احتفل القائمون على برنامج صدى الأفكار في سبتمبر الماضي (2025) بموسمه الرابع. وذلك في مدينة الأحواز وتحديدا في مقهى “بيت هوزاي” التراثي. الحفل حضره كوكبة من الفنانين والكتّاب والفاعلين الاجتماعيين والمؤثرين في الفضاء الافتراضي من النشطاء الأحوازيين، ولا سيما من كانت لهم سابقة حضور في برنامج صدى الأفكار كضيوف. القائمون على الاحتفال أرادوا له الخروج بأبهى الصور في جميع المستويات من تصميم وتصوير وتقديم وبث. وعليه وعد مقدّم البرنامج ضيوفه في بداية الحفل أنّهم سوف يعيشون ليلة من ليالي العمر الجميلة التي لاتنسى.
وأما البداية كانت مع الإعلامي والشاعر الأحوازي مهدي الناصري ومعه كادر محترف من الإعلاميين. فأرادوا لصدى الأفكار أن يتجاوز المستوى المألوف من العمل الإعلامي والثقافي الأحوازي ولاسيما في الفضاء الافتراضي. والواقع أنّ مثل هذه المحاولات الجادة والإصرار على تحدي الوضع والمستوى القائم هو من ضروريات تحقيق التقدم واجتياز العوائق نحو الأفضل. فظهر البرنامج منذ انطلاقه على هيئة سبق بها الكثير من أقرانه الأحوازيين. إذ أن تصوير حلقات البرنامج كانت في الأغلب تتم في استديوهات راقية وبكاميرات حديثة ولاقطات صوت ذات جودة. وباجتماع هذه الإمكانات عند الكوادر المجرّبة أتيحت الفرصة لظهور عمل ناجح لقي عند آلاف من الأحوازيين مباركة وكثيرا من التحسين.
والواقع أنّ خلال العقود الماضية كان العمل الثقافي في الأحواز ولا سميا المرئي منه متعثر للغاية. وذلك بفعل أسباب كثيرة منها أمنية وسياسية، وأخرى اجتماعية واقتصادية. ومن جملة العوائق الكثيرة نأتي هنا على ذكر افتقار الناشط والإعلامي الأحوازي للأدوات الحديثة من استوديوهات وكاميرات وأدوات ضبط الصوت الغالية الثمن وغيرها من أدوات العمل الاحترافي، وضف على ما سبق ضعف الخبرات لدى الفاعل الثقافي. هذه العوامل والعوائق باجتماعها أدت طوال العقود الماضية إلى ضعف في المستوى الثقافي والإعلامي بدرجة كبيرة. وحتى تلك الأعمال التي كانت تبدأ لامعة سرعان ما كان يلحقها الخفوت، ثم غالبا ما يؤول أمرها إلى الإيقاف تحت وطأة أصناف العوائق والضغوط. غير أن بحصول النشطاء الأحوازيين على بعض الخبرات التقنية و بعد تراكم تجاربهم شهدت الأحواز في السنوات الأخيرة ظهور مؤسسات ثقافية استطاعت الاستمرار والاحتفاظ بوتيرة نموها وتحسين عطائها، وذلك على الرغم من وعورة الطريق وتعدد المُعثِرات. ومن ضمن هذه المؤسسات الثقافية والفنية يمكن ذكر برنامج صدى الأفكار كعينة من المستوى الجديد في العمل الهوياتي والإعلامي الأحوازي.
بدأ برنامج صدى الأفكار من مدينة السوس وليس من المركز، أي مدينة الأحواز. وهذا بحد ذاته كان كسرا للنمط المعتاد خلال السنوات الأخيرة. وأمّا المبادر الأول كان مهدي الناصري، وهو من عائلة لها سابقة طويلة بالمقاومة الأحوازية وهي مازالت تدفع الثمن الغالي. وثم زوّد مهدي الناصري البرنامج بكادر محترف استطاع أن ينال من خلالهم مستوى النجاح، وذلك بدرجة جيّد جدا. بدأ مهدي الناصري البرنامج بإجراء لقاءات مع الفنانين والشعراء والفاعلين في مختلف الساحات الثقافية والاجتماعية والبيئية. وسرعان ما لاقت المبادرة الجديدة قبولا وانتشارا عند مخاطبها الأحوازي.
ومع مرور الزمان تطور برنامج صدى الأفكار. والجميل أن من بين الضيوف منهم من انضم إلى طاقم البرنامج. إذ وجدوا فيه منصة مؤثرة لإيصال رسالتهم المجتمعية. وبين هؤلاء النشطاء، عارف أبو نايف، وهو ناشط إعلامي من مدينة الفلاحية. والذي دشّن بحضوره برنامج “الأصالة” والتي جاءت بمثابة إضافة جديدة تُعنى بالجانب التراثي الأحوازي من نخيل وصقور وأزياء وإلخ. ثم بعد ذلك التحق بركب صدى الأفكار الكاتب والباحث في مجال التاريخ الأحوازي، حسين فرج الله (أبوعرفان). والذي بحضوره أضاف سلسلة “محطات”. وهي سلسلة لقاءات يحاور فيها الكُتّاب والباحثين وذوي الآراء الاجتماعية. وبرأيي إضافة أبو عرفان زادت صدى الأفكار جانبا فكريا ومعرفيا، وأدخلت البرنامج في فضاءات جديدة تنبؤ بنقلة من العمل الهوياتي المجرد إلى أعمال ذات أبعاد معرفية وبحثية.
و أما الاحتفال بالموسم الرابع جاء بعد كل ما مرّ ذكره من مستجدات ومحاولات لاجتياز مختلف العوائق، وبعد ما تراكم العمل وتنوعت ثماره، وبلغت تعداد حلقاته المسجلة والمنتشرة العشرات. فتمت دعوة كوكبة من الفنانين والكتّاب والإعلاميين والنشطاء البيئيين والعاملين في حقل العمل الخيري وكذلك ضيوف من العراق الشقيق. ثم وقع الاختيار على مهدي شعاع فاخر مقدما للحفل، وهو من بين أبرز الإعلاميين الأحوازيين، والذي بحضوره زاد لمسة أدبية رائعة على أجواء الحفل. ثم صدح في الحفل صوت الموسيقى الأحوازية بحناجر عباس السحاقي و موسى ثامر الزرقاني و ضاحي الأحوازي وسيد جميل عبودي وهم من نجوم الموسيقى الأحوازية. وأما من الشعراء ارتقى المنصة كل من الشاعر الكبير أبو أمجد الحيدري، والشاعر علي سمور، و الشاعر الشاب محمد عبد. استمر الحفل ساعة ونصف، حضر فيه من كل صنف من النشطاء الأحوازيين ممثلا ليبقى شاهدا للحاضر والمستقبل على ما نحن عليه اليوم من جهد للحفاظ على هويتنا، وعلى سعينا الدؤوب للانتقال المستمر من الجيد إلى الأجود ثم الأجود.
وللحفل الأخير ولبرنامج صدى الأفكار عموما أكثر من مأرب. وقد يكون من أهمها ترتيب واجهة جميلة ومتقنة من آخر الإنجازات الثقافية الأحوازية. و لمثل هذه الواجهات تأثير يفوق التوقع في خلق وزيادة ثقة المجتمعات بنفسها. وهو الذي يفسر الإنفاقات الخيالية للدول والمؤسسات على الإنتاجات الثقافية من أفلام ومهرجانات فنية وتدشين قنوات تلفزيونية وإلخ. ولهذا نقول أن برامج كصدى الأفكار بحسن عرضها للمنجز الثقافي الأحوازي تساهم بفاعلية كبيرة في ازدياد نسبة اعتزاز هؤلاء الناس بهويتهم العربية. كما أنها تمكّن الآخر القريب والبعيد من التعرف على الأحوازيين ثقافة وتاريخا وهوية وفلكلور. وكذلك يكتب لمثل هذه البرامج نجاجا كبيرا في عملية التوثيق وتبديل ما هو شفهي إلى ما هو مرئي و مسجل. وهذا هو من أجود أصناف التثبت في وجه آفة النسيان القاتلة، والتي غالبا ما تعتري الثقافة الشفهية وتهدد بضياع الإنجازات وتَحُول دون تحقيق التراكم الحضاري المرجو.
في السنوات الأخيرة سهّلت التكنولوجيا الحياة على الإنسان، ولم تكن أصناف العمل الفني والثقافي والإعلامي استثناء في هذا. وتعدى تأثير التقدم البشري ليسعف المقاومين في عملياتهم لتصدي رياح النسيان وردع محاولات الطمس. فبعد ما كنّا، نحن كأحوازيين، في حصار ثقافي مفروض باتت اليوم الفرصة متاحة أمامنا للانطلاق في فضاءات جديدة. وعليه بات بإمكان كل منّا أن يكون له دور في عملية إنقاذ الأحواز من تحت ركام النسيان. فإذا لم يسعك أن تكون من المنتجين والفاعلين، فكن من الداعمين والمشجعين، أو بأضعف الإيمان من المتابعين الملحّين والمتفاعلين. فنحن الذين صبرنا يوم كانت المقاومة بكل أصنافها في منتهى الصعوبة، لا يصح لنا أن نتخلى بعد ما أصبح الصمود الثقافي من الممكنات. عودوا أيها الأحوازيون وأختاروا مواقعكم بين فاعل وداعم ومشجع. فالعالم الرحب ينتظركم.
