهمل العناية بصحته ويعرضها للخطر. ومع ذلك فإن هذه الطرائق المختلفة للسلوك لا تتميز جذرياً عن الانتحار بمعناه المحدد. فهي تصدر عن عقليات متماثلة ما دامت تقود هي أيضاً إلى مجازفات مميتة، ليست مجهولة من قبل الفاعل، كما أن الأفق المنظور لهذه المجازفات لا يمنعه من الإقدام عليها. والأمر مختلف كليا حينما تكون احتمالات الموت أقل. فليس من دون مبرر القول بسهولة أيضاً عن العالم الذي ينهك جسمه في السهر بأنه ينتحر. وهكذا فإن جميع هذه الحوادث تشكل أنواعاً من الانتحارات الجنينية»[6].
وتشرح لنا القائمة الطويلة التي يقدمها عالم الاجتماع الشهير تشرح السلوك الذي يعرض حياة الإنسان للخطر المحدق، دون أن تسمى انتحارا بين الناس، لكنه يرى أن هذا السلوك هو الآخر يعد انتحار، يطلق عليه اسم الانتحار الجنيني، إذ يرى هو في التهور والتفريط بالصحة أو القيام بأعمال خطرة نوع من سلوك الانتحار.
وهذا الأمر غائب عن وعي المجتمعات، إذ جل الناس لا تعترف بفعل إلا إذا كان انتحارا كاملا وصريحا يختم حياة الفاعل في اللحظة. يقول «وإذا كان خلطها مع الانتحار الكامل والصريح ليس منهجاً صائباً فينبغي أن لا يغيب عن البال لحظة، صلات القرابة التي تربطها بهذا الأخير. لأنه يتخذ مظهراً آخر مختلفاً حينما نسلِّم بأنه يرتبط ارتباطاً لا ينفصم بأفعال الشجاعة والتفاني، من جهة، وبأفعال التهور واللامبالاة من جهة أخرى، وسنرى فيما يلي بوضوح أكبر ما تكشفه لنا هذه المقارنة»[7]. وهكذا يوسع نطاق أفعال الانتحار ويمهد للباحث في هذا الشأن أن يدرس السلوك الذي يفضي إلى الانتحار الكامل.
وإذا ما أردنا نحن هنا الإشارة إلى الانتحار الجنيني، وفق آراء دوركهايم، وجدناه بكثرة في مجتمعنا الأحوازي: المجتمع القائم على قيم جماعية تقدم الإيثار لدرجة نكران الذات ونسيانها، في سبيل الآخرين. ولعل الأم الأحوازية هي أبرز مثال لذلك بما تضحيه في سبيل الأسرة، يصل حدود التضحية بالصحة والحياة. وقد جعل تكرار التضحيات هذه الأمر بدهيا تُقدم عليه كل فتاة أحوازية أنجبت. بينما هو حالة من حالات الانتحار، يجهلها أغلب أفراد المجتمع.
هل للعرق تأثير في معدل الانتحارات؟
قد يتبادر إلى الأذهان بأن ظاهرة الانتحار تتأثر بنوع العرق، حيث يمكن تتبعها من خلال الفروقات العرقية. ولكن هذا التفسير البيولوجي من جهة، والعرقي من جهة أخرى، يتعارض مع الإحصائيات الموجودة، تعارضه لعلم الاجتماع. فدوركهايم يصرح بأن هذه «الفرضية معقولة إذا كان لدى كل مجموعة من الشعوب المجموعة على هذا النحو تحت اسم واحد، ميل إلى الانتحار تكون حدته متساوية تقريبًا؛ غير أن هناك بين الأمم المنتمية إلى نفس العرق أعظم التفاوتات»[8]، حتى لنجد الاختلاف الشاسع في عدد الانتحارات بين الشعوب التي تنحدر من عرق مشترك، كما قد تقترب أعداد الانتحارات بين شعب وشعب آخر لا ينحدرا من عرق واحد.
وبدلا من ذلك يجنح دوركهايم إلى اللفت إلى متغير آخر له التأثير على أعداد الانتحارات ومستوياتها، هو مغير التمدين والمستوى التنموي الحضاري، حتى جعل الأمر هذا الشعوب تفترق عمن يشاكلها من الشعوب الأخرى الأكثر تمدنًا منها على وجه الخصوص: «يحق لنا أن نتساءل عما إذا لم يكن الذي يميز المجتمعات، والجماعات الإثنية، هو بالأحرى التطور المتفاوت في مدنيتها»[9].
وهكذا يبدو جليا من آراء دوركهايم أن البحث في العرق وتأثيره على الانتحار لا يكتسب من الموضوعية بقدر اكتساب المدنية الموضوعية والتأثير على الحالة هذه، حتى باتت هي المائز بين الاختلاف في عدد الانتحارات. إن الانتحار بناء على ذلك يرتبط بالمستوى المديني للشعوب «وسنرى أيضًا بأن العرق ليس له، في الواقع، أي تأثير في ظاهرة الانتحار»[10].
الدوافع الاجتماعية للانتحار
وهكذا بعد نفي دوركهايم للعرق في تنامي الانتحار، يتجه العالم الاجتماعي الشهير إلى ما بنته الأمم في المجتمع، ويعزو الظاهرة هذه إلى مأتيات البشر والإفرازات المجتمعية. إن جميع الأفعال مدفوعة بدوافع، ولو كانت دوافع عبثية أو غير مهمة، دوافع تؤدي كلها دورها في الحث على الفعل وتحولها إلى الدافع.
وبما أن الانتحار هو فعل من الأفعال، فعل ينهي حياة الشخص، فلا شك بأنه ينبثق عن دافع أو دوافع تضعها الظروف أمام الفاعل (المنتحر) لذلك «فإن الظروف التي تُعتبر دوافع للانتحار، لكونها ترافقه غالبا جدا، لا يحصى عددها تقريبا. فواحد ينتحر وسط بحبوحة من العيش، وآخر ينتحر في غمرة الإملاق. وهذا تعيس مع أسرته، وذاك فسخ بالطلاق زواجه الذي جعله تعيساً. هنا جندي تخلص من حياته بعد أن عوقب على غلطة لم يرتكبها، وهناك مجرم قتل نفسه بسبب جريمته التي ظلت دون عقاب»[11]. ويمكن إعداد قائمة طويلة من الظروف التي تعد دوافع مؤثرة تدفع الإنسان نحو هذا الفعل.
وفي معرض سرده للإيقاضات الحاثة على الانتحار، والدوافع الباعثة عليه، يخرج دوركهايم بصورة إنسانية يسيرة ومعقدة، في الآن ذاته، فيكشف مدى هشاشة الإنسان وتأثره ببئيته فيقول «ليس ثمة خيبة أمل، مهما كانت زهيدة، يمكن القول مسبقاً بأنها لا تملك، في أي حال من الأحوال، أن تجعل الوجود عبئاً لا يطاق. وليس هناك خيبة أمل أكبر، يكون لها بالضرورة مثل هذه العاقبة. فنحن نرى أناساً يصمدون أمام كوارث رهيبة، في حين أن آخرين ينتحرون بعد تعرضهم لمتاعب يسيرة. وفضلا عن ذلك، فقد بيّنا أن الأشخاص الذين يلازمهم الغم، ليسوا هم الذين ينتحرون أكثر من غيرهم. ذلك أن المزيد من اليسر والرفاه هو بالأحرى الذي يسّلح الإنسان ضد ذاته»[12].
الانتحارات والحالات النفسية
ظاهرة المُحاكاة وتأثيرها في معدل الانتحار في الأحواز
على أن اهتمام دوركهايم بالجوانب الاجتماعية وما تتركه من تأثيرات على الفرد، لم يجعله يهمل الجوانب النفسية السيكولوجية التي تخلق مختلف التأثيرات عليه وعلى نفسيته. وإذا ما أردنا تعديد أكبر الدوافع والظروف التي تؤدي إلى القيام بفعل الانتحار، خاصة منها النفسية، أتينا حينها على ظاهرة له وزنها في هذا المجال، تندرج ضمن العوامل النفسية، نعني بها ظاهرة المحاكاة.
وتعني المحاكاة التماثُل والتقليد، حيث تفيد آراء دوركهايم عن هذه الظاهرة بأنها من جملة العوامل النفسية: يقول وبعد «البحث في الأسباب الاجتماعية للانتحار، ثمة عامل نفسي أخير، لابد لنا من أن نحدد أثره، بسبب الأهمية القصوى التي تعزى إليه في تكوين الحوادث الاجتماعية، بوجه عام، والانتحار بوجه خاص، ألا وهو المحاكاة»[13] التي تفضي إلى القيام بعمل الانتحار من خلال تقليد شخص آخر قام بالانتحار، بتأثير نفسي، ومحاكاة لما قام به شخص سبق.
وصحيح أن المحاكاة قد تبدو من الأمور التي تحدث في مجتمع معين، أو مجتمعات مترابطة، بيد أن تتبعها الحثيث، والغور فيها يثبت عكس ذلك تماما، ذلك أن « المحاكاة ظاهرة سيكولوجية صرفاً… هذا يظهر بوضوح من واقع أن من الممكن حدوثها بين الأفراد الذين لا تجمع بينهم أية رابطة اجتماعية»[14]، فهي لا تحدث بالضروة على يد أفراد ينتمون لبيئة وظروف مشابهة أو واحدة، وقد لا يربط بينهم رابط محدد؛ إذ «إن إنساناً، يمكن أن يقلده إنسان آخر دون أن يكونا متضامنين … أو من مجموعة بعينها… لا يملك سريان المحاكاة وحده القدرة على أن يجعلهما متضامنين»[15].
والواقع هو إن المحاكاة تتم بطريقة منفعلة خاطفة، تخلق بيئة محفزة لمثل هذا الفعل فـ «عطاساً، أو حركة رقص موقعّة، أو نزوة إجرامية يمكن أن تنقل من شخص إلى آخر، دون أن يكون بينهما أي شيء سوى تقارب عابر ومؤقت. وليس من الضروري أن يكون بينهما أي مشاركة ذهنية أو وجدانية، ولا تبادل للخدمات، أو حتى التحدث بلغة واحدة. ولا يغدوان أوثق ارتباطاً بعد انتقال عدوى المحاكاة مما كانا قبله»[16]. ويتبين جليا أن المحاكاة لا تتطلب صلة عميقة بين الـمُقَلِّد والـمُقَلَّد، أو أن يكونا من مجتمع لغوي واحد، فهي عملية امتثال فردي. «وفي المحصلة، فإن الطريقة التي نقلد بها نظراءنا هي أيضاً الطريقة التي نستخدمها في تقليد أصوات الطبيعة، وأشكال الأشياء، وحركات الكائنات. فما دام أنه ليس ثمة شيء اجتماعي في الحالة الثانية، فكذلك هو الأمر في الحالة الأولى. ويعود أصل ذلك إلى بعض خواص حياتنا التمثيلية، التي لا تنتج عن أي تأثير جمعي»[17].
فإذا أردنا تقريب هذا المعنى إلى الحالة الأحوازية، تسائلنا حينها ألا يمكن عد عمل يونس عساكرة محاكاة لما قام به التونسي محمد بوعزيزي؟
إن الإجابة عن ذلك تثير عدة ملاحظات لما بينهما من تشابه وصلات: أولا هي رابط اللغة؛ وثانيا هي رابط المعاناة؛ وثالثًا حالتهما الاجتماعية الطبقية، حيث كان كلاهما بائعا متجولا؛ ورابعًا هو ما تعرض له كلاهما من مهانة من جهات حكومية. وهذا كما يبدو هو من دفع يونس عساكرة إلى الانتحار حرقًا بالنار محاكاة لما قام به محمد بوعزيزي قبله.
ومهما يكن من أمر فإن الملاحظ بقوة اليوم هو تنامي ظاهرة الانتحار ضد المظالم في الأحواز طيلة السنوات الأخيرة. فهنا دافعه يكون تأخر راتب عمال لشهور متصلة، وهنا يكون السبب اعتراضا ضد الانفصال عن العمل، وهناك لبطالة طالت وأفقرت إلخ. إن القدر المتيقن في كل ذلك هو أن هذه الظاهرة لم تكن موجودة في السابق، بل جاء استفحالها نتيجة لحدوث انتحارات لأسباب متشابهة.
وفيما يلي من هذه الدراسة نقوم، بناء على ما تقدم، بعرض أساليب الانتحار في الأحواز من جهة، والأسباب والدوافع المؤدية إلى القيام بهذا العمل من جهة أخرى.
أساليب الانتحار المستخدمة في الأحــواز وأسبابها
عادة ما تتم عملية الانتحار عبر أساليب مختلفة، فبينما تكون بعض الأساليب مختصة بفئة اجتماعية معينة أو مجتمع معين، يكون البعض الآخر منها عاما بين جميع المجتمعات. وفي هذا الصدد يقول إميل دوركايم «لكل شعب من الشعوب نوع الميتة المفضلة لديه، ولا يتغير نظام أفضلياته إلا بصعوبة شديدة، فهو أكثر ثباتًا أيضًا من العدد الكلي للانتحارات»[18].
إن ثبات نظام الأفضليات خاضعا لامتلاك المجتمع، في الأعم الأغلب، رؤية جماعية قارة، ليست طارئة أو متغيرة بسرعة، إذ «الأحداث التي تعدل، أحيانًا، بنحو مؤقت لا تؤثر دومًا بنظام الأفضليات»[19]. كما أن الأحداث التي تجري بعض التغيرات، تبقى تغيرات مؤقته غير مستمرة أو دائمة، لأن النظام الاجتماعي وقيمه متجذرة في نمط حياة المجتمع ورؤيته تجاه الحياة والممات: «إن الأسباب الاجتماعية هي من التفوق والرجحان بحيث أن تأثير العوامل الكونية لا يبدو بأن له أهمية كبيرة. على هذا النحو، فإن الانتحارات بالغرق، خلافًا لكل التخمينات لا تتغير، من فصل إلى آخر تبعًا لقانون خاص»[20].
ثم إذا كانت الدوافع الحاثة على الانتحار كثيرة متنوعة، فإن طرائق الانتحار عادة ما تكون قليلة متشابهة لأن «الأسباب التي تدفع الإنسان إلى الانتحار ليست هي التي تدفعه إلى أن ينتحر بهذه الطريقة بدلاً من الطريقة الأخرى. فالدوافع التي تحدد اختياره هي من طبيعة أخرى مختلفة. في البداية فإن مجموع العادات والتوافقات من كل نوع هي التي تضع في متناوله هذه الوسيلة للموت بدلاً من وسيلة أخرى»[21].
وهكذا يتبين أن دوركايم يميز بين أسباب الانتحار وأساليب الانتحار، فهو يرى لكل منهما دوافع وطرائق مختلفة. فهو یقرر في شرح أساليب الانتحار لدى الجماعات والشعوب بأن «السبب الأكثر فعالية، ربما كان هو التكريم الخاص الذي يضفيه كل شعب من الشعوب، أو كل جماعة اجتماعية على مختلف الميتات، فمن المستبعد، في الواقع، أن تكون هذه الميتات على سوية واحدة من الشرف، فهناك منها ما يعتبر الأكثر نبالة، وأخرى تثير النفور بوصفها مبتذلة ومخزية. والطريقة التي يصنف بها الرأي العام هذه الأنواع تتغير مع تغير الجماعات»[22].
ویتبین جلیا أن الجماعات الاجتماعية والشعوب هي من تحدد نوع الميتة التي سيختارها من يُقدِم على فعل الانتحار، فالرأي العام لدى شعب من الشعوب يستحقر بعض الميتات بينما يفخر ببعض الميتات الأخرى، وبالحري يبدو أن منظومة القيم الثقافية في المجتمع هي من يحدد هذه الأفضليات في الموت. فعلى سبيل المثال ينفر الأحوازيين تاريخيا من «موت الوسادة» بينما يفخر بالموت وقوفا، وهذه تسمى قيمة اجتماعية وثقافية.
احتساء السم
ويعد أسلوب احتساء السم في الأحواز حديث حداثة ظاهرة الانتحار، حيث برز في بداية القرن الواحد والعشرين، وأغلب المنتحرين عبره من فئة الشباب من الجنسين، وإنْ كان التفوق بين البنات ظاهر.
على أن أسباب الانتحاربهذه الطريقة كانت تنبثق عن أسباب نفسية، مردها فشل في الحب، أو معارضة الأسرة لزواج بنتهم بمن تحب إلخ. وصحيح أن هذه الظاهرة هي مأساوية بكل توكيد، بيد أنها كانت بداية مرحلة صنعت فيها وعي بتردي مكانة المرأة الأحوازية ووضعها الاجتماعي، في مجتمع لم يكن يمتلك مؤسسات ثقافية أو اجتماعية تناقش أزماتها، وأسباب إقدامها على مثل هذه الأفعال.
وبتفاقم الأزمة هذه أخذ المجتمع والأفراد معا بتصحيح المسار الاجتماعي نحو مزيد من الانفتاح في معالجة قضايا المرأة وحقوقها من حرية اختيار الزوج وإكمال الدراسة، والمشاكة الاجتماعية إلخ.
ومن أبرزالعوامل المساعدة في تدارك مثل هذه الظاهرة هو ميلاد حركة نسوية أحوازية، قوامها البنات والنساء المتعلمات والمثقفات ممن أقدمن على صناعة موجة مجتمعية مدعومة بإعلام يسير جعل الأسرة الأبوية الأحوازية تدرك مغبات التشدد في الثقافة الأبوية، وما ينتج عن ذلك من تبعات قد يكون الانتحار من ضمنها أو في أولها. ولكن إلى جانب ذلك فلا بد من التنويه بدور النشطاء الثقافيين، إبان نشاط المؤسسات الثقافية، في تذويب هذه الظاهرة والوعي بها.
على أن ظاهرة انتحار البنات في الأحواز لم تكن ظاهرة تكتسي حزنا على الأسرة فحسب، بل إن الثقافة القبلية المتمذهبة الأبوية عادة ما كانت تنظر إلى المنتحرة بأنها موضع الاتهام والشك، وعادة ما كان يتم توجيه أصابع الاتهام لأسرة المنتحرة من أنها قد تكون قتلت ابنتها، على يد إخوتها أو أبيها أو أبناء عمها، نتيجة جريرة ارتكبتها استحقت قتلها، قاصدين بها الفاحشة والأمور الجنسية الخطيرة الشأن في الأحواز.
إطلاق النار
وهذا الأسلوب في الانتحار، يختص عادة ما بالرجال، وبالأخص الشباب الذين يؤدون العسكرية الإجبارية، حيث يتعرضون لضغوط نفسية جراء المعاملة العسكرية أو العقاب على أساس عنصري أو عدائي تجاه الجندي الأحوازي، وتوجد حالات انتحار كثيرة بسبب عدم حصول الجندي على رخصة لأجل عيد الفطر الذي يعد مناسبة لا يمكن تفويتها بالنسبة للإنسان الأحوازي. ويحصل أن يهاجم الجندي المسؤول المباشر عن وضعه ثم يبادر بالانتحار.
وإذا كانت ظاهرة الانتحار بالسم تعود إلى حالة نفسية، فإن الجلي عن ظاهرة الانتحار بأسلوب الطلاق النار هي اجتماعية بإمتياز، لها جوانب سياسية ظاهرة. فالعسكرية في الأحواز هي خدمة مفروضة من قبل نظام الاحتلال الإيراني، وهي عادة ما تفرض على الشبان البالغين من العمر ثماني عشرة، الخارجين توا من سن المراهقة. وقد كان هذا الفرض ثقيلا جدا على الشبان قبيل سنوات، نتيجة جلهم اللغة الفارسية، ونتيجة إبعادهم إلى ثكنات ومعسكرات خارج الأحواز، تجعل الشاب الأحوازي أمام حالة من الغربة اللغوية والاجتماعية، تفرض عليه ضغوط هائلة، تعززها أوامر الجيش والحرس القاسية والمهنية، كلها تفضي به إلى الانتحار. على أن الأمر في كل ذلك هو تعمد الضباط الفرس في التمادي بقسوة التعامل مع الشبان العرب المجندين، للعنصرية الفارسية، وجعلهم سخرية لباقي الجنود نتيجة جهلم اللغة الفارسية أو نطقهم كلماتها بأشكال تبعث على الضحك والتهكم.
القفز من مكان عال
وهذا الأسلوب على الرغم من ندرته في الأحواز، فهو يتطلب مبان شاهقة، على الرغم من غلبة البيوت التقليدية في المدن الأحوازية والأحياء العربية فيها خلافا للمستوطنات، على العكس من انعدام ثقافة الأبراج والمباني الشاهقة في المدن العربية التي سلمت من المد الاستيطاني. ولكن مع قلة محاولات الانتحار بهذا الأسلوب، فأغلب المنتحرين بهذا الأسلوب هم الشباب، وأغلب الأماكن خاصة في الأحواز العاصمة، هي الجسور. وهنا تقف الدوافع النفسية وراء مثل هذه العمليات بشكل كبير.
القفز أمام المركبات
وهذا الأسلوب موجود في الأحواز المدينة أكثر من باقي المدن. فسعة العاصمة وكثرة الشوارع الرئيسة فيها وازدحام السير جعلت هذا الأسلوب سهل التنفيذ، غير أنه بصورة عامة لا يشكل نسبة ملحوظة من محاولات الانتحار في الأحواز. وقد يكون سبب عدم توظيف هذا النوع من الانتحار يعود لأسباب أخلاقية وثقافية، لأن القفز أمام السيارة قد يؤدي بمشاكل أخرى للآخرين وكذلك يسبب خسائر للسائق ومن معه في السيارة. وهنا يظهر أمرا مفارقا على المنتحر إذ يتبين أنه مع إقدامه على الإضرار بنفسه عبر الانتحارتظل فيه من الأخلاق العالية التي تمنعه من الإقدام على الحاق الضرر بالآخرين بألقاء نفسه أمام مركباتهم
حرق النفس
وعلى الرغم من هول هذا الأسلوب وفضاعته إلا أنه كثير الاستخدام في الأحواز، شمل كلا الجنسين. وقد كانت نسبة النساء التي تنتحر بالحرق أكثر من الرجال، لكن الأعوام الأخيرة زادت من نسبة الرجال فيه. وأغلب الذين ينتحرون هم من فئة العمال.
ولعل أشهر من قام بحرق نفسه انتحارا، هو يونس عساكرة، بائع الخضروات الذي صادرت عناصر البلدية بسطته، ثم عومل من قبل البلدية الفارسية بعد أن ذهب إليها مطالبا بحقه بقسوة وازدراء؛ لتدفعه إلى الانتحار اعتراضا على ظلم الاحتلال، ومحاكاة منه لما قام به البوعزيز، وقد كان حينها الوطن العربي يمر بثوراته، فشعر يونس بأنه سيشعل ثورة غضبا إن أقدم على حرق نفسه، كما أشعلها البوعزيز في تونس.
ولم تختصر حالات الانتحار بدواقع اجتماعية سياسية على يونس عساكرة بل هنالك حالات انتحار مماثلة تحدث مرارا في الأحواز منها ما حدث في الملاشية إذ انتحر فيها عامل بسيط بعد فصله من عمله في شركة الصُلب (صنائع فولاذ).
إن الحالة المستديمة من الفقر في مختلف مدن الأحواز شمالا وجنوبا، جعلت الظروف النفسية للأفراد مثله مثل الظروف الأسرية المجتمعية من الاحتقان والاختناق ما حدت بالجميع إلى التفكير في الانتجار، وتضع أمامهم يوميا من الحوافز ما جعلت العمل هذا خيارا قريبا للخلاص من شدة الضغوط. وقد تزايدت الضغوط على الأحوازي المفقر أصلا في هذه الفترة التي يمر بها النظام الإيراني بعقوبات دولية كان وقعها على الأحوازي والمجتمع الأحوازي أكثر من باقي المناطق في إيران.
الشنق
هذا الأسلوب يسجل أعلى نِسب في محاولات الانتحار في الأحواز، ويشمل كلا الجنسين، وكل الفئات العمرية تقريبا، حتى شمل فئات المراهقين ومن هم دون عمر السابعة عشر. وقد شهدت الأحواز في تاريخ 30 ديسمبر 2016م حالة هزت الرأي العام فيها حين أقدم طفل في عمر 12 على الانتحار بشنق نفسه في قرية الخويس التابعة لمدينة السوس. وهذا يظهر تفشي ظاهرة الانتحار بين الأطفال في الأحواز مما ينذر بخطورة ينبغي أن تخضع للدراسات في مختلف الاختصاصات.
القفز في الأنهر وخاصة كارون
لا شك أن هذا الأسلوب من الانتحار لا يتوفر إلا في الأماكن التي فيها أنهر، وأغلب حالات الانتحار تحدث في نهر كارون الممتد على طول جغرافية الأحواز. فأكثر محاولات الانتحار عبر هذا الأسلوب تكون بالقفز من الجسور، وعادة تصدر عن فئات عمرية تقع بين 20 إلى 30 وهم النسبة الأكبر من حالات الانتحار في نهر كارون. ونظرا لفقدان غالبية الفتيات مهارة السباحة لذلك نسبة موتها تغلب على الأولاد. وتظهر السنوات الأخيرة انخفاض من ينتحر في الأنهر وخاصة نهر كارون بسبب تراجع منسوب المياه هذه الأنهر.
تناول كمية كبيرة من الحبوب
ويكاد هذا الأسلوب أن يكون خاصا بالفتيات والنساء، لأن المرأة بطبيعتها لا تميل للطرق العنيفة. والأسباب النفسية من إخفاق في علاقة، أو تعرض للاستغلال، تعد من أهم الدوافع لمثل هذا الانتحار، إلى جانب الحرمان من الاستقلالية والشعور بالكبت والاضطهاد. لكن أغلب هذه المحاولات لا تؤدي بالفاعل إلى الموت.
تناول مواد الغسيل والتعقيم والنفط
هذا الأسلوب أصبح ظاهرة في فترة معينة، ثم عادت المحاولات لأساليب الانتحار المعتادة في الأحواز. وأغلب الحالات هي للفتيات والنساء، فقلما يبادر الرجال إلى الانتحار عبر تناول مواد الغسيل ومواد مشابهة. وذلك يعود لما أفاد به دوركهايم من تقبيح بعض الأساليب في الانتجار على أساليب أخرى. فهنا يفكر المنتحر بكلام الناس عنه بعد موته، حيث سيكون الذم ذمين: ذم لإقدامه على ما حرم الله من الانتحار، وذم آخر ينبع من توسله بأسلوب لا يراه الناس إلا مبعث سخرية وذم ورفض.
وفيا يتعلق بتناول النفط فقد كان يختصر في الأحياء والمدن التي يتوفر فيها بيع النفط للاستخدام المنزلي، لكن بعد مد الغاز للاستخدام المنزلي، وحتى ظاهرة الانتحار بالحرق تضاءلت نسبتها بعد إبعاد النفط من البيوت.
قطع الشرايين
وهذا الأسلوب كان متداولا في محاولات الانتحار بين فئة الشباب في الأحياء المهمشة، وفي الأغلب بين شريحة شبابية مهملة اجتماعيا وثقافيا، بالإضافة إلى الإهمال الممنهج تجاه هذه الأحياء المهمشة والفقيرة، وضعف البنى التحتية والتنموية، وفقدان المراكز الصحية والاستشارية، وغيرها من عمليات التمييز الممنهجة التي ينزلها النظام الإيراني بالشعب الأحوازي منذ أقدم العهود. وكل هذه الأمور تدفع بهذه الفئة الشبابية المفقرة والمهمشة نحو الإجرام، والإدمان، والإقدام على أعمال تؤدي إلى الموت.
الانتحار بالكهرباء
وتعد محاولة الانتحار بالكهرباء حديثة، حيث ازدادت في فترة ما. لكن الوقت الرهن يسج انخفاضا لها بعد أن ظلت بعض الأساليب مستمرة تتصدر حالات الانتحار. وأغلب حالات الانتحار بهذا الأسلوب كانت من النساء والمراهقات والمراهقين، لكن يندر أن الرجال يختارون هذا الأسلوب.
الاستنتاج
لقد تبين في هذه الدراسة أن ما شرحه دروكهايم من تضافر النفسي مع الاجتماعي في حالات الانتحار يجد مصداقه الأكبر في الأحواز، حيث أن أساليب الانتحار ظلت خاضعة إلى أبعد الحدود إلى معتقدات الناس وتفضليهم ميتة على أخرى، على الرغم من نبذهم التام لحالة الانتحار كليا.
وبينما كان يعيردوركهايم اهتماما كبيرا للحالات النفسية، فإن حالة الانتحار في الأحواز تبين، عبر ما رصدناه من أسباب الانتحار، تفوق الأسباب الاجتماعية على النفسية، حتى ظهر الفرد خاضعا تماما لما يأتيه من أمور اجتماعية، تارة مصدرها المجتمع الأبوي، وتارة أخرى مصدرها الاحتلال الإيراني الذي رمى الشعب الأحوازي بالبطالة والفقر والازدراء والأحياء المهمشة ما جعل خيار الانتحار خياره الأفضل للتخلص من حياة ملؤها الفقر والحرمان والازدراء والتهميش.
ولمن المؤسف أن أعلن أنه لا توجد إحصائيات متوفرة للباحثين، أو عموم الناس، تتيح معرفة معدل الانتحار في المجتمع الأحوازي، لا إحصائيات رسمية ولا حتى جامعية. وبينما يفترض اهتمام بعض الاختصاصات الجامعية بهذا الموضوع الخطير، المشاهد هو غياب دراسات وبحوث يمكن الاعتماد عليها.
وعلى الرغم من هذا الغياب المتعمد فإن المتابعات وتقصي المعلومات من المهتمين بالشأن الأحوازي وكذلك الإعلاميين، أفادت الدراسة هذه بأن معدل الانتحار في الأحواز يتراوح بين 6-8 حالات انتحار يوميا. وأغلب الحالات يتم التستر عليها من الإعلام الرسمي، أو حتى من أسرة المنتحرلأسباب اجتماعية أو أسرية، إذ تخشى الأسرة أن يؤثر هذا الموضوع على علاقاتها في المجتمع.
أما الإعلام الرسمي لأسباب أمنية يتخوف من نشر الأخبار الكاملة حول حالات الانتحار في الأحواز، إذ إن هذا الموضوع تحول إلى ظاهرة مجتمعية ملموسة، والشفافية في النشر تجعل النظام في مأزق حقيقي أمام الرأي العام. لذا يتم التستر على هذه الأزمة التي باتت تمس حتى الأطفال.
كما أفادت الدراسة هذه بأن أغلب حالات الانتحار هي من فئة المراهقين والشباب، لأسباب مصدرها الكآبة والبطالة وفقدان الأمل بالحياة.
محمد فالح
المصادر
[1]. إميل دوركهايم، الانتحار، ترجمة حسن عودة، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق2011، ص 5.
[2] المصدر نفسه، ص 6
[3] المصدر نفسه، ص 355
[4] المصدر نفسه، ص 11
[5] المصدر نفسه، ص 11
[6] المصدر نفسه، ص 12
[7] المصدر نفسه، ص 12
[8] المصدر نفسه، ص 69
[9] المصدر نفسه، ص 70
[10] المصدر نفسه، ص 71
[11] المصدر نفسه، ص 382
[12] المصدر نفسه، ص 382
[13] المصدر نفسه، ص 125
[14] المصدر نفسه، ص 125
[15] المصدر نفسه، ص 125
[16] المصدر نفسه، ص 126
[17] المصدر نفسه، ص 126
[18] المصدر نفسه، ص 374
[19] المصدر نفسه، ص 374
[20] المصدر نفسه، ص 374
[21] المصدر نفسه، ص 376
[22] المصدر نفسه، ص 377