الأحد, مايو 19, 2024
دراساتأنماط السلوك الأحوازي: بين الانفعال والتقليد

أنماط السلوك الأحوازي: بين الانفعال والتقليد

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

تمهيد

تعاني الحالة الأحوازية، بمختلف مظاهرها وجميع حقولها المعرفية، من انعدام أدبيات في مختلف الحقول، خاصة في حقل التاريخ وعلم الاجتماع والسياسة، يُستند عليها، ناهيك عن الإجماع عليها، يتحرى فيها الكاتب الذي يريد تناول موضوع ما عن الأحواز الصواب والرصانة في البحث، ويتجنب تكرار القول، ويأتي بقيمة مضافة من بحثه؛ ما جعل كل كتابة حول الأحواز ومختلف موضوعاتها حالة بديعة، تستطلب جهد مضن، ومخاطرة كبيرة، وربما مجازفة بحثية لا يدري الكاتب هل تستحق القراءة أم هي مجرد مأتيات ثقافية أتى بها الكاتب من وحي ثقافته.

ولذلك وفي ظل فقدان شبه تام لأدبيات الموضوع، أي موضوع سواء اجتماعي أو سياسي أو تاريخي، يظل الكاتب على مخافة وريب: هل ما يكتبه مبرر منهجيا وعلميا؟ أم هو يخرج من الصفة العلمية، ويندرج في سياق التحليل الصحفي الغالب عليه الكلام الانشائي؟ وهذا هو الحال في الدراسة هذه، وفي جميع الدراسات التي أتيت بها، كنت على ارتياب شديد حول المرجعيات الفكرية التي أسند بها البحث، أو الطريقة المنهجية التي رتبت على أساسها المواد.

وبعد ذلك الإقرار أعود هنا، وعلى ضوء ذلك الارتباك حول المرجعية الفكرية، ومبرر استخدامها وشرعية الحركة في نطاقها وميدانها، تقسيم الفعل الأحوازي الصادر من الأفراد، ومن ثم الجماعات، على أساس المرجعية الفكرية الفيبرية، وما تلقى هذه المرجعية الفكرية من أضواء على الحالة الأحوازية.

 

أنماط الفعل لدي ماكس فيبر

 أفاد العالم الاجتماعي الكبير ماكس فيبر، في كتابه الذائع الصيت الاقتصاد والمجتمع، بأن جميع الأفعال البشرية تصدر عن دافع يتمحور حول قضية المعنى: يقصد بذلك أن الفعل البشري لا يتم إلا إذا كان منبعثا عن العثور على معنى هو الذي يدفع فاعل ما للقيام بعمل ما. فهنا مبدأ النشاط الفردي البشري يستند على منطلق يتم في نطاقه التحصل على معاني الأفعال والإقدام، ولا يصدر عمل للفرد إلا إذا عثر على معنى يهبه الدافع اللازم، ويبرر فعله بمختلف المبررات[1]، كما سأبين مختلف المبررات الممكنة في الفقرات المتوالية هنا. يقول في الصحيفة الأولى من الاقتصاد والمجتمع: «إننا نقصد من العمل سلوكا إنسانيا، سواء كان فعلا خارجيا أو فعلا ذاتيا انسحابا أو تساهلا، يصدر في مكان ما وفي ظروف يسند إليه الفاعل أو الفاعلين معنى ذاتيا؛ مثلما نقصد بالفعل الاجتماعي ذلك السلوك الذي يرجع معناه المصاغ في رأي الفاعل أو الفاعلين إلى سلوك آخر يريد توجيه توسيعه.».

وإذا كان الفعل البشري الفردي ينطلق من هنا، من معنى ما، فإن ذلك يعني أن المعنى هو متكثر وهو معاني، ولذلك لا وجود لجوهر مسلف قبلي منه تنبثق الحقيقة التي لها معاني عديدة، بل إن المعنى هو بحد ذاته «حقيقة» لأنه تام لإتاحة دافع يبعث على العمل[2]. ويتبين عن ذلك أن المرجعية الفكرية الفيبرية لا تذعن لوجود حقائق مطلقة، وعليه فلا تقول بإمكانية إدراكها من انعدام الإدراك لها، بل كل الحقائق هي صنيعة الحياة الفردية ومستوى قناعة الفرد بما يبرره من منطلق للفعل.

وإذا كانت الأعمال والأفعال البشرية صادرة عن مبدأ العثور على معنى، والأعمال بما هي أعمال عديدة ولها مختلف التمظهرات، فيبدو من المبرر تماما وجود معاني مختلفة بناء عليها يختلف الفعل. أجل ذلك هو ما يقرره فيبر ويصرح بأن التمعن في الأفعال الفردية، يظهر وجود أنماط محددة من الأفعال المنبعثة من مصادر المعنى. ولذلك فهو من المفكرين الكبار الذين يذعنون بأن المعنى هو ذاتي، يدور في فهم الذي يصدر الفعل منه، ولا يعني المعنى الانتظام في سياق عقلاني أو أشكال فكرية محددة، بل يعني أولا وأخيرا منحه الدافع الذي يحفز الفرد من أجل القيام بعمل، ما كان ليصدر لو لا أخذ ذلك العمل دلالة على معنى محدد يتحدد في ذات الفرد وتفكيره[3].

وبناء على ذلك تنقسم الأفعال إلى اثنين: الأفعال اللاعقلانية، والأفعال العقلانية. ففي الفعل العقلاني تكون العقلانية بمعناها الدنيائي هي المائز بين النمط الغير عقلاني في التفكير. وهنا يبدع فيبر مفهوما محوريا في تفكيرة للميز بين النمطين من العقلانية المومأ إليهما، وهو التعقل أو إزاحة السحر عن العالم حسب الترجمة العربية غير المستساقة. ويعني هذا المفهوم أن الفيصل بين النمطين من العقلانية هو إزاحة الهالة المتعالية من الظواهر التي تحوط بني البشر، في بيئته ومألوفه، وإسناد المحدثات إلى تبيين ينبثق عن العقل الوضعي، لا عن المنظومات المسلفة الدينية أو السحر أو كل علاقة لا تقوم على أساس التعليل الإثباتي المنغمس مع التدليل الاجتماعي الإنساني[4]. ويتبين أن العقلانية هي ذلك التبيين الذي يبدع نطاما نسقيا يفسر المحدثات، ويهب المعنى للفعل البشري من داخل العقل البشري، ويكون منبثقا عما يحوط البشر من أدواة وقيم يؤمن بها، ويستطيع تماما العثور في معاني فيها يذعن لها، مفهومة لديه، إلى درجة تبعثه على العمل. ومن هنا يتضح أن العقلانية هي صنيعة البشر، قابلة للتغير، وتمتلك فائض في المعنى، ذلك المعنى الذي يحوطه الفرد، ويبرر فعله[5].

وعلى النقيض من ذلك تكون اللاعقلانية تشتمل على أنماط من الفعل خلوة عن الروية والتفكير والفهم، تنزل منزلة العادة أو الغريزة، تبعث على العمل بشكل تلقائي، ومنمط، تستحيل فيها ذوات الأفراد في نطاق عمل يصدر هكذا من دون تمعن بلْه التعقل، والإتيان بسياق ذا معنى وذا قواعد تستقبل الاختبار.

وأبرز ما تترب فيه الأفعال اللاعقلانية اثنين: الفعل الصادر عن العواطف والغرائز وهو عمل منفعل؛ والفعل الصادر عن التقليد والعادات وما أَلِفه الفرد في حياته اليومية. أما العقلانية فهي اثنين أيضا: الفعل الصادر عن العقلانية القيمية، وهو قيمي Wertrational، والفعل الصادر عن العقلانية الوَسَلية الأداتية، وهو Zweckrational.

وهنا لا بد من التذكير بنقطة منهجية يصرح بها فيبر بشكل قاطع لا لبس فيها: وهي أن هذه الأنماط من الفعل هي مجرد أمثلة مطلقة، يكاد العثور عليها بشكلها المطلق في ساحة الواقع معدوم، بل إن السائد في واقع الحياة هي اختلاط أنماط العمل بعضها ببعض، وامتزاجها بعناصر الأخرى منها.

وبعد كل ذلك لنأتي هنا ونستند على ما أتاحته لنا المرجعية الفكرية الفيبرية لنقسم الفعل الأحوازي، لنراه إلى أي الأنماط من الأفعال ينتمي، وعلى أي من العقلانية يستند.

 

الفعل الأحوازي بين الانفعال والمألوف

إني أسارع إلى القول هنا بأن معاينة الفعل الأحوازي، على المستوى الفردي، يظهر أن الغالب على الفرد الأحوازي صدور أفعاله في سياق الأفعال الغير عقلانية، حيث أن الأحوازي بكثير من أفعاله ونشاطه اليومي لا يعثر على المعنى الذي يبرر به فعله إلا من داخل أنماط في الفعل، كما حددها فيبر، تقترب من نمطها الغير عقلاني. وإذا استحضرنا نمطي الفعل الغير عقلاني، وهما الفعل المنبعث عن انفعال عاطفي غريزي، والفعل المنبثق عن العادات والتقاليد، حينها نستطيع شرح تطابق أكثري بين الفعل الأحوازي وهذه الأمثلة المطلقة.

  • الفعل الأحوازي القائم على الانفعال

إن أبرز ما يميز هذا النوع من «السلوكيات» هو أنها تدور في نطاق ردود الفعل، ردود فعل تصدر بتأثير من حالات مستحدثة وقفت أمام الفاعل فجعلته يرد عليها مباشرة من دون تأمل وتفكير ممعنين، بل إنه قام برد فعل سريع تجاه هذه الحالة المستحدثة عليه. وبناء على ذلك نرى أن هذه الأفعال تقترب كثيرا من القرايز وهي مبنية عليها أو تكاد. فإذا أردنا تقريب هذا المعنى، وكيفية صدور هذه الأفعال بناء على ذلك، قلنا حينها أن تلك الحالات التي تصدر عن الفرد يوميا، إنما هي من فرح أو غضب أو طلب مال وفير طمعا من الذات الطامعة، ونحو ذلك من الأفعال التي تصطبغ الحياة اليومية، وتنزل منزلة الجبلة.

وإذا كانت هذه الأفعال تنحصر في الحيز الفردي الضيق، فإن فيبر يؤكد أن المجتمع والحالات الاجتماعية فهي ليست سوى حصيلة اجتماع هذه الأفعال الصادرة عن الأفراد المجتمعين، ولذلك فإذا كانت حالت ردود الفعل خاصة بفعل بشري وحيد، فإن تكرارها من قبل جمهرة من الناس يسكنون حيزا جغرافيا قريبا سيعني تحولها مباشرة إلى ظاهرة جماعية، يشترك فيها الكثير من الأفراد[6].

وهنا من دون الإكثار من سرد الظواهر الجمعية، القائمة على الحالات الفردية (التي يُكثر منها فيبر في كتاباته ويسرد حالات عديدة منها في مختلف المجتمعات خاصة المجتمعات الأوروبية)، في المجتمع الأحوازي، التي تندرج في سياق الفعل العاطفي المنفعل حصرنا أهمها في ثلاث:

ألف) العنف:

إن العنف، بناء على ما يمنحه لنا الفعل العاطفي المنفعل، هو حالة يقوم بها الفرد برد فعل جسماني على طارئ يحدث له: فعلى سبيل المثال تقوم الأم بصفع ابنها إذا ما حرق السجاد. ويتبين من هذا المثال أن قيام الأم بصفع الإبن المخطئ هو تعبير عن حالة غصب جامح لِما رأته توا من حرق سجاد البيت الذي قد يكلف ثمنه؛ وهو سلوك ليس بوحيد لتأديب الطفل ومنعه من القيام بعمل مماثل، حيث كان ممكنا أن تقوم الأم بتفهيم الطفل ضرورة الحفاظ على أثاث البيت والكف عن الحاق الخسارة بها لأن ذلك سينعكس على التغذية سوء نتيجة كسر جانب من دخل البيت إلى التعويض عن السجاد الذي حرقه، وكذلك انعدام إمكانية شراء ألعاب للطفل إثر تخصيص عوائد البيت لحادث كان يمكن تفاديه.

إن هذا المثال اليسير يعكس الأفعال الأحوازية التي تتعامل مع المحدثات بنوع من العنف الناتج عن غضب، ومن ثم الدائرة في نطاق العمل المنفعل، إذا عممناه بسهولة. ففي الحالة الأحوازية تصدر الكثير من الأفعال على هذا الأساس، وهي تأتي بخسائر وأضرار فادحة، كان يمكن تجنبها بكل يُسْر: لقد أشارت المعاينات اليومية إلى أن أسباب الكثير من النزاعات القبلية السائدة في الأحواز، اليومية الحدوث، تعود إلى ردود أفعال عنيفة غاضبة: إما لصدام بين السيارات في الحياة اليومية، أو لتزاحم طفيف في طابور، أو حالات مماثلة كثيرة. وردود الفعل هذه تثبت بما لا لبس فيه بأنها لم تكن صادرة عن مثال للفعل والإقدام سوى ذلك المنفعل.

أما إذا خرجنا من الحالات الفردية الطابع والمآل، ونظرنا إلى الفعل الأحوازي لاستيفاء الحق القومي، عثرنا حينها، كرة أخرى، على حالات مماثلة يصطبغ بها الانفعال على حالة كان لها أن تكون عقلانية لا غير عقلانية: إن نضال الشعب الأحوازي في الداخل يعاني من نمط فعل يصطبغه الطابع الفردي من جهة، والطابع المنفعل من جهة أخرى: فالكثير من الممارسات النضالية، في حي نظير حي الملاشية في الأحواز العاصمة، هو نتيجة ثورة غضب من الشبان المنضالين الصادقين الذين أبوا الضيم النازل بهم من سلطات الاحتلال الإيراني، لكنهم بالرغم من إبائهم وعلو همهم وصادق معتقدهم وعظيم تضحياتهم إلخ، آلوا إلا التحرك في نطاق ردود الفعل، وهكذا قاموا بتفيذ عمليات شبه استشهادية قتلوا فيها شرطيا أو فجروا أنبوب نفط إلخ، سرعان ما عاد عليهم مآله فتم قتلهم من السلطات الأمنية. والحال أن الفعل العقلاني لا يسمح لمن يحمله بالقيام بمثل هذه التضحيات، بل إن ذلك الفعل يتقن العمل استخباريا أولا ثم يعود بتنفيذ أوجع واستمرار أطول.

وصحيح أنني هنا أكثرت من الأمثال في الحالة الأحوازية، بيد أن ذلك الإكثار من الأمثال مبرر تماما، فهو من جهة يشرح تمظهرات الفعل العاطفي وكيفية مآلها، ومن جهة أخرى يعني أننا لا نسلم هنا في هذه الدراسة، بالقول التجريدي من أجل إثبات علمية البحث وقوة منهجيته.

ب) التفكير القصير الأمد:

ومن باقي الأمثلة التي يظهر فيها الفعل الأحوازي الفردي، ومن ثم الاجتماعي وفق التسلسل الفيبري، منفعلا هو هيمنة التفكير القصير الأمد. وإذا كنا أكثرنا من الأمثلة في الفقرة السابقة، فهنا سنصر على القول العام من أن التفكير القصير الأمد هذا يتجلى في مختلف النشاط الأحوازي فرديا واجتماعيا. ففي الجانب الاقتصادي مثلا: يكون العمل الاقتصادي المحبذ للأحوازي هو ذلك العمل الذي يدر بالأرباح الكثيرة بأوحي الفترات، مما تسبب بإبتعاد شريحة من المجتمع الأحوازي عن العمل الاقتصادي الاستثماري، وسلوك أنماط اقتصادية هدامة نظير بيع المخدرات والاحتيال في المعاملات اليومية في الأسواق ونحو ذلك. أما سياسيا وعن المنظمات الأحوازية، التي تناولنا عملها في دراسة سابقة وبمرجعية فكرية مغايرة عن هذه التي فيها يدور حديثنا، فهي الأخرى تعاني من العمل المنفعل: فهي لم تستطع استجماع كوادر في الداخل لها، ولم تتمكن من بناء جسور يصلها بالمجتمع الأحوازي آحادا وجماعات، لأنها صاحبة فعل قصير الأمد منفعل لا يمتلك تخطيطا طويل الأمد. ويتجلى اجتماعيا هذا القصر في التفكير في فشل الأحواز من بناء بنيات حديثة، حيث ظل على بنياته القديمة البالية، وظل الأحوازي ثنائي الهوية إما قبلي أو ديني، ولم يتبني هوية ثالثة قومية عربية، اللهم إلا ما كان من بعض المناضلين. وأما نخبويا فتجدر الإشارة الممضة إلى حالة بين الكتاب الأحوازيين أصحاب الفعل العاطفي تجعلهم يجنحون نحو كتابة الكتب ليس إرضاء لفضول علمي، أو خدمة لقضية ما إلخ، بل كل باعثهم يصدر عن حب الظهور: وهو حالة غريزية يريد الفرد فيها انتزاع الاعتراف من الآخرين بمثابته وأهميته.

ج) الفزعة:

ولعل الفزعة هذه هي مشتقة عن قصر النظر والتفكير: فهنا تعني الفزعة حركة انفعالية سريعة يقوم الفرد فيها برد فعل هائج غير محسوب لا يدري هو ذاته كيفية صدوره عنه. فهنا نحن أمام حالة من الثورة، ثورة بركان طبيعي، يأتي بها الفرد حينما يرى جانبا من حياته ومصالحه قد مُست: ولعل ما جعلنا نميز بين الفزعة وبين العنف، هو ان الفزعة سلوك قد يشتمل على عنف وقد لا يشتمل، إنما مائزه هو سرعة صدوره، هو ردفعل من دون تفكير، قد يعني خروجا من فريق، أو عنادا على موقف، أو ما شاكل ذلك. فكم من العلاقات الزوجية، ومرة أخرى أوغل هنا مجتمعيا في الأمثلة اليسيرة جدا، أجل كم من علاقات زوجية بين الأحوازيين فشلت نتيجة إصرار أحد الطرفين على موقف غير مبرر من أجل إخضاع الآخر بدافع إثبات قوة العزيمة، قوبلت بعناد مماثل وانتهت بمآسي على حياة الأسرة وأبنائها؟ إنها فزعة غريزية قولبت موقفا وبلورته من دون روية، ثم جعلت الإصرار عليه مبررا بدافع الثبات.

إن أكثر من تتميز به السلوكيات المنبثقة عن الفزعة هو الغلو في التسليم لسرعة الفعل، حتى يصبح الفعل هنا ردفعل غير محدد، لا يتناسب في الكثير من الحالات مع باعث الرد الفعل ذاته، كأنه حالة من الانفلات الحيواني (أقصد ما اتصل من البشر بالحيوانية الطبيعية لجسمه) تجعل دافع الفعل تضارب جواني قج تؤثر عليه حالات مادية جسمانية أكثر من سلوكيات بشرية الطابع والحركة.

 

  • صفات الفعل التقليدي

يعني فيبر بالفعل التقليدي ذلك الفعل الذي يتقوم على أساس العادات، ويصدر نتيجة التكرار والمألوف، وهو فعل يكاد يكون محاكاة لأفعال تصدر في الحالات المشابهة على يد أفراد يتموضعون في موضع مماثل، من دون خروج عن هذا المعتاد من النشاط الذي حُددت له أفعال تناسبه تكون بمثابة إجابة عليه أو تجاوبا أو تعاطيا. فهنا مرة أخرى نحن أمام أفعال لا تشتمل على تعقل، بالمعنى الذي شرحه فيبر للتعقل وذكرته مختصرا أعلاه، بل يبدو البشر في مثل هاته الحالات خزان يحفظ الأفعال التي تصدر تجاه حالات تكررت في تاريخ قراباته أو تاريخ حياته هو؛ فإذا صادف حالة مبدعة لا تشبه ما يخزنه من أفعال تتناسب معها، قام على الفور بقياس الغائب على الشاهد وعاد بالمحدثات إلى ما يناسبها من أفعال تتوفر لديه. يقول: «إن السلوك التقليدي التام… يقترب جدا من حدود ما يمكن تسميته بكل جراءة الفعل المشتمل على المعنى…. وهذا السلوك هو، في الأعم، عبارة عن رد شبه تلقائي على محرك عادي هو ما يوجه الفعل إلى أنماط متكررة. وتعود الكثير من الأفعال اليومية للناس، التي ألفوها، إلى هذا النوع من الفعل».

ويتبين عن ذلك أن السلوك التقليدي أكثر ما يظهر في تلك العادات المتوارثة التي نشهدها في كل مجتمع، وهي عادات تتمظهر في طريقة الملبوس وطريقة الزواج والطقوس المتبعة فيها، وطرائق تحضير المأكول، وطرائق الصيانة أمام الشر عبر المعوذات، وما في معنى ذلك. فهنا العادات والسنن هي من يحدد الفعل، وهي من يحدد الحياة والأسلوب الأمثل لها، والكيفية التي يجب أن يكون عليها الفرد، من أجل قبوله من قبل الجماعة التي تعتاد نفس العادات والسنن. وهنا يقرر فيبر أن القضية التي يضعها موضع الغور بخصوص السنن وفاعليتها، لا تتعلق بمدى عقلانيتها، ولا بمدى نجاعتها حتى، بل كل ما يريد التوكيد عليه هو أن هذه العادات، أية كانت، فهي التي تهب المعنى لذلك الفرد الذي يأتي بها، وهي في رأيه مفهومة، وتملي له المعنا الذي يجده مستساقا لديه وقابلا للتمثل.

وبعد ذلك يمكننا الان وضع أهم التمظهرات التي تدل على تراوح الفعل الأحوازي بين النمط الأول وهو النمط المنفعل، والنمط الآخر هذا وهو النمط الذي تصدر الأفعال فيه بناء على العادات والتقليد. وهنا أيضا سنتجنب الإسهاب، فنذكر أهم ثلاث تمظهرات للفعل القائم على العادت، كما فعلنا في الفقرة السابقة.

ألف) الإيمان بالخوارق:

وهو إيمان يتجلى فيه الفعل التقليدي بأشد صوره، فالغالب على الفرد الأحوازي الذي يصدر من الفعل التقليدي هو إيمانه بالخوارق وعدم إيلاء أهمية للسببية أو جهل مطبق بها. فإذا أردا المرء هنا الحصول على رزق وفير مثلا، أو إذا أرادت إحدى النساء الاتي لا تقوى على الفعل المباشر تدمير البيت الذي يبغضها أو ضمان محبة زوجها لها، أقدموا كلهم مباشرة على تسديد أموال طائلة «لكشاف أو ساحر» ومنه ارتجوا البُغْية. ولعل هذا الإيمان بالخوارق هو أشد صور الفعل التقليدي، مثلما قلت، لأنه في حالات كثيرة يأتي في تعارض تام مع الدين الإسلامي، حيث يتطلب التجاوز على بعض الآيات القرآنية أو الإتيان بفواحش ونحوها، من أجل إتمام طقوس السحر وإمضائها. وهذا بالتحديد هو ما يفصل هذا الفعل عن الاقتراب إلى- أو الالتباس مع- الفعل المنبثق عن الإيمان بالقيم.

ولعل الجانب المجتمعي الأحوازي الأكثر خطورة على ما يترتب على الإيمان بالخوارق هو تلك الحالة التي يثبت فيها قيام أحد ما بسحر أحد آخر. فهنا تندلع زوبعة كبيرة لا تنحصر في القيام بعمل مماثل وسحر مضاد، بل غالبا ما تتجاوز القضية هذا النطاق، وتصل إلى نزاع كبير بين الساحر والمسحور، ليس من أحوازي إلا له علم بها أو قد شهدها في أقاربه و جيرانه. ولا يمكن عد هذا الإيمان بالمعجزات واختراق قواعد الطبيعة من الأمور القابلة للاختبار، ممن دل على صحتها نجاحها مخبريا، ولايمكن تقديرها من الأمور التي يمكن الاطلاع عليها والتأكد من صحتها وطريقة عملها وسريان مفعولها، كلا إن ذلك الإيمان إنما ينبع من عادات وُرثت كانت تصرح بمقدرة السحر وإمكانية التحكم بقوانين الطبيعة من خلال الخوارق والشعوذة. وليس يجب التصريح بأن مثل هذا الإيمان هو سمة المجتمعات البدائية جدا، تلك المجتمعات التي تعود إلى قرون طاعنة في القدم: لكن بالرغم من تسليم الكل بهذا الأمر، بيد أن الفرد الأحوازي التقليدي ما زال يؤمن بها، فكم من سفرة عُطلت من أجل عطسة خرجت من فيه أحد أفراد الأسرة، وكم من مال أُرتقب بعد أن حدثت حكة في الكف، وكم من قلوب حزنت بعد رف جفن عين إلخ.

إن الفعل الصادر على أساس سنن متوارثة هو الأرضية الخصبة لتوالد مثل هذه المظاهر السلوكية، والنفسيات المعطوبة، ولم تكتسب هذه الإيمانيات تواجدها واستمرارها إلى من خلال عادات متوارثة، انتقلت عن جيل لجيل، من دون تعقل، ولا اختبار نجاعتها في الحياة اليومية التقليدية أصلا، بل ظلت على قوة شرعيتها وسابق تنفيذها من دون أية تأثيرات أثبتت لها.

ولعل الحالة هذه من الاعتياد على المألوف في المجتمع الأحوازي تظهر كثيرا لدى بعض المثقفين الذين بالرغم من دعواهم الفن والثقافة والقومية إلخ، من مظاهر الفعل المنبثق عن العقلانية بشقيها الأداتي والقيمي، تراهم في لحظة من التصرف العفوي يتشبثون بعادات دينية، فيمتدحون الرموز الدينية، ويتعصبون للمذهب دونما إيمان بفروعه أو أصوله، ودونما أي قيام بحكامه والحد بحدوده، بل يظل هذا الفعل صادرا عن مألوف ديني وروثوه على حالة الوراثة للمعتاد من التصرفات، يظهر كلما أتى باعث على ظهوره وتبلوره. ففي هذه الحالة ترى الفنان الأحوازي، على سبيل المثال وهو فنان معروف، يقوم بالغنى في أيام العام الوحد، ثم في حلول شهر محرم يقوم بترديد الشعائر الحسينية، دونما شعور بأي تضارب بين الفن وبين هذه التصرفات الدينية التي قوامه الغرائز والعادات، وليس العقل القيمي وفق التقسيم الفيبري، لنقصانها الباعث على التضحيات والالتزام بحدودها.

ب) رفض الحديث:

والجديد، ولعله من النافل هنا، وعند القول عن الفعل القائم على العادات والمألوف المعتاد، التصريح بأن الفعل المنبثق عن العادات المتوارثة لا يتيح مجالا من أجل تقبل الحديث، فضلا عن تبنينه أو العمل بمقتضاه. والأمر الحديث هنا هو في معناه الأعم، فهو يشتمل على جميع الأمور الحديثة التي تكتسب معنى حداثتها من أنها لا تماثل المألوف. فلا يعني رفض الحديث رفض القيم الحديثة فحسب، بل هو يعني أيضا رفض الفرد الحديث الذي لم يتم التعرف عليه عبر آلية التكرار والتوارث، ومن هنا ينظر له كخطر يجب الحذر منه، إذا ليس ممكنا إزحته من الوجود. على أن آلية الرفض هذه، رفض الحدث، فهو تتحول إلى مكانيسم يتقولب من خلاله الفعل التقليدي، فيتحول هذا إلى رفض الآخر، وطرده من دائرة الأنا والذهاب به إلى دائرة الغير.

وعلى العكس من عجز الإيمان بالخوارق فإن مكانزم الرفض هذا، أثبت جدارة في الحياة الفردية، أو الجماعة المكونة من أفراد متشابهين، لأنه حافظ على وحدتهم، وأبقى عزة شكيمتهم، وأكسبهم قوة مادية ومعنوية. وهنا بالتحديد، وفي هذا الجانب يتقرب هذا الفعل الصادر من العادات إلى فعل عقلاني، من نوع العقلانية الأداتية، لأن المنافع التي استجلبها للفرد جعلته محل تمسكه والذود عن حياته. ولكن مهما يكن من هذا الاقتراب الشكلاني، يظل هذا الفعل لا ينطلق من المصالح ولا القيم، كما هو الحال بالفعل العقلاني، إنما مصدره هو الموروث من السنن التي تناهض الحديث والجديد.

وإذا ما أردنا هنا الاتيان بمثال أقرب إلى العيان عن طريقة الفعل القائم على السنن في ميدان الاقتصاد في الأحواز، أي ذلك الميدان الذي يجب أن تتوفر فيه أقصى تمظهرات الفعل العقلاني الأداتي، وجدنا الاقتصاد الأحوازي القائم على الزراعة مثلا، لا يسلك مناهج وطرائق جديدة في الري والحرث أو التسويق إلخ، بل ظل المزارع الأحوازي يتفلح في حقله على الطريقة ذاتها التي اعتادها عن أبيه وأبيه عن جده، في تناس ورفض تامين للأساليب الحديثة، وعدم اكتراث بها، وإن على حساب التضرر بالمحاصيل.

 وإذ يتغذى العمل المتوارث على رفض الحديث، كما بينت الفقرة السابقة، فإن مقابل هذا الرفض هناك استماتة مُهيبة في سبيل العادت والسنن وإنزالها منزلة المقدس. فإذا كانت العادات تقضي باختيار الزوج من جانب الأسرة، فذلك يتجلى في عيون أصحاب الفعل التقليدي هو المثال الأنسب للعلاقة الزوجية، ويجب أن يتقيد اختيار الزوج في هذا القيد. ومن هنا تبدو تلك العلاقات الخارجة عن هذا الإطار مرذولة تستحق العقوبة قد تكون قتل الشرف للنساء (وتجدر الإشارة إلى أن البعض يرى أن هذه الحالة في الأحواز هي حالة نادرة، أو هي في طور الاندثار) أو غرامات مادية كبيرة على الرجال.

ج) الأبوية: ولعلنا إذا استحضرنا التقاليد والعادات العربية في الأحواز يسارع إلى الأذهان ذلك التفوق الذي لا غبار عليه للرجال على النساء. فجميع الأفعال الصادرة عن العادات هي لصالح الرجل، والرجل ليس هو صاحب الفعل التقليدي أو المنفعل فحسب، بل إن المعنى منه يأتي وعما لديه يشتق.  وبناء على هذه العادات الأبوية تحتل المرأة مكانة دنيا، وهي تابعة للرجل ومنقادة له في أنماط أفعاله وسلوكه. على أننا يجب أن نتذكر هنا أن الفعل الصادر عن المرأة، في الحالة الأحوازية، فهو إلى حالة الفعل العاطفي أقرب، لما لها من دور ضعيف جعلها تستند على العاطفة أكثر من استنادها على تقليد أو عادات متوارثة لا تستطيع التقيد بها إلا في نطاق بيتها، لأن حضورها العام متضايق أو منعدم.

ولكن هذا الدور المتضايق يبدو فسحيا عندما تتحول المرأة وعاء، هو من ينقل العادات المتوارثة إلى الأبناء عبر تربيتهم وتأديبهم، حتى تصبح هنا هي من يلقن الأطفال طرائق السلوك التقليدي، والعادات الحسنة أو السيئة التي يجب أن يظهرها الطفل أمام وقائع تواجهه في حياته اليومية، أو عند تعامله مع الآخرين. ففي هذا الصعيد تبدو المرأة والرجل سيان في أصدار الفعل القائم على المألوف من العادات، وليس من فرق بينهما. فهما معا لا يرون أية نقصان في العلاقة القائمة بين النساء والرجال، بل لعل المرأة ترى تقزيم دورها وانحساره على أمور التأديب والبيت، ناموسا طبيعيا، لا تنافر بينه وبين حقها واختيارها. فلا شيء في الحياة القائمة على العادات المألوقة يبعث على التساؤول، ولا شيء يجعل العلاقات القائمة بين الأفراد محل رفض، لأنها موروثة وقدسية أزلية، من جهة، ولأن الأمور المستحدثة هي بدعة يجب التجنب منها، لأنها تريد النيل من ذلك العالم الذي اعتاده البشر وأمنه، وجعله القالب الذي يعيد انتاجها البشر معا.

ومن هذه النقطة بالتحديد، من تفضيل العالم المعتاد، والعادات المألوفة، على الجديد والمستحدث، تأتي الخشية من تدمير العالم القديم، لأنه سيأتي بتعات جسيمة على هؤلاء الأفراد قد تجعلهم ضحية لكثير من الأفكار العقلانية بشقيها، وتصنع منهم محركا للعنف المنفلت. وتبعات هذا الخروج من المألوف إلى الجديد الغريب تناوله المفكر برينكتون مور في كتابه جذور الاستبداد والدكتاتورية، فسر فيها بروز الفاشية في ألمانيا كنتيجة لهدم المألوف، والإتيان بهؤلاء الأفراد التقليدين إلى عالم جديد شرذم تماسك شخصيتهم فجعلهم أدوات بيد الفاشية. ولعلي ختمت الدراسة هذه، بهذه الفقرة لأني أردت التوكيد في الأخير على هذه التصنيفات الفيبرية التي استدعيتها من أجل تحديد الفعل الأحوازي ليست من صنف الأحكام القيمة التي تطلق على الأفراد والجماعات، وليس انتقاصا منهم أو قدحا بطرائق عيشهم.. كلا إنها دراسة أتت بأمثلة مطلقة فيبرية لتستبين بعض الجوانب الخاصة بالفعل الأحوازي فحسب.

 

الإستنتاج

  تحركت هذه الدراسة التي استندت فيها على المرجعية الفكرية الفيبرية في نطاق جانب من آرائه الموعوبة التي صنف فيها فيبر أنماط الفعل البشري، فقال بوجود اثنين عامة، تشتمل على اثنين خاصة في جوف كل منهما: الفعل العقلاني: بنسخيته العقلانية الأداتية والعقلانية القمية، ورأيت أنها منعدمة في الأحواز أو أن وجودها منحصر بين فئات قليلة، قد يكون تناولها موضوع درسة أخرى؛ والفعل الغيرعقلاني: بنسختيه المنفعل والتقليدي.

وهكذا ظهر أن أبرز تجليات الفعل الأحوازي المتقولب في الفعل المنفعل العاطفي هي: العنف، والتفكير القصير الأمد، والفزعة. بينما الفعل التقليدي أكثر ما يتمظهر فيه فهو في: الإيمان بالخوارق، ورفض الحديث والجديد، والأبوية.

وفي طيات هذه الدراسة ظهر أن هذه الأنماط من الفعل ليست مطلقة، أي لا يوجد فعل قائم على الغريزة بشكل تام ومطلق، بل قد يتراوح هذا الفعل بين الغريزة والتقليد وربما التعقل، بيد أنه بالرغم من ذلك التراوح تظل السمة البارزة فيه هي الانفعال. وهكذا الأمر مع باقي أنماط الفعل فهي ليست على الإطلاق أحادية الباعث والدوافع، بل إن التراوح المشار إليه هو ما يُرصد في جميعها، لكن الذي يبقيها على تصنيف واحد هو غلبة صفة من صفاتها تجعلها تنتمي إلى نمط أكثر من انتماءها إلى آخر.

 

 

وائل محمد

 

 

المصادر

 

[1] . Michael h. Lessnoff, Political Philosophers of the Twentieth Century.

[2] .Max Weber,  The Methodology of the Social Sciences.

[3]. George Rizer, Contemporary sociological theory and its classical roots.

[4] . لا يسوق هنا، في هذا المقام، التطرق إلى المعارك المعرفية المنهجية التي خيضت في القرن التاسع عشر في ألمانيا بين التفكير الذي يقول بتمايز المعرفة في العلوم الروحية، حسب عبارة ديلتاي، والعلوم الإثباتية الطبيعية؛ ولكن يجب العلم بأن السياق الذي نشأت فيه أفكار فيبر مندرجا في أبعد الحدود في نطاق هذه المناقشات الفلسلفية الماتعة.

[5] . ژولین فرند، جامعه شناسی ماکس وبر، عبدالحسین نیک گهر.

[6] . ریمون بودن، مطالعاتی در آثار جامعه شناسان کلاسیک، ترجمه باقر پرهام، 2 جلد.

1 COMMENT

Comments are closed.



error: Content is protected !!