المقدمة
احتفال القرقيعان في الأحواز، أخذ طابعًا جديدًا وحديثًا في الآونة الأخيرة، إلى درجة بات من ركائز العمل الثقافي بشقيه المستقل وآخر مرتبط بالسلطة بشكلٍ أو بآخر، ويظهر هذا أهمية وجود احتفال تبرز فيه جمالية الهوية للاحتفاظ بتماسك الهوية الثقافية أو تطويرها، خاصة في حالة الأحواز، حيث الهوية الثقافية معرضة –منذ قرن- إلى أنواع التعتيم والتشويه أو بشكل عام، معرضة لأنواع أفعال الاستعمار.
إن الحاجة إلى إحياء احتفال القرقيعان، أو إعادة إنتاجه على مستوى العمل الثقافي، كانت ضرورة تاريخية للحفاظ بأقل ما يمكن حفظه من العناصر الثقافية التي تخلق وعيًا مشتركًا لدى المواطن الأحوازي، لكن كيف يمكن الاستمرار بهذا الاحتفال المختص بالأطفال، بعيدًا عن مراكز السلطة والمؤسسات المرتبطة بها أو الموازية لها في الأحواز.
يحتفل بهذا اليوم، في مناطق شاسعة من ضفتي الخليج، أي في الكويت والعراق والإمارات والبحرين وقطر والسعودية والأحواز، وهنالك مشتركات كثيرة بين أسلوب الاحتفال بالقرقيعان في هذه الدول، خاصة الاهتمام الذي يصبه هذا الاحتفال لإسعاد الأطفال.
لا توجد حتى الآن، دراسات أو مصادر مهمة في تأريخ هذا الاحتفال الذي يقام في شهر رمضان من كل سنة، وجل الإشارات إلى القرقيعان كانت بأقلام خليجية وكذلك كُتبت في الآونة الأخيرة، بينما لم تُذكر في التراث العربي القديم.
القرقيعان: بين التاريخي والمحدث
سبق أن تمت الإشارة إلى غياب نصوص أو إشارات تاريخية إلى احتفال القرقيعان في كتب التراث العربي، مما تضطر هذه الدراسة تقصي التاريخ الشفوي، وكذلك الإشارات اللغوية الموجودة في الأنشودات المختصة بهذا الاحتفال لمعرفة منشأه، أو معرفة أصوله الثقافية والجغرافية، أو إذا ما كان قديمًا أو حديثًا في جزء من الثقافة العربية، لأنه لا يعم الجغرافية العربية بأكملها، كما لا توجد طقوس غير دينية تعم الجغرافية العربية بأكملها، لأن الجغرافية العربية رغم وحدتها اللغوية، فإن لكل شعب عربي خصوصيات ثقافية معينة بسبب اختلاف البيئات وأسلوب الحياة والظروف التاريخية.
مما توصلت إليه الدراسة من خلال مقابلة أفراد تجاوزت أعمارهم الثمانين، بأن احتفال القرقيعان كان يقام في الأحياء والقرى والأرياف، بطريقة عفوية وشعبية، لكن بعد السياسات الثقافية التي اتخذتها السلطات والتي رويدًا رويدًا تم تنفيذها، شمل هذا الاحتفال، وتم التعتيم عليه بعنف رمزي، على حد وصف بول بورديو، كما حصل لعيد الأضحى، لأجل تفتيت المنظومة الثقافية الأحوازية، وعليه تقلص الاهتمام بهذا الاحتفال في فترة تمتد من العام 1970م إلى 2010م، تقريبًا، لكن بسبب تنامي الوعي الثقافي وتوفر التواصل الحر عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي، والشعور بالعودة إلى الذات، تم استعادة وتفعيل هذا الاحتفال من جديد، لأسباب هووية وثقافية، وجمالية.
بعد عام 2010م، بدأ الاهتمام بهذا الاحتفال يزداد عامًا بعد عام، بأدوات وآليات بسيطة جدًا، إلى العام 2016م، لكن بعد هذا التاريخ أصبح احتفال القرقيعان ضرورة ثقافية يتم الاستعداد له من قبل الناشطين الثقافيين والأشخاص المهتمين وكذلك من قبل مجموعات ثقافية مستقلة وأخرى مرتبطة بالسلطة من حيثُ الدعم المالي وإفساح المجال لهم. لكن، لا يمكن غض النظر عن الاحتفالات الشعبية-العفوية التي تتم بواسطة عوائل وأصدقاء وجيران، إذ تكون على صعيد عدة أسر فقط.
إن غياب النص التاريخي لا يدل على عدم وجود هذا الاحتفال، لأن بصورة عامة لا توجد مصادر في التاريخ الاجتماعي أو الطقوس الاجتماعية والثقافية، ومعظم المصادر التي تطرقت انثربولوجيًا إلى المجتمع الأحوازي، هي الرحلات والوثائق والتقارير السرية للقوى ذات المصالح في المنطقة.
على سبيل المثال، لا توجد أي مصادر أحوازية أو عربية تشير إلى طقوس “الهوسة” أو “اليزل”، في الأحواز، بينما أشار إليها الرحالة الأجانب بشيء من الإعجاب أو الاستغراب، لأنهم أمام ظاهرة جديدة بالنسبة إليهم، لكنها مألوفة وغير مثيرة للذين يمارسون هذه الطقوس، لذا لا نجد هذه التفاصيل في المصادر الأحوازية شعرًا ونثرًا، وكذلك يمكن القول بأن ثقافة تدوين اليومي والتفاصيل والسيرة الاجتماعية لم تكن سائدة في الثقافة الأحوازية، وإلى يومنا هذا.
الامتداد الجغرافي للقرقيعان
يُحتفل بالقرقيعان في عدة دول عربية، معظمها تشمل شريط الخليج العربي بكامله، إضافة إلى مصر وفلسطين واليمن والعراق والأحواز، ولكل دولة منها تسمية خاصة، لكنها بصورة عامة قريبة من بعضها بعضًا، كذلك يتزامن توقيت وقرابة الأناشيد الخاصة بهذا الاحتفال.
يتم الاحتفاء بهذا الاحتفال في مناطق محددة من المملكة العربية السعودية تحت مسمى (القرقيعان)، وكذلك في الكويت والأحواز تحت مسمى (القرقيعان)، وفي البحرين يحتفل به تحت مسمى (القرقاعون)، وفي قطر تحت مسمى (القرنقوه)، وفي عمان تحت مسمى (القرنقشوه)، أما في الإمارات تحت مسمى (حق الليلة)، وفي مناطق جنوب العراق تحت مسمى (ما جينة)، كما في مصر يحتقل به تحت مسمى (وحوي يا وحوي)، أو في فلسطين تحت مسمى (الحواية)، بينما يحتفلون به تحت مسمى (التماسي).
هذا الاختلاف في التسمية مرده إلى اختلاف اللهجات والخصوصية الثقافية الناشئة بفعل اختلاف البيئة الثقافية لكل من هذه الدول والمجتمعات، لكن في منطقة الخليج العربي والأحواز، يوجد تقارب في التسميات.
ستتطرق الدراسة إلى بعض أناشيد هذه البلدان، بغية فهم التقارب بينها وكذلك معرفة السياق الثقافي لهذه الأناشيد.
القرقيعان في البحرين
يمكن عد البحرين، في الوقت الراهن من أكثر الدول اهتمامًا بهذا الاحتفال، إذ الأطفال “في البحرين يحتفلون بالقرقاعون في اليوم الرابع عشر أو ليلة النصف من شهر شعبان ابتهاجا باستقبال رمضان، حيث يرتدي الأطفال الملابس التقليدية مثل الدراعة والبخنق ويذهبون إلى الأهل والأقارب والجيران وهم يرددون أناشيد معينة ويدقون على الأبواب من أجل الحصول على بعض الحلويات والمكسرات”[1]
“قرقاعون عاده عليكم..
آوه يالصيام ما بين قصير ورميضان
سلم ولدهم يالله.. خله لأمه يالله”
والبنات يرددن:
“عطونا الله يعطيكم/ بيت مكه يوديكم
يا مكة يالمعمورة/ يا ام السلاسل والذهب يا نورة
عطونا من قال يسلم لك عبدالله
عطونا حبه وميزان سلم لكم عزيزان
يا بنيه يالحبابه ابوك مشرع بابه
باب الكرم ما صكه ولا حط بوابه”
وبعد دخولهم الى المنزل يغنون وهم يذكرون اسم اصحاب الدار قائلين:
“لولا فلان ماجينا
يفك الكيس ويعطينا /الله يخليه لأمه
ويحفظها بالساحة/ من المطر وسياحه”
يُفهم من كلمات الأنشودة أن احتفال القرقيعان يقام في الأحياء المدينية، لأن يتكرر ذكر “الباب” في سياق الأنشودة، مثل “يا بنيه يالحبابه ابوك مشرع بابه“، فهذه دلالة غير مجازية، وإنما ترتبط بالطابع التنفيذي لهذا الاحتفال، وتتم الإشارة إلى الباب مرتين في مكان آخر: “باب الكرم ما صكه ولا حط بوابه”، وهذا يؤكد وجود هذا الاحتفال في الأماكن الحضرية دون غيرها وفقًا لسياق الأنشودة، على أقل تقدير في البحرين. كما يمكن ملاحظة الطابع الديني في مجمل سياق الأنشودة.
القرقيعان في عمان
يحتفل الأطفال في دولة عمان “على رغم التطور الذي طرأ على تفاصيل الحياة الاجتماعية في عمان، ما زال الأطفال يحتفلون بأداء تقليد القرنقشوه في ليلة النصف من شهر رمضان، ويماثل احتفال الأطفال بليلة القرقيعان في المدن الخليجية الأخرى، ونجد الأطفال في القرنقشوه يدورون في شوارع الحي وينتقلون من دار إلى دار ويغنون طالبين الحلوى.”[2]
“قرنقشوه قرنقشوه / اعطونا شيء حلواه
او يرد الأطفال على البيوت أيضا
قرنقشوه يو ناس/ عطونا بيسه وحلوى
دوس دوس في المندوس /حاره حاره في السحاره
وإذا لم يحصل الأطفال على القرنقشوه يقولون:
قدام بيتكم صينيه/ وراي بيتكم جنيه”[3]
أنشودة القرقيعان في عمان، تخلو من المفاهيم والرموز الدينية، كما أنها موجزة وذات إيقاع سريع مقارنة بباقي الأنشودات في البلدان الأخرى، كذلك يبرز البيت المديني في أنشودة العمانيين في احتفال القرقيعان.
القرقيعان في الإمارات
يختلف توقيت الاحتفال بقرقيعان في الإمارات، مع باقي الدول التي تشاطرها الاهتمام بهذا الاحتفال، إذ “كانت النساء في الإمارات يتهيأن لشهر رمضان منذ شهر شعبان ويحتفل الأطفال بليلة النصف من شعبان فيسيرون في «الفريج» ويطوفون على البيوت”[4]، بينما في الدول الأخرى يتم الاحتفال به في منتصف شهر رمضان.
“اعطونا الله يعطيكم
بيت مكة يوديكم
عطونا من حق الله ولا بنذبح عبدالله
عطونا من حق هالليله
ولا بنذبح هالعجيله”
أنشودة القرقيعان في الإمارات، موجزة، وبطابع ديني بحت نوعًا ما، كما أنها تخلو من عبارات رقيقة وجمالية، بل فيها مفاهيم تتناقض مع رهافة الطفولة.
القرقيعان في قطر
احتفال القرقيعان في قطر أقل من نظيراتها في الخليج، لكن مع ذلك “يستعد القطريون لاستقبال شهر رمضان منذ النصف الثاني من شهر شعبان الذي يشهد النافلة وهي من العادات التي يمارسها الأطفال وتشبه القرنقعوه التي يمارسونها في منتصف شهر رمضان”[5]
“قرنقعوه قرقاعوه
عطونا الله يعطيكم
بيت مكه يوديكم
وديكم لأهليكم
يا مكة يا معمورة يام السلاسل والذهب يا نوره
عطونا حبة ميزان يسلم لكم عزيزان
عطونا حبه ليفه يسلم لكم خليفه”
الأنشودة القطرية لاحتفال القر قيعان موجزة وتتسم بطابع ديني أيضًا، دون الإشارة إلى الحلويات أو إشارات احتفالية بارزة.
القرقيعان في السعودية
يحتفل في المملكة العربية السعودية، بالقرقيعان، في منتصف شهر رمضان، لكن ليس في جميع مناطق المملكة، بل “يرتدي أطفال المنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية أجمل ثيابهم ويخرجون في مجموعات يحملون أكياسا خاصة يعلقونها في أعناقهم ويطوفون على بيوت الجيران، ليوزع عليهم الأهالي المكسرات”[6]
“قرقع قرقع قرقيعان/ام قصير ورميضان
عطونا الله يعطيكم/ بيت مكة يوديكم
ويلحفكم بالجاعد/ عن المطر والرعد
عام عام يا صيام / جعلكم تصومونه بالتمام
الله عطانا خوخ ورمان/عطونا عادت عليكم
اما الثواب ولا الجواب/ ولا نيتفه من صاير الباب
لولا فلان ما جينا/ يا ربي تخليه لامه”[7]
أنشودة الاحتفال بقرقيعان في المملكة العربية السعودية، تتم بالثراء الموضوعي، إذ تقدم لنا صورة أدق من أجواء الاحتفال، وطابعه الطفولي، بالإضافة إلى الطابع الديني وذكر الصيام. كذلك هنالك إشارة إلى الباب، لكن هنالك إشارة دقيقة في الأنشودة، وهي: “لولا فلان ما جينا/ يا ربي تخليه لامه”، إذ تدل على أن مجيء الأطفال يتحدد بوجود أطفال في البيت أو يكونوا على معرفة به، لذا يدعون له بالسلامة.
القرقيعان في الأحواز
القرقيعان في الأحواز، له طابع خاص، يختلف عن باقي الدول العربية، لما له من تأثير ثقافي-اجتماعي في واقع المجتمع الأحوازي، ولما ينظر إليه بصفته فرصة لإثبات الوجود الثقافي والقومي، في ساحة صراع تاريخية مع الثقافة التي تفرضها السلطات منذ عقود متتالية، ودون هوادة.
يقام احتفال القرقيعان في منتصف شهر رمضان، من كل سنة، ويجوب الأطفال البيوت وهم يرددون الأناشيد بالتصفيق والفرح، من هذه الأناشيد:
“قرقيعان أوقرقيعان
الله ينطيكم رضعان
الله يخلي راعي البيت
جينا جينا ندك الحجر
برجلينا برجلينا
واحد طبك مرجان…طبك مرجان
يضوي على السلطان…على السلطان”
يتضح من سياق الأنشودة بأنها تتناسب مع البيئة البحرية، لأنها تذكر المرجان، وهذا يقتصر على المدن الأحوازية المطلة على الخليج أو القريبة منها، وهذا يعني أن منشأ هذه الأنشودة من المحتمل أن يكون من جنوب الأحواز.
مصطلح “السلطان” الموجود في هذه الأنشودة، يلفت الانتباه، لأنه يدل على السلطة أو ارتباط السلطة بهذه المناسبة، لكن إطلاق مصطلح السلطان لرأس السلطة، لم يكن شائعًا إلا في زمن المشعشعيين، إذ اختار هذا اللقب بعض الملوك المشعشعيين دون غيرهم من السلالات الأحوازية التي حكمت الأحواز.
بصورة عامة يُفهم من سياق الأنشودة بأنها مرتبطة ببيئة الأحواز الطبيعية، خاصة المدن المطلة على البحر، لكن الحديث عن المرجان يمكن فيه شيء من القدمة، لأن معظم المدن البحرية دخلت الحداثة مبكرًا مقارنة بباقي مدن الأحواز أو الخليج بصورة عامة.
الانتشار الثقافي: الدوافع، والمحفزات
شهدت السنوات الماضية، اهتمامًا واسعًا من قبل الناشطين في مجال الاحتفالات الشعبية والثقافية، وأخذ حيزًا مهمًا من النشاط الثقافي، لكن لم تدرس حتى الآن الأسباب والمحفزات لهذا الانتشار الثقافي الذي يستمر سنة بعد سنة ويتمدد إلى مدن وأحياء كثيرة، ليكون سمة بارزة من السمات الثقافية الراهنة في الأحواز، ويعد من أهم الأحداث الثقافية في المشهد الأحوازي الراهن.
إن الأسباب والمحفزات لتنامي احتفال القرقيعان، كثيرة، ويمكن تقسيمها، بين الثقافي والاجتماعي والسياسي وفي الأخير الديني وهو الوتر الذي تعزف عليه الجهات المرتبطة بالسلطة بشكلٍ أو بآخر، سواء لتمشية واستمرار الاحتفال أو لاعتقادهم بالجذور الدينية لهذا الاحتفال.
الدوافع التي ساهمت في دفع هذا الاحتفال إلى الانتشار، معظمها يرتبط بالحاجة إلى وجود جمالية ثقافية تزيد من التماسك الهووي، أمام سياسات الإدماج القسري، التي تنتهجها السلطات تجاه المجتمع الأحوازي، وإدخاله في بوتقة الاحتفالات والأعياد الفارسية لأجل تفريس المجتمع وهضمه داخل الثقافة الفارسية. إن عنصر الجمال، في الوقت الراهن، يلعب دورًا كبيرًا في الحفاظ على الوجود، من التجاذبات بين الثقافات والحضارات، خاصة بين الشعوب الغالبة والمغلوبة، أو الأصح بين الشعوب المستعمَرة والمستعمِرة. والدافع الآخر هو العودة إلى الذات، أو بناء الخصوصية الثقافية التي في واقع الأمر، من أهم هواجس الناشطين الثقافيين في المجتمعات المستعمرة لبناء مزيد من التمايزات لأجل البقاء أو التخلص من الاستعمار.
لكن، المحفزات متعددة، منها سرعة تقبل المواطن العادي للأجواء الاحتفالية والجمالية، خاصة إذا كانت مرتبطة بالعنصر النسائي والأطفال، لأن النساء أكثر اهتمامًا بما هو احتفاليٌ وجمالي، وتلعب دورًا مفصليًا تسريع انتشاره، مقارنةً باحتفالات أخرى.
سياسة الاحتواء: القاعات واغتيال الروح الشعبية
منذ عودة احتفالات القرقيعان إلى الواجهة الثقافية، بدأت السلطات تخشى تمدده في مناطق لم تدخلها الأنشطة الثقافية الهووية، كذلك الأحياء المركزية في المدن، والتي غالبًا يضعف فيها النشاط الثقافي الهووي، لذا ظهرت بوادر خطة الاحتواء النشاط الثقافي، الذي مارسته السلطات بعد تجميد الأعمال الثقافية المستقلة.
تأكد الجهاز الأمني من خلال غرف التفكير التي ينشط فيها مجموعة من الأحوازيين الموظفين في الدوائر الرسمية، بأن تجميد هذا الاحتفال لن يكون لصالح السلطات، لأنه من جهةٍ يقلل من الشعور بالاضطهاد لدى الإنسان الأحوازي، ولا يتضمن مفاهيم نضالية أو اعتراضية وكذلك يمكن تقديمه بصفته احتفالا دينيًا خالصًا يتناسب مع الأيديولوجية الطائفية التي تنتهجها السلطات، كذلك لا يمكن قبوله على مضض من جهةٍ بسبب تمدده وانتشاره الواسع، لكن هل قبوله بمعنى أن يستمر شعبيًا وتفاعليًا في الشوارع والأزقة والأحياء والقرى؟ أكيد لا، لأن من منظار الجهاز الأمني، يشكل خطرًا على الأمن القومي، لذا تم التخطيط لاغتيال روح هذا الاحتفال الشعبي ليكون حبيس القاعات المغلقة التي لا تستوعب إلا العشرات من المحتفلين فقط وتحت أنظار الرقيب الذي يدرس كل الخطوات، كما يتم إفساح المجال للعناصر التي تفتقد للمؤهلات الثقافية أو على الأقل غير مستقلة أو يسهل احتواءها بواسطة عناصر مندسة تضيف بعض التوجهات إلى الاحتفال تخرجه عن إطاره الشعبي أو الأحوازي، وتدخله في المسير الذي ترتضيه الأجهزة الأمنية، أي يتم إفراغه من محتواه الأحوازي.
تحديات مستقبل القرقيعان في الأحواز
هنالك تحديات جمة تواجه مستقبل احتفال قرقيعان الثقافي، منها تحديات ممنهجة من السلطة تحاول احتواء هذا الاحتفال، بطرق مختلفة بالوقت الذي لا يمكنها منع انتشاره، لكن بالنسبة لشريحة الفرس القوميين أو الوطنيين، هذا الاحتفال أو أي احتفال ثقافي أحوازي آخر، يجسد لهم تجزأة الخريطة السياسية الراهنة والتي من منظارهم هي حدود تاريخية-أزلية، وينتمي إلى هذا الخطاب شريحة واسعة جدًا ذات توجهات عنصرية، تصل إلى العداء السافر تجاه العرب والأتراك، بصفتهما عدوين تاريخيين للفرس.
ستبقى هذه التحديات الخارجية رغم ضراوتها وشدتها وعنفها، أقل تأثيرًا من التحديات الداخلية التي تحدد إمكانية بقاء هذا الاحتفال الثقافي الأحوازي أم لا، ولا يتأتى هذا إلا من خلال تجديد الأساليب وتطويره لكي يتناسب مع التغيرات التي تطرأ على جمالية الاحتفالات الثقافية في العالم.
بالإمكان إضافة عديدًا من الرؤى الثقافية التي تزيد من أهمية هذا الاحتفال في الحياة الثقافية الأحوازية الراهنة والمستقبلية، على سبيل المثال يمكن إضافة مسابقات ذات طابع ثقافي واجتماعي مبهجة، تجتذب إليها الأطفال والعوائل، كما ينبغي أن تجتذب إليها الشريحة المستفرسة، ولا تكتفي بالمدن والأحياء التي في مستوى هووي لا بأس به، لأنه من المفترض أن الناشط الثقافي، يهتم بالشريحة التي هويتها الأحوازية مهددة بالتشظي والضياع.
الخاتمة
بعد دراسة الأناشيد في بعض البلدان العربية، وكذلك في الأحواز، وتحليل محتوى هذه الأناشيد، توصلت الدراسة إلى أنه يوجد تقارب متين جدًا بين هذه الأناشيد، من أهمها السياق العام لهذه الأناشيد في التطرق إلى شهر رمضان، ومركزية الطفولة والأطفال فيه، في جغرافية عربية شاسعة، لكن عدم انتشار هذا الاحتفال يرتبط برفض رجال الدين لهذا الاحتفال بصفته بدعة ولا سند لها في الدين الإسلامي.
القرقيعان بالأحواز، في الوقت الراهن، له طابع ثقافي-وطني، مهما كانت جذوره، سواء كانت دينية أو غيرها، لأن الطقوس بصورة عامة تتغير فلسفتها بتغير نمط الثقافة الحاضنة لها أو بفعل التقادم والتطور الذي يطرأ على المجتمع، كما تتغير طرق الاحتفال به رويدًا رويدًا أو تتم إضافة أمور أخرى إليه، وهذا طبيعي، لأن ركود العناصر الثقافية وجمالياتها قد تفقده أسباب البقاء والاستمرار، لذا مواكبة العصر وتغيراته من أهم أسباب استمرار العناصر الثقافية، خاصة الشعوب التي لا تمتلك زمام مصيرها.
احتفال القرقيعان في الأحواز، نظرًا لما هو موجود في الساحة الثقافية الأحوازية، سيستمر في الانتشار والتمدد في السنوات المقبلة، لكن هذا الانتشار سيصحب معه تدخل السلطات لاحتواءه وتغيير مساره الثقافي من خلال توظيف المجموعات المتربطة بها وكذلك توظيف المداحين الطائفيين في هذه الاحتفالات.
من المفترض أن تقام احتفالات القرقيعان في الأحياء والمدن التي تعاني من التفريس والتشظي الهووي، لأنها مهددة وجوديًا ولغويًا وثقافيًا، وبحاجة ماسة إلى العودة إلى الذات.
عمار حسن السوسي
مصادر
[1] جريدة القبس
[2] جريدة القبس،
[3] جريدة القبس،
[4] جريدة القبس،
[5] جريدة القبس،
[6] جريدة القبس،
[7] جريدة القبس،