المقدمة
إن استمرار النظام الإيراني خلال العقود الماضية في اتباع سياسة الإفقار والتجويع، عبر التوزيع غير العادل للثروات والسلطة، ومزيد من تجذير حالة المركز والأطراف[1] ومفاقمة مظاهر الاسترزاق الشاذ، كحال التهريب عبر المركبات التي تسمى «شوتي» يتم فيها نقل بضائع منزلية عبر المركبات الشخصية. وهي ظاهرة تحولت، وخصوصا خلال العقد الأخير، إلى منفذ وحيد للحياة لدى الكثيرين من الشعب الأحوازي، بمختلف فئاته الواقعة تحت طائل التجويع والتفقير الممأسس، الذي تمارسه السلطات المحلية عامدا.
وتعكس ظاهرة الـ«شوتي» في الأحواز، جانبا اجتماعيا واقتصاديا، وخلالها، يقوم الأفراد بتأمين مركبات شخصية، مخصصة للاستخدام الشخصي والمنزلي، ثم يجرون عليها تعديلات داخلية تجعلها مؤهلة لحمل مقادير معينة من البضائع، كالسكر والحليب والملابس والأدوات المنزلية، كأدوات التدفئة والتسخين ومكنات الحلاقة وغيرها، مما يمكن جلبه من الموانيء في ابوشهر، عبادان والمحمرة والتميميه وغنوة، لبيعها بأرباح يسيرة لأصحاب المتاجر التي تعرض الأدوات المنزلية في الأحواز و باقي المحافظات المجاوره. وغالباً ما يشار إلى صاحب المركبة بأنه “ساعي بريد”، يسلم البضائع من تاجر إلى تاجر آخر لقاء أجرة سيارته.
هذه الظواهر لا تظهر التوزيع الظالم لثروات الأحواز وشعبه فحسب، بل تؤكد أيضا تداعيات هذا التوزيع على الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حيث تحولت ظاهرة الفقر إلى ثقافة عامة تطغى على جميع المظاهر الحضارية في المدن الكبرى في الأحواز، بما فيها مدينة الأحواز عاصمة الإقليم.
وحيث أن النظام الإيراني، بموجب هذا التوزيع لثروات الدولة، قائم على أساس الصراع بين الأنا الجمعية للطبقة الحاكمة، والآخر المتمثل بكامل الشعوب الإيرانية، الفارسية وغير الفارسية، فإن تموضع الأحواز على الحدود الراهنة لـ«الدولة الإيرانية»، جعلتها أول المتضررين من هذه السياسة، وكبرى المتضررين منها، حتى بالمقارنة مع الشعوب غير الفارسية، كالبلوش والأكراد. وهذا النقطة تحديدا، دفعت بالكثير من فئات الشعب الأحوازي إلى البحث عن طرق تأمين تكاليف الحياة، ولو كانت عبر الاسترزاق بمهن محفوفة بالمخاطر تصل إلى حد القتل من قبل السلطات الأمنية. وعلى رأس هذا الطرق، ظاهرة التهريب بالمركبات الشخصية: «الشوتي»، طلبا لقوت يوم الأُسرة الأحوازية في كل مكان.
ولم يكن التوزيع غير العادل للثروات هو السبب الوحيد لانتشار ظاهرة الأعمال الاقتصادية الشاذة، بل هناك أسباب أخرى، على رأسها انعدام التنمية في المناطق المحيطة بالأحواز العاصمة، وجميع المدن الأحوازية الكبيرة، كعبادان والسوس والخفاجية ونحوها؛ مما حول هذه المناطق إلى عشوائيات يحكمها الفقر المدقع، مع افتقادها للخدمات المدنية عامة. حيث أن انعدام فرص العمل، حتى بين الأوساط الحائزة على شهادات جامعية وحرف مهنية، غالبا ما يؤدي، نتيجة الحاجة للاسترزاق وتأمين تكاليف الحياة اليومية، إلى التوجه نحو أعمال تدرجها سلطات الاحتلال ضمن مربع الجرائم والجنح.
وينطوي استفحال ظاهرة التهريب «شوتي»، على أبعاد اقتصادية وسياسية ومجتمعية، تجعلها ظاهرة متعددة الجوانب، تظهر وجها من أوجه سلطات الاحتلال الإيرانية، وما تقوم عليه من انعدام المساواة والتمييز الممنهج واشتباك السياسي بالمجتمعي بالاقتصادي لديها.
ففي الجانب الاقتصادي، يجب النظر إلى أن أولى دوافع انجراف مهربي البضائع المنزلية للإرتزاق عبر هذه المهنة، هو اليأس المطبق من تأمين فرصة عمل عادية-طبيعية. هذا إلى جوار ما يعايشونه من صنوف التمييز، الذي زرع لديهم القناعة بأن الدولة وما تمتلكه من خيرات اقتصادية ومؤسسات إدارية وإنتاجية وغيرها، ليست لأجلهم ولا علاقة لها بهم، وأنهم غرباء يمنع عليهم، منعا باتا، عيشهم حياة اقتصادية معيارية كالتي تتوفر لدى جميع المواطنين. ونتيجة لهذا الحرمان، وما يخلفه من مشاكل شتى مرجعها إلى الفقر، فإن التوجه إلى طرق غير اعتيادية للعيش، سيكون المنقذ الوحيد والخيار اليتيم المتاح في ظل هذه الظروف.
وعلى الصعيد المجتمعي، هذه الظاهرة هي السبيل الأول لتأمين تكاليف الحياة، بين الأسر والأفراد القاطنين على أطراف المدن الكبيرة، والمستوطنات الفارسيه الفارهة، كمستوطنة «ميمكو» في مدينه معشور والجراحي، و مستوطنه «شهرك نفط» و«كيان بارس» في الأحواز العاصمه. وبينما العشوائيات المكتضة بالسكان العرب تكثر، يوما بعد يوم، في جميع أنحاء الوطن الأحوازي، أصبح مدنها العربية مناطق هامشية تحوط بمراكز، هي المستوطنات الفارسية ذاتها، يحوطونهم سكان عربا يفتقرون إلى أدنى مقومات الحياة، كالمياه الصالحة للشرب. ولا يخفى على أحد بأن التبعات الاجتماعية الناجمة عن الفقر، والتمييز والعشوائيات، أولى الأسباب التي تضطر بالناس إلى اللجوء لأعمال اقتصادية يدرجها النظام ضمن الأعمال غير القانونية.
وأما سياسياً، فإن إحكام الطوق الأمني على الأحواز، بوصفه منطقة حدودية فاصلة بين العراق وإيران، وفق نظرة النظام الإيراني القائم، جعلت امتهان الأعمال غير القانونية تعبيرا عن عدم علاقة هذه المنطقة بالنظام الفارسي، وأن العرب مواطنون من الدرجة الدنيا، ليس لهم الحق، كما للفرس، في التوظيف، ناهيك عن تولي المناصب القيادية في المنطقة، أوتمثيل إرادة الشعب الأحوازي، والحق في اختصاص الثروات بأهلها بدل مصادرتها للغير إلخ.
وهنا يتبادر السؤال عن الأسباب الكامنة خلف هذه الظاهرة، والظواهر المماثلة التي يصدق عليها ما يصدق هنا، وكيف انتشرت هذه الظاهرة وصولا لهذا الاتساع، وما هي التبعات التي حملتها معها؟
اقتصاد الجريمة: سبيل البقاء الوحيد
قامت الجمهورية الإسلامية على أنقاض الملكية السابقة بنظرتها المعطوفة للحداثة والتحديث، وورثت مؤسساتها وخططها العامة، لكنها سرعان ما اصطدمت مع نظرة التحديث هذه، المعطوبة أصلا، حتى آل أمر الجمهورية إلى رفض تلك الخطط التحديثية، رفضا منفعلا لم يعرض حلولا مغايرة تكون بمثابة البديل. وبدلا عن إقرار خطط تنموية وتحديثية جديدة خاصة بالنظام الجمهوري الجديد، أخذ هذا النظام الإسلاموي يتبنى أطروحات إنشائية، يعادي فيها العالم الحديث بعنجهية، دون أن يجد لنفسه طريقا إلى ذلك، تمهيدا لترجمة شعاراته الظلامية على أرض الواقع.
ومنذ ذلك العداء للتحديث، المعطوب أصلا، الذي كان جاريا خلال العهد الملكي البائد، أخذ النظام يجري تعديلات على برامج موروثة عنه، تسببت بتعبات اقتصادية جسيمة، غلّفها بلباس القيم والسلوكيات الإسلاموية، مما جعل الحياة العامة مرتبكة. وهذا الأمر يُظهر بوضوح غياب أي برنامج اقتصادي لدى الجمهورية الإسلامية، وإنما خليط بين برامج مرتبكة المعالم أقرها بنفسه، مع الاستمرار بخطط اقتصادية ورثها من النظام السابق، وعلى رأسها الاستمرار بالنظام البيروقراطي المخلوع بمعظم حمولاته.
ومع توطيد الحكم الإسلاموي، وإضعاف الجانب الجمهوري في نظام الجمهورية الإسلامية، وتحكم نظام قائم على ديكتاتورية الولي الفقيه، اكتسب جند الولي الفقيه، أي حرس الثورة الإسلامية، شيئا فشيئا، مكانة في الدولة، سرعان ما تغولت في الجانب الاقتصادي أيضا، فأخذ الحرس يتربع على اقتصاد الدولة ومواردها، ما جعل التطلعات الثورية تؤل إلى صراع على أساس المصالح الفردية، الخاصة بطبقة الحكم الموزعة بين رجال الدين والحرس الثوري.
ونظرا لغياب أية خطط اقتصادية يتبناها هذا النظام، أصبح الصراع على موارد الدولة بين الولي الفقيه وحرسه، وباقي رجالات الدين من الطبقة الحاكمة، صراعا يدور على محور الخطط الاقتصادية السابقة، وخليط من تسيير أمور الدولة وفق منطق العادة ومعالجة المحدثات من الأمور، من منطلق ردود الفعل ودفع الضرر، دونما رؤية اقتصادية واضحة المعالم، وإنما خطط تتموضع بين شبه اقتصاد مموه تدعو إليه طبقة رجال الدين الحاكمة، ومؤسسات متهالكة موروثة من العهد الملكي، لم يتبق منها إلا توزيع المصالح بين الحاكمين أنفسهم.
وفي ظل هذه العقلية الاقتصادية المحكومة بالموروث البهلوي المتهالك، ورؤية اقتصادية تراثية مشوهة، بات الشعب الأحوازي، وباقي الشعوب غير الفارسية، الواقعة على الحدود النائية، سواء الحدود الجغرافية أوالقومية أوالثقافية والسياسية، مبعدين عن مركز النظام، ومتربعين موضع الآخر المطرود. إلا أن هذه الرؤية الكونية الهجنية بين الموروث الإسلاموي، وبقايا الحداثة المعطوبة، ألقت بظلالها وبقوة على مختلف جوانب حياة الشعوب: الثقافية والمجتمعية على حد سواء، وباتت تئن تحت ضغط هذا التيه، بين موروث أصبح منبوذا، نتيجة استغلال الجمهورية الإسلاموية له، وبين شذرات من الحداثة أذاقتهم الويلات أيام الحكم البهلوي، وأعيد إنتاجها في هذا النظام لضرورة تسيير شؤون الحكم.
ووفقا لتصريحات مسؤولي النظام الإيراني، يعيش قرابة مليون مواطن عربي أحوازي في مناطق تتميز بالتهميش الشديد، ويفتقرون إلى أبسط الخدمات الأساسية ومقومات الحياة المعيشية. بيئتهم ملوثة بشدة، ويضطر العديد من أفراد هذه المناطق للعمل كباعة متجولين، لبيع البضائع أو أنابيب وقود الغاز على طول الطرق. وحتى الأطفال في هذه المناطق، يعملون في الشوارع، يبيعون الزهور أو يغسلون السيارات، لأجل إعالة أنفسهم ومساعدة عوائلهم، التي تعاني من الفقر المدقع. ومن البدهي أن ينعكس كل ذلك على دراستهم فيتسربون من المدارس، وبنسبة كبيرة.
ونتيجة لهذه الحال، بات الشعب الأحوازي يبحث لنفسه عن طرق بديلة، تمكنه من الاستمرار في الحياة، في منطقة ضيقة تركتها لهم السلطة بعد طردهم من حياة الدولة. فمع انتهاج الدولة الإيرانية، أسلوب نهب الثروات الأحوازية، من نفط وبتروكيماويات وصلب وزراعة وثروات سمكية ومياه وافرة وغيرها من ثروات الأحواز، وجد الشعب الأحوازي نفسه مضطرا إلى تعويض هذا النقص، الذي جاء نتيجة سطوة الاحتلال، للجوء إلى أعمال كالتجارة في الموانئ، التي يسميها النظام تهريبا، والتبادل التجاري الصغير مع الكويت والعراق المجاورتين، والتبادل المعيشي بين الأسر والمدن العربية، وإلى ظاهرة الـ«شوتي» موضوع الدراسة. حيث وجد الأحوازيون في كل ذلك بديلا لاستمرار الحياة. إلى أن تحولت هذه المساعي لتأمين العيش، إلى ظاهرة تحمل معها ثقافة معينة، ومظاهر مجتمعية معينة، ولذلك بات يمكن القول بأن هذا الاقتصاد هو اقتصاد المجتمعات المهمشة المحاربَة، يعكس طابعها العام، ومرحلتها التاريخية الراهنة، ومنظومة قيمية تترجم هذا الواقع وتدور حوله.
إن هذه الظاهرة لا تعد ظاهرة عابرة ظرفية، بل هي سمة من سمات العصر الذي يعيشه المجتمع الأحوازي، وانعكاس لواقعه المرير الراهن، وما نتج عن ذلك من ثقافة وتركيب مجتمعي يتوائم مع كل ذلك.
تكوين اقتصاد التجريم في إيران الحديثة
كانت الحكومة البهلوية قد أسست، ولأول مرة، دولة مركزية على أنقاض الإمارة العربية الأحوازية، وباقي الإمارات القومية للشعوب غير الفارسية. حيث سعت هذه الحكومة لإقامة دولة قومية، لكنها تدور حول القومية الفارسية فقط، وتصنع من خلالها وحدة قومية غايتها تحديث دولتها. إلا أن التنافر القومي الذي كان في نطاق هذه الدولة الوليدة، جعل السلطة البهلوية المحتلة، تتجه نحو تحديث مركزي الطابع يصهر الجميع في بوتقة واحدة. وذلك أن رضا شاه قد وجد في ذلك التنافر القومي معوقا رئيسا أمام برامجه، حتى آل به الأمر إلى نبذ دستور الملكية الدستورية، والحكم حكما بوليسيا، كانت أولى ضحاياه الديمقراطية، كما جاءت في مطالبات ثورة الملكية الدستورية، والحكم المشترط بالقانون، والحكم بدلا، عن ذلك، بمنطق أحادي ديكتاتوري يجري التحديث من فوق، وبشكل عمودي تسيره الدولة.
وتسبب هذا الاتجاه بامتعاض تيار المشّرعين، الذي ولد أيام انتفاضة الملكية الدستورية، وجعله يتجه نحو إسلاموية متطرفة بنسخة شيعية. وقد بلغ هذا الأمر، أمر كبت المطالبات الديمقراطية والحكم القانوني، ذروته أيام الدكتور مصدق، ومات موتا سريرا بالانقلاب الذي أطاح به من جهة، وبحافز محمدرضا شاه لتشديد الوجه الديكتاتوري في حكمه والحكم بقبضة الجيش من جهة أخرى. وفي أعقاب ذلك، لم يتبق من المطالبات الدستورية والقانونية إلا فكرة واحدة من مجموع أفكار التحديث، هي الحفاظ على النظام البيروقراطي، كأفضل أداة لإدارة الدولة برمتها، هو النظام ذاته الذي تحول إلى ميلاد مجتمع استعراضي، واستفحال طبقة استهلاكية تسترزق من عوائد الحكم، على حساب كافة القوميات والطبقات المتنفذة السابقة على حد سواء.
وإذا ما كان مصير الطبقات المتنفذة السابقة، نظير طبقة رجال الدين، هذا المآل من الطرد والنبذ عن الحكم، فإن حال القوميات المطرودة أصلا سيكون أسواء بكثير، وستنال مختلف التفقير والتهميش وعدم الاعتراف بها، وهو ما بلغ الذروة في النظام التعليمي، حين فرض اللغة الفارسية لغة التعليم دون العربية، لغة شعب الأحواز، وحاضنة ثقافته وتاريخه وقيمه المجتمعية.
ولكن في موازاة كل ذلك، نشأت أفكار واتجاهات أخرى، يسارية وقومية ومذهبية، تحالفت مع بعضها على النظام القائم، وسرعان ما أطاحت القوى الثورية التي نازعت النظام بقائه، أطاحت بالنظام الملكي، وأخذت تشكل نظاما يراعي المطالبات الديمقراطية، التي رُفعت أول مرة في انتفاضة المشروطة مطلع القرن الماضي. ولكن ما إن انتصرت الثورة حتى انقلبت الجماعة القومية المذهبية على التيار اليساري، وتحالفت مع التيار الديني المتشدد، وأقصت التيارات اليسارية عن الحكم وكبتتها بقمع شديد.
وبعد إزاحة التيار اليساري عن الساحة، سيطرت الجماعات الدينية على الدولة، دون أن يكون لديها أي خطط اقتصادية. لذا، وبدلا عن الخطط التنموية والاقتصادية، ظلت تردد شعارات ثورية وتطلعات طوباوية إسلاموية، بعيدة تماما عن الاهتمام بالأمور الاقتصادية والتنموية العلمية. مستمرة هكذا بالعمل ضمن النظام الاقتصادي الملكي المخلوع، والحركة ضمن نظامه البيروقراطي السابق، مع إضفاء قشور إسلاموية. ولكن هذه التطلعات الإسلاموية أفقدت النظام البيروقراطي السابق، المتماسك على أساس التنمية القومية المركزية، أفقدته توازنه وتناسقه التقريبي، القائم على أساس نبذ القوميات، وعلى رأسها القومية العربية الأحوازية، وسلب جميع الثروات الهائلة الآتية من الأحواز.
وعليه لم يرى الشعب الأحوازي تغييرا في الثورة التي أطاحت بالنظام الملكي، حيث ظل النظامان، الملكي والجمهوري الإسلاموي، يُجريان عليه النتائج ذاتها، من تفقير ونهب ثروات إلى عدم الاعتراف القومي المفضي إلى تخصيص جانب من الثروات لأهلها. وهنا تشكلت نماذج اقتصادية تسعى للاستقلال عن النظام الاقتصادي لسلطة الاحتلال، الذي أخذ يصنفها في خانة التجريم والمخالفة، لينشأ اقتصاد منازعة البقاء، قائم على اقتصاد التجريم، وهو الاقتصاد الوحيد المتاح في المجتمع الأحوازي العربي، المنبوذ والمطرود من جانب الحكم. على أن هذا الاقتصاد له من المنطق الداخلي، والعلاقات المعقدة، ما جعله يطبع الحياة المهمشة برمتها؛ حتى باتت ظاهرة الـ «شوتي» إحدى جوانبه.
فوفقاً لإحصائيات شبه رسمية، تحولت هذه الطريقة في العمل، إلى عمل يتفاقم يوميا في المناطق العربية، حيث قتل منذ العام 2018 لغاية الآن ما يقارب 214 فردا من سائقي هذه المركبات وهم في طريقهم لإيصال البضائع، وغالبيتهم من فئة الشباب دون الثلاثين عاما. إذ أفادت صحيفة دنياي اقتصاد في إحدى تقاريرها، بأن أعمار الأفراد الذين يمتهنون هذا العمل المحفوف بالموت ينخفض سنويا، حتى بات المعدل العمري لهم 16 عاما، ما جعل إجمالي العاملين في هذه المهنة، في بضعة شهور، يتجاوز 5 ألف فرد، وفق إحصاء تقريبي.
وفي هذا السياق، قال شاب أحوازي يبلغ من العمر 30 عاماً، لديه سيارة بيجو 405 ELX، يعيش في مدينة أحوازية (طلب عدم الكشف عن اسمه) قال في حديثه لمعهد الحوار: بأن الظروف لم تتح له خيارا سوى هذا العمل، تهريب البضائع. «عادة ما يطلقون علينا اسم «شوتي»، يقصدون به من يقودون سياراتهم بسرعه عالية هروبا من الأمن، متنقلين من مدينة إلى أخرى، حاملين بضائع محظورة. وعادة ما يتم تهريب البضائع من المناطق الحدودية للأحواز، إلى أي متجر يشتريها. وأكثر البضائع هي الهواتف المحمولة، والسجائر، والفساتين، والأحذية، وأدوات كمال الأجسام، والأجهزة المنزلية والألعاب».
ويضيف الشاب للمعهد «لديّ درجة البكالوريوس في هندسة البتروكيماويات، وعلى الرغم من تقديم العديد من طلبات التوظيف للحصول على فرصة عمل بالفرع الذي أحمل شهادة تخصص فيه، أو ما يقاربه، لكن جميع شريكات النفط والبتروكيماويات، في الأحواز، ترفض توظيف فاقدي الواسطات، الواسطات الفارسية بكل تأكيد. وهذا هو حال معظم الشباب الأحوازي المتعلم. ونحن نعلم أن سبب ذلك هو كوننا عربا، تصنفنا الدولة أغيارا ليسوا مواطنين لهم الحق في التوظيف والحياة. وبعد كل ذلك فماذا يبقى أمامي سوى العمل كسائق سيارة أجرة في النهار، ومهرب «شوتي» في الليل».
وفی جانب آخر من حديثه للمعهد يتابع الأحوازي ابن الثلاثين ربيعا: «لقد بدأت العمل في تهريب البضائع، «شوتي»، منذ قرابة العام. كنت راغب بالزواج ممن أحب، لكن لم يكن لدي ما يكفي من المال، وبالكاد کنت أستطيع استئجار منزل لائق. كنت أعلم أنها وظيفة خطيرة، لكنني كنت أمام خيارا واحد، ولم يكن لدي ما أخسره. لقد اتجهت إلى عمل الـ«شوتي» وأنا كنت قد فقدت ثلاثة من أصدقائي، أحوازيون أيضاً، قتلتهم عناصر الأمن بعد مطاردتهم، أثناء محاولتهم نقل بعض البضائع من مدينة بوشهر الساحليه.
الحياة العارية
الحياة المنزوعة، أو الحياه العارية، وفقا لفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين، هي تلك الحياة التي فقدت جميع دروعها الدفاعية، وتحولت إلى حياة خالية عن أية واقيات أو دفاعات تصد عنها. وتحول الإنسان إلى هذا النوع من الحياة، يعني إصابته باغتراب مجتمعي يجعله منفصم الشخصية، مغتربا عن جميع حقوقه المجتمعية وعن شأنه الإنساني. إنه إنسان لا يستحق سوى الموت. لذا يتم قتله دون أن يتحمل القاتل نتيجة قتله أي عقوبة قانونية، ولا يجلب قتله أي مسؤولية أمام المؤسسات الحكومية والمجتمعية. إنه جسم نُزعت منه تماما جميع الدفاعات القانونية، حتى بات مهدور الدم مستباح الحياة. فهم أعضاء فاسدة يمكن لجميع القادرين أن يبتروها ويتخلصوا منها.
كما أن هؤلاء الأفراد المصنفين ضمن دائرة الحياة المنزوعة، لا يندرجون تحت طائل القيم الأخلاقية ولا القيم المقبولة، حيث تم إزاحة القيمة عنهم، لأنهم خارج الحياة الأخلاقية. لذلك يصبح القضاء عليهم غير مستجلب استنكارا قيميا ولا أخلاقيا. ويصل هذا الانتزاع عن القيم والأخلاق إلى درجة يصبح حذف هؤلاء من الحياة، بشتى الطرق، جزءا من الحياة اليومية الرتيبة، ووسط حالة من اللامبالاة بمصيرهم، أو بطريقة التعامل معهم. وهو تحييد القتل، في الاقتصاد القائم على التجريم.
وبناء على ذلك فإن استهداف سائقي مركبات الـ«شوتي»، العرب الأحوازيين، على الطرقات، وإصابتهم أوقتلهم يوميا، لا يجلب معاقبة قانونية من قبل النظام، وكذلك لا يجلب أيضاً استنكارا من المجتمع الفارسي من المستوطنين. وفوق ذلك كله، يأتي تكريم الشرطة القائمين بالقتل والتصدي بالقوة الغاشمة لهؤلاء، كسمة للسلوك الغالب على عمل مؤسسات الدولة والنظام الشرطي، وذلك تحت مبرر مكافحة التهريب. لكن أي تهريب؟ تهريب ماكينة حلاقة وسخان وعلبة علكة وما إلى ذلك من البضائع المنزلية رخيصة الثمن.
نظرية الحياة العارية، تؤكد بشكل أكبر على الوجود المحفوف بالمخاطر للسكان الأحوازيين المهمشين في الأحواز. ويرى أجامبين أن بعض المجموعات تُجرد من إنسانيتها وتُختزل إلى مجرد وجود بيولوجي، مجردة من أية حقوق أو حماية. إن حالة الحياة العارية هذه تجعل الأفراد عرضة للاستغلال والعنف والإبادة في نهاية المطاف. أيضا يمكن فهم ظاهرة الحياة العارية وسلب الحقوق في الأحواز من خلال عدسة السلطة الحيوية والسياسة الحيوية ونظريات التهميش. وقد أدت سيطرة الحكومة الإيرانية على أجساد وحياة السكان الأحوازيين، في الأحواز، إلى استبعادهم من المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، مما تركهم مهمشين من دون حقوق أساسية. ويؤدي هذا القمع الممنهج إلى استمرار دورة الحرمان و التهميش لغالبية السكان في الأحواز.
وتشير السلطة الحيوية، كما وصفها الفيلسوف ميشيل فوكو، إلى الطرق التي تمارس بها الدول والمؤسسات السيطرة على الأفراد والسكان، من خلال تنظيم أجسادهم وحياتهم. وتتضمن هذه السيطرة القدرة على تحديد من له الحق في العيش ومن يعتبر قابلا للتصرف أو مستهلكا. وفي حالة الأحواز، قامت الحكومة الإيرانية تاريخيا بتهميش الأحوازيين وقمعهم. وقد تم فرض هذا التهميش المستمر من خلال مصادرة الأراضي، والتهجير القسري، التلوث البيئي، والتمييز العرقی، وعدم الوصول إلى الموارد وفرص العمل. ونتيجة لذلك تم تجريد السكان الأحوازيين في الأحواز عن حقوقهم، بما في ذلك الحق في الحياة، وتم تحويلهم إلى حالة من الحرمان والضعف. وإثر ذلك لقد غرق الأحوازيين في أعماق الفقر، حتي بات يكافح الكثير منهم من أجل عيش حياتهم بأقل من دولارين في اليوم، ويعمل العديد منهم كباعة متجولين أو في تهريب البضائع المحظورة.
القتل خارج نطاق القضاء
أدت العلاقة الفاسدة بين الحكم والاقتصاد في الجمهورية الإسلامية إلى نشوء حياة العشوائيات معاقبة، وهي ذاتها، الحياة التي تجري في الأحواز في الوقت الراهن. فحياة العشوائيات في إيران، هي نتيجة ممنهجة للحياة اللاإنسانية فيها، من خلال تواجد جماعات بشرية فرضت عليها السلطات المفروضة نوعا من الحرب الاستعمارية، مما جعلهم معاقبين بالسجن الجماعي في الهواء الطلق، باتت حياتهم فيه معتقلة على ذمة التحقيق، في قبضة سلطات الاحتلال القائم، الذي يحتكم في تعامله معهم إلى منطق وقانون المزاج، فلا قانون يلجم هذه السلطات، ولا شريعة سماوية ولا سياسة إدارة الملك. وبالنظر إلى حياة العشوائيات في إيران، يظهر وجود تجمعات تكون السلطة فيها مطلقة العنان، سلطة بعيدة عن الأخلاق والسياسة والضمير، تستهدف الجسد بشكل مباشر، بغية إدارة الحياة البيولوجية لإخضاعها، وتحول المواطن فيها إلى أعضاء فاسدة يجب التخلص منها، تمهيدا لشطب العشوائيات بأهلها من قائمة الشؤون السياسية والاقتصادية للدولة. وفي ظل هذه الظروف تتحول حياة سائق المركبة، «شوتي»، لخيار تابع لمزاجية الشرطي وعنصر الأمن، إن أراد عفى، وإن أراد شطب ومحى، وهو خيار نابع من عنف ممأسس في قيم السلطات ومجتمعها، باعتبار أن قتل هؤلاء هو مجرد أرقام تنقص وتزيد، ما يحول الإنسان، بموجب ذلك، إلى مؤشر احصائي منزوعا عن أي بعد إنساني.
الاستنتاج
- إن وضع الـ«شوتي» يمثل إنسانا يعيش حياة التجريم، وحياته لا تعني سوى الجانب البيولوجي الجسدي في عيون سلطات الإحتلال، وما في ذلك من انتزاع صفة الإنسانية منه، ناهيك عن الكرامة الإنسانية والقيم الأخلاقية الحامية لها. وذلك هو ما جعل هؤلاء البشر في مرمى اصطياد العناصر الأمنية والشرطية، تقتل من تشاء وترأف بمن تشاء وفق منطق المزاج الفردي.
- إن هذه الوضعية ليست نتاج عامل اقتصادي بحت، بقدر ما هي تشابك ومزيج بين الاقتصادي والمجتمعي والسياسي، وانعكاسا لتكتل الطبقة الحاكمة منذ بداية تكوين الدولة الإيرانية الحديثة، وصولا إلى الجمهورية الإسلامية الحالية. حيث عملت هذه الدولة وفق نظرة أمنية استعلائية تجاه الشعب الأحوازي العربي، وأنزلته مكانة دنيا مقارنة مع الفرس أصحاب الدولة. وهذا هو القاسم المشترك في الدولة الإيرانية، بمفهوم الدولة، سواء في العهد البهلوي أو الجمهورية الإسلامية. وما القتل المنفلت من القانون، أو خطط التهجير، والتجويع والتمييز الممنهج، إلا فصولا من كتاب هذه الدولة. كما أن الكفاح الثقافي، والكفاح المباشر، والنزاع من أجل البقاء والظفر بلقمة العيش، ما هو إلا فصلا من كتاب مقاومة الشعب الأحوازي.
- إن الاقتصاد الإيراني المتهالك في الوقت الراهن، تسبب بتفاقم أزمات الشعب الأحوازي، وباستمرار السياسات الاستعمارية القائمة على نهب الثروات الأحوازية. ما جعل عدد الممارسين لهذه الأعمال في ازدياد مطرد من جهة أخرى، كما أنها قلّصت أعمار العاملين في مهنة الـ«شوتي» إلى ما دون 15 عاما، وفي بعض الحالات سجلت امتهان النساء لمثل هذه المشاغل الخطيرة، التي هي تصوير عن الحياة مقابل الغذاء.
رحيم حميد، باحث في معهد الحوار للابحاث والدراسات
[1] يقصد بالمركز: طهران والمدن الفارسية، وبالأطراف: المناطق الحدودية المهمشة كالأحواز وكردستان وبلوشستان.