الإثنين, نوفمبر 17, 2025
فن وثقافةأنا أكتب إذن أنا موجود 

أنا أكتب إذن أنا موجود 

خبر الحوار-2 النبأ التحليلي عن كل جديد في المجتمع والثقافة الأحوازية/ حميد عاشور وإصداره الجديد: كنوز الحكمة الأحوازية

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

مؤخرا أصدر الكاتب الأحوازي حميد عاشور كتابه تحت عنوان “كنوز الحكمة الأحوازية” وهو مختارات من الأمثال الشعبية وتفاسيرها الرمزية. هذا الكتاب والذي يقع في 112 صفحة، تمّ نشره في العاصمة الألمانية، برلين، ومن دار عاشور للطباعة والنشر.

وُلِد الكاتب الأحوازي، حميد عاشور، عام 1948 في مدينة عبادان، ثم انتقل مع أسرته إلى ضواحي مدينة الخفاجية، واصل كاتبنا الدراسة حتى نال على شهادة البكالوريوس في الأدب الفارسي، ولاحقا استمر في دراسته العليا في إحدى الجامعات التابعة لوزارة التعليم والتربية في فرع العلوم الإنسانية. ضاقت به السبل بسبب نشاطه السياسي، فاضطر إلى المغادرة الوطن سرّا، متنقلا بين تركيا وسوريا، ليستقر أخيرا في ألمانيا. ومن هناك ومن أرض  الغربة واصل حميد عاشور عطائه الثقافي واستمر في نشاطه على أكثر من صعيد.   

ومؤخرا أصدر حميد عاشور كتابه “كنوز الحكمة الأحوازية” والذي يتناول فيه أبرز الأمثال والحِكَم الشعبية المتداولة عند الأحوازيين، فتأتي الأمثال في الكتاب واحدا تلو الآخر وباللغتين الشعبية والفصحى لتكون في ذات الوقت واضحة ومعروفة للأحوازيين وللقارئ العربي في جميع الأقطار، وبعد ذكر كل مَثل يأتي الكاتب على الكشف عن المعاني الرمزية وعن الرسائل المضمرة فيه، ثم يتناول المَثل الواحد من أكثر من ناحية، وقد يُقدم رؤيته النقدية ويتخذ موقفه الخاص إيجابيا أكان أم سلبيا من بعض الأمثال وذلك على ضوء  تداعياتها المجتمعية، وأحيانا أخرى يحاول  الكاتب ربط الأمثال المذكورة في الكتاب بواقعنا المعاصر، فعلى سبيل المثال يُسقط أحد الأمثال على كيفية تعاملنا مع الحسابات والتطبيقات الضارة في الفضاء الافتراضي. وكأن عاشور أراد لكتابه أن يكون حلقة من حلقات الوصل بين تراث الأحوازيين وواقعهم المعاش.

لغة الكتاب أنيقة وأخاذة، وصحة الإملاء فيه وكذلك مراعاة قواعد اللغة من صرف ونحو وأيضا الاستشهاد بالأبيات العربية من الأدب القديم والحديث كلها تدلّ على تَمكّن الكاتب من اللغة العربية وآدابها، ومن خلال استخدام هذا التَمكّن يحاول الكاتب إظهار حلقة الوصل المتينة بين الفلكلور الأحوازي والثقافة العربية عموما، إذ أن الكثير من الأمثال الشعبية المستخدمة عند الأحوازيين هي مستوحاة من الثقافة والتراث والأدب العربي.

و بقراءة الكتاب يتعرف القارئ العربي عموما و الأحوازي خصوصا على جذور الكثير مما يردده في ثنايا حديثه اليومي من أمثال وعبارات متداولة، ولهذا أثر في لباقة المتحدث وفصاحة لغته. وفي الكتاب أيضا لمسات من العلوم الإنسانية وتأويلات اجتماعية وثقافية و هوياتية وإرجاعات تاريخية مما تزيد من المستوى المعرفي لدى قارئ الكتاب. كما أنّ الكاتب ومن خلال مقاربة الأمثال الأحوازية بالأمثال والابيات العربية يعرض كمّا كبيرا من المقتطفات الأدبية المعبّرة والتي بها يزيد من المخزون اللغوي لمخاطبه ويمكّنه من اختزال التعابير وحسن الحديث. 

قبل ثلاثين سنة، وفي عام 1997، حاول الكاتب الأحوازي الراحل كاظم بور كاظم (چلداوي) لملمة جزء من تراث الأحوازيين بين دفتي كتاب تحت عنوان “أمثال وحكم مردم عرب خوزستان” وهو مؤلف باللغة الفارسية عن الأمثال والحِكم الأحوازية، وذلك خوفا من هبات النسيان العاتية نتيجة لغياب المؤسسات الثقافية و الهوياتية، والحرمان من التَعلّم باللغة العربية، ومحاولات هيمنة الثقافة الفارسية المستفحلة بفعل انفرادها بالمؤسسات التعليمية الحكومية وحتى غير الحكومية، بعد كاظم بور كاظم جاء الدور لوهاب خانجي ومحمد جواهر كلام وتوفيق يابري (باوي) ومحمد عماري و سها جابري (جوده زاده) و آخرون من الكتّاب الأحوازيين الذين أعادوا محاولة تأليف كتب في الأمثال والحِكم الأحوازية وتقديم دراسات في هذا الصدد، وذلك لاعتقادهم بأهمية هذا الجزء من الثقافة الشعبية ولمعرفتهم بالضرورة الملحة للتوثيق وحاجتنا الماسّة إليه.

الأمثال الشعبية، والحكايات والأغاني والطقوس وحتى النكات اليومية والتي تسمى في مجملها الثقافة الشفهية، تُشكّل جزءا لا يستهان به من الذاكرة الجمعية، وهي صورة المجتمع عن نفسه، وخلاصة تجاربه وحكمته المتوارثة عبر الأجيال. وللحيلولة دون زوال هذه الثروة الشفهية نحتاج بشدة إلى الكتابة وأصناف التوثيق الأخرى من المرئيات والصوتيات، وإلى دراسات و بحوث ومن ثم النشر والتوزيع، وبهذا نستطيع تحويل موروثنا الشفهي إلى مكوّن ثقافي مكتوب وفاعل. 

والمعروف عن الأوطان أنها ليست مجرد جغرافيا بل هي ذاكرة أيضا، وإذا لم توثق هذه الذاكرة، فلن يبقى منها سوى شذرات متقطعة، وعلى هذا فإن كل عملية تدوين ومنها توثيق الأمثال الشعبية هو فعل مقاومة ضد النسيان، وأحياء للهوية في زمن يهددها الذوبان. وكما يقول المثل الشعبي: “اللي يزرع يحصد” فلنزرع الكلمة المكتوبة، كي يحصد ابناؤنا ذاكرة حية وهوية راسخة.

 التدوین والکتابه عن التراث الأحوازي وثقافتها تعد مقاومة ثقافية ضد التفريس وطمس الهوية الأحوازية

فالكتابة ليست ترفا، ولا عملا من الأعمال المستحسنة غير الضرورية، بل إنها عمل وجودي، ولهذا يقال أن من أبرز الفوارق بين الشعوب الحية والمندثرة هو القدرة على العطاء، فالأمم التي تنتج على مختلف الأصعدة ولاسيما على الصعيد المعرفي والثقافي تقول بأعلى صوتها: نحن هنا، نحن نفكر، نحن نكتب، نحن موجودون. فكل كتاب أو مقال أو بحث يصدر هو شهادة على وجود الأمة.

 التدوین والکتابه عن التراث الأحوازي وثقافتها تعد مقاومة ثقافية ضد التفريس وطمس الهوية الأحوازية، ولها أهمية كبيرة لأن هذه المقاومة ليست إباء فحسب، بل هي جسر يربطنا بماضينا الثقافي والفكري، ومن خلالها نستطيع فهم تطور الفكر والمجتمع الأحوازيين عبر العصور والتعرف على القيم والتقاليد التي ساهمت في تشكيل هويتنا. هذه الكتابات تزودنا بالحكمة المنقولة في صدور الأجيال، وتتيح لنا الاعتبار بتجارب الأجداد في مختلف المجالات. قراءتنا لكتب التراث، تمكننا من الحفاظ على إرثنا الثقافي وتعزيز فهمنا للعالم. وهذا يساعدنا في بناء مستقبل قائم على أسس رصينة، تستند على إرث حضاري زودنا به التراث، لننطلق نحو مستقبل نصنع فيه نحن، في الزمن الراهن، عالمنا و رؤانا، لنراكم على هذا التراث ما فيه من عطاء. 

لا يمكن عد المهجوس بالتراث فردا منفصلا عن الواقع، بل إن الواقع هو من يمنح التراث معنى ومغزى. ولذلك الرجوع إلى التراث لا يعني أبدا الانفصال عن الواقع بل إعادة فهم التراث من منطلق الواقع. 

ونظرا للوضع الحضاري الأحوازي وما نُكِبَ به من احتلال، فإن استنطاق التراث سيعني قراءته بعيون عربية ثائرة يستقوى بها كل أحوازي من أجل كسر القيود، والعودة إلى الأصل العربي بوصفه المجال الوحيد الذي يضمن مستقبل الأحواز، وإخراج الشعب من انكفاءه الراهن إلى أفق المشاركة الإنسانية العربية في شتى المجالات الفنية والفلسفية والتاريخية. 

لا يمكن لكائن الاستغناء عن التراث لأنه سيعوم في بحر الاغتراب، وبحر التفريس المظلم، دون سند ودون ما يشد به عضده. ومن هنا تفرد التراث الأحوازي، لأنه ذو مفعول مزدوج: فهو إنتاج حضاري خلفه لنا أسلافنا من جهة، ومخزون تحرري يساعدنا على كسر قيد الاحتلال من جهة أخرى. 

 وفي الأخير أذكّر وأقول أن الكتابة ليست مسؤولية فردية، بل مشروع جماعي يشترك فيه الكاتب والناشر والقارئ والداعم، وإن غابت إحدى هذه الحلقات خسر المجتمع عاملا وجوديا كبيرا للغاية، فأحذر أن لا تكون أنت الحلقة الغائبة، أو الحلقة الأضعف في سلسلة المقاومة الثقافية الأحوازية.    

 رحيم حميد، كاتب وباحث في معهد الحوار للابحاث والدراسات

  

"الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لموقع معهد الحوار للأبحاث والدراسات"