الخميس, مايو 9, 2024
دراساتالماء والأرض والهوية: ثالوث الشعار الثوري الأحوازي

الماء والأرض والهوية: ثالوث الشعار الثوري الأحوازي

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

 1

الشعارات الثورية وأهميتها: انعكاس الواقع وتحديد التطلعات

 

يعد الشعار الذي يتبلور في كل خروج أو احتجاج أو ثورة، عبارة مركزة فيها فائض معنى، يعبر تعبيرا أُقْصَويا عن واقع المنتفضين أو الثائرين أو عن هدفهم أو رؤواهم، تتناقلها الأشفاه، وتنتشر بين أكبر عدد من الناس. ويجب أن يوجه الشعار برسالة يسيرة وواضحة، وهو في الواقع تعبير قصير عن الوضع القائم، وموجز عن الأهداف. ولا بد على الشعارات، على المستوى الشكلاني، أن تتمتع بجاذبية، وصفات حسنة، منتقية كلمات بعناية، لها وقع ورنين.

 وتحتل الكلمات في الشعارات محل القلب، حيث يتكفل نوع الكلمات بمهمة الوصول إلى غالبية الجمهور. وإلى جانب الشكل، فمن حيث المضمون يجب أن يؤثر الشعار على أفكار الناس، ويقترب من طريقة تفكيرهم ورؤيتهم وعملهم: سواء بحيال النضال وأهدافه، أو طرقه وأساليبه. ولا نبالغ إن صرحنا بأن شعار المحتجين هو عبارة عن صرخة ضديد التمييز واللامساواة، ونداء للحرب ضد الطغيان و الاستبداد.

 أما بالنسبة للشعوب التي تخوض نضالا من أجل التحرير، نظير الشعب الأحوازي، فإن الشعار يجب أن يوقظ فيهم الوعي بالقومية، ويشجع الناس على تقديم التضحيات. ولا شك أن نجاح الشعار يتبين من نافذيته بين الناس، والتحول إلى شعار قومي، ورمز وطني يجمع الشعب عليه. وبناء على ذلك، فإن اختيار الشعارات المناسبة في الحركة السياسية والاجتماعية للشعب الأحوازي، هو أحد أهم واجبات القادة الأحوازيين التقدميين والقوميين. ومن هنا فعلى الشعارات الأحوازية التمركز على الحالة الأحوازية، وإيضاح مطالبها وأهدافها، بوضوح ودقة.

وبناء على ما جاء من ضرورة تمخض الشعارات عن الحياة الأحوازية، فإن ذلك يعني أن أي شعار أحوازي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار معاناة الشعب الأحوازي، في مختلف مناحي حياته، سواء تعلق الأمر بالأزمات الهووية التي تعصف به، أو بالفقر والحرمان الناتج عن تخريب الأرض/الوطن وما عليها، أو تدمير البيئة ومصادرة المياه، أو التمييز الممنهج ضديده و المستوى المتدني من التعليم، ونحو ذلك كثير. وقد جعل هذا الحجم المتراكم من المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي لا حصر لها، جعل أولى مطالب الشعب القضاء على الاضطهاد الهووي، والبؤس المتزايد جراء تدمير الأرض موطن العيش والاقتصاد، وتجفيفها بمصاردة مياها المتدفقة، وتحقيق الرخاء والحرية والأمن. وتتلخص كل تلك بالمطالبة بالعروبة، بكلام موجز، لأنها الوعاء الجامع الذي يشتمل على الحرية، والإخاء والعدالة، والحياة الكريمة بجميع جوانبها.

 وهكذا يتبين أن أولى أسباب نجاح الشعارات والهتافات التي يجب أن تعتلي في كل خروج وثورة أحوازية، هو مدى التحامها بهذا الواقع المرير، فكلما كان الشعار تعبيرا شاملا عن واقع الأحواز، اجتذب الناس جميعا إليه، خاصة عندما يرون تحقيق مصالحهم الاقتصادية والرفاهية والمعنوية منه. ولذلك يجب أن يساير الحراك الأحوازي اختيار الشعارات القادرة على التعبير عن المطالب السياسية والاقتصادية والديمقراطية لجميع أفراد المجتمع. ومن واجب القوى الفكرية، من رجال ونساء وعمال وشباب، خلق شعارات تتضمن مطالب الجميع.

ولكن بالرغم من أهمية الشعارات وضرورة استمالتها أكبر قدر من فئات الشعب، فإن المشاهد، بين الحين والآخر، اطلاق بعض الشعارات الجوفاء، والهتافات السلبية الفارغة عن الموضوعية. فعلى سبيل المثال هناك شعارات تنال، بوعي منها أو من دون وعي، من مكانة المرأة الأحوازية، وتذهل عن أهميتها في الحراك النضالي: «الما يطلع يلبس شيلة» شعار يُرفع كثيرا في الاحتجاجات والانتفاضات وهو ينتقص، بما لا غبار عليه، من قدر المرأة الأحوازية التي شاركت في مكافحة المحتل من دون شك…! على أن التركيز هنا على مثل هذه الشعارات يقصد، بالدرجة الأولى، كسر فكرة الدونيّة والاستخفاف بقوة المرأة الأحوازية التي كانت وما تزال المناضلة والمقاومة للاحتلال، وركن الحراك الأحوازي منذ البدء. إن الحري على الشعارات القومية الأحوازية التعامل مع المرأة بوصفها رمز الوطن/الأرض والهوية. ومن المؤسف حدوث هذا التقليل، أو بالأحرى التحقير، لمكانة المرأة الأحوازية بينما كانت مثلها مثل الرجل ومثل أي عربي أحوازي، قد عانت من التهميش السياسي ومن سلب الحقوق القومية، وغياب الحريّات الفكرية والسياسية. وربما يكون وضع المرأة أصعب وأشد في نظام سلطوي أبوي إسلاموي. ولكن بالرغم من كل ذلك التقزيم فقد تحدت المرأة الأحوازية أنظمة السلطة الفارسية وخرجت في الشوارع، بين الرصاص والموت، ثائرة تندّد بالطغيان والاستبداد.

وإذا كان من الواجب على الشعارات أن تكون موجزة معبرة، على مستوى البيان والمضمون، كما بينت ذلك أعلاه، فإنها من جهة أخرى يجب أن تواكب مراحل الاحتجاج والانتفاضات مواكبة حثيثة: ففي كل فترة من الانتفاضة يجب أن يصك شعارها الخاص بها: وهنا نأخذ المظاهرات العراقية في تشرين مثالا لتقريب ما نقصده إلى الأذهان:

 أبدع ثوار تشرين في العراق شعارات كثيرة كانت تعبيرا صريحا عن مراحل انتفاضتهم: فانطلق شعارها الأول: «نازل آخذ حقي»، شعار في حقيقته لم ينشد الإطاحة بالسلطة، بل كان يؤكد على الخدمات الواجب على الحكومة تقديمها، من كهرباء وتعيينات وماء وخدمات بلدية وغيرها. ولكن مع امتداد عمر الثورة نمت لغة الثوار وتطورت بما يرفض تعنت السلطة ويعكس إصرار الثوار على انتزاع الحقوق: فظهر هكذا شعار «نريد وطن»، وأصبح شعارا يردده كل العراقيين. وتمكّن الشعار هذا من الانتشار الواسع في منصات التواصل الاجتماعي، ووكالات الأنباء المحلية والعربية والعالمية. على أن الملفت في بلورة هذا الشعار هو أنه جاء بالتحديد بعد تعرض الثوار للعنف والقتل والخطف الذي مارسته السلطات العراقية، فساهم في التحام قوى الثورة، وأشاع المشاعر الوطنية فيهم، وحفز الإيمان بالهوية الوطنية، وضرورة نبذ الطائفية.

وهنا يتبين جليا أن طبيعة الشعارات كانت تستجيب لمعطيات تطور الثورة التي تصاعدت حدتها انطلاقا من شعارها الأول «نازل آخذ حقي» إلى «نريد وطن»، وصولا إلى شعار«نموت واحد نموت ميه نبقى للموت نفس القضية»، وشعارات أخري نظیر «حرر قيودك يا وطن» و«العراق ينتفض».

وبالنسبة للقضية الأحوازية وما تحتاجه من شعارات فإن الواجب هو تمخض الشعارات عن تطور الانتفاض والثورة، ما يعني أن الشعارات هذه تمتلك من الذكاء والمرونة ما يجعلها تعبيرا صادقا عن حال الخروج. ويعني تحلي الشعارات بالفطنة والذكاء مراعاتها لحال السلطة الإيرانية، والمزاج العام في الكيان الفارسي الإيراني، الأمور التي يجب على الأحوازي أخذها بالحسبان لجني أكبر المكاسب من خروجه. ومن جهة أخرى يجب على الشعارات أن تتحول من مستوياتها الأولى التي قد تكون متدنية إلى مستويات أعلى وراديكالية، لتعتلي بالنهوض من مجرد خروج وانتفاض إلى ثورة وقادة تريد تحرير الوطن المغتصب.

وفي صياغ الشعارات وكتابتها هناك عوامل مؤثرة يجب التطرق لها:

أولا الموروث وهو يمثل ثقافة الشعوب، وهو محصلة العديد من التجارب التي مرت بها الإنسانية. لذلك يشكل الموروث معطى مهما من واقع الشعوب تعتز به وتوظفه في تجاربها وحياتها اليومية. ويجب أن يتنوع الموروث الذي يوظفه المتظاهرون بين ديني وتاريخي وأدبي وإنساني. ومما لا شك فيه هو أن حضور الموروث في شعارات الثورة يعد إضفاء لشرعية قيامها، ومكامن قوتها، فهو توظيف يريد المنتفضون به التعبير عما يتعرضون له في الواقع من ممارسات تنال من حقوقهم البشرية.

وثانيا دور الأدب والفن في سرديات الثورة، من خلال توظيف الأبيات الشعرية والأقوال المأثورة الأدبية المعبرة عن الثورة والثوار. ولعل من أشهر الأمثلة هو البيت الخالد للشاعر التونسي أبو القاسم الشابي الذي أصبح نشيدا لثوار الربيع العربي في جميع ربوع الوطن العربي: «إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلابد أن يستجيب القدر».

على أن الملاحظ كثيرا في الشعارات التي تصدح بين الثوار والمنتفضين هو توظيف المأثور من الأدب والفن بما يتناسب مع حراكهم اليومي في الخروج، فإذا استذكرنا، مرة أخرى، بالنسبة انا كأحوازيين، الحالة العراقية رأيناها غيرت كثيرا من المأثور الأدبي والفني. فالفئات الشعبية تمارس دوما عملية تغيير للنصوص والكلام، وتبدل من واقعها. فالثوار يراعون المضمون على حساب الجوانب الفنية الشكلانية. ومن هذا المنطلق أصبح بيت الشابي على الشكل الآتي: «إذا الشعب يوما أراد الوطن، فلابد أن يترك عبادة الصنم».

وثالثا العناية بمكانة المرأة ووجوب احتلالها، في شعارات الحراك المستقبلي في الأحواز، حيزا كبيرا، شعارات تكون خاصة بها، ليكون ذلك مناهضة للأصوات السياسية التي تريد تحجيم دورها، سيما تلك الأصوات التي وظفت الدين في خطابها السياسي، فقالت بحرمة الاختلاط بين الجنسين، وصنفت صوت المرأة بالعورة، وتارة نادت بحرمة خروجها من بيتها، ومثيل تلك المتبنيات التي تريد جعل المرأة مخلوقا منقوصا ممنوع المشاركة في الحراك الاجتماعي العام. ومهما يكن في ذلك، فإن هذه الأساليب باتت مفضوحة ليس لها تأثيرا على المرأة الأحوازية ومواصلتها الحضور في ساحات التظاهر، وفي مختلف الكفاح الأحوازي. وعلى الشعارات التي ترفعها المرأة الأحوازية أن لا تختلف مضمونا عن شعارات المتظاهرين الأحوازيين بشكل عام، بل هي تتقصد بها وحدة الأهداف والغايات، بالتزامن مع وجوب تصدي الشعارات لكل من يريد لجم صوتها والتشكيك بقدراتها، وتقزيم دورها في ساحات الاحتجاج، وفاعليتها فيها.

 ورابعا يجب أن تكون لغة الجمهور الأحوازي غير مقتصرة على مستوى واحد، ولا طبقة واحدة، وإنما تتكون عن تنوع الطبقات التي تشارك فيه: ومن هنا بالرغم من ضرورة استخدام العربية الفصحى، لا بد من  استخدام اللهجة الشعبية الأحوازية كونها لغة الجمهور. فمن منا لا يتذكر هذا الهتاف «بالروح بالدم نفديك يا أحواز» الذي ثار به الأحوازيون في الماضي ضد ظلم السلطات الإيرانية. وهنا من النافل الإشارة إلى تأثير هذه الأبيات، للشاعر ستار صياحي، التي لاقت في الثورات الأحوازية صدى وتكرارا كبيرين: «إحنا من أصل العروبة إحنا مو مستعربين، ونفتخر بين العروبة من نقول أحوازيين، للبطل ما نطخ هامة وحق سيد المرسلين: الحق خاوانه وخاويناه».

 

2

جبهات غزو الفرس للأحواز

 

يواجه المجتمع الأحوازي، بمائه وأرضه وعروبته وجميع مكوناته، طيلة العقود الأخيرة، حربًا باردا، وهجوما شرسا يشنه النظام الإيراني ضدا عليه، محاولا مسخه من الوجود، وامحاء أي أثر له على وجه التاريخ والحاضر والمستقبل، تكاد (الحرب تلك) تأتي عليه؛ فلم تخبو عاصفة فشلت في النيل من إحدى تمظهرات المجتمع الأحوازي، حتى تلِيها أخرى أشدُّ من الأولى، تكاد هي الأخرى تذهب بجوانب من كينونته، لو لا ذلك الصمود المترسخ. وإذا أخذنا أبرز تمظهرات المجتمع الأحوازي، في كليتها وترابطها، بعروبته وهويته، وأرضه التي تضمه، والماء التي منها يرتوي، وجدنها حينها مستهدفة كلها على يد النظام ذاك.

على أن أبرز ما يميز هذا الحرب هو خوضه على كافة الأصعدة، يبتغي تدمير هوية الشعب الأحوازي الأصيلة. ولذلك الحري بنا هو التساؤل عن كيفية سريان ذلك الحرب الهادف دحض وجودنا، وابعادنا عن واقع تاريخنا وحضارتنا. هذا سؤال مهم يجب إثارته من قبل كل أحوازي مهتم بوجوده وتشخصه. فبعد فشل النظام الإيراني في محاربة أبنا الشعب الأحوازي جهارًا، عبر الاعتقالات الجماعية والتقتيل والتهجير إلخ، فإنه قرر أن يحاربه سرًّا بطرق لا تُحصى؛ كانت ركيزة هذه المحاربة المضمرة الماء والأرض والهوية. ولذلك ضاعف النظام جهوده من أجل نهبها فطمسها، سالكا في حربه الجديد هذا المضمر، جميع السياسات «الشريفة» والوضيعة معا، لا يبتغى فيها سوى هدفا يتيما هو إماتة الروح العربي في الأحواز وإنْ على حساب تجفيف المياه، وخراب الأرض، وهلاك الإنسان. وفي بوتقة ذلك تتعرض اليوم هويتنا وأرضنا ومياهنا، نحن الأحوازيون، لإنصهار وجودي من قبل النظام الإيراني يحاول تغيير ملامحها وتخريبها وتجفيفها، على يد قوم غزاة فرس.

وهنا نريد كشف جبهات ذلك الحرب الذي يشنه الفرس علينا، وقد وجدناه يدور في سوح ثلاث: الساحة الأولى: يشتد بها الحرب على الماء، يريد النظام الإيراني فيها تجفيف مياه الأحواز، وجعل هذا الوطن الوفير المياه صحراء قاحلة لا ماء فيها ولا أنهر تجري، فهنا نتناول معنى الصراع الدائر على الماء، ماء الأحواز، وما تبع ذلك من مآسي، وما له من تمظهرات عديدة ؛ والساحة الثانية: هي الأرض، أي الوطن السليب، وما يعنيه في الموروث الأحوازي أسطوريا وعقلانيا، وما يدور على وجهه من مصادرة حقول، وتفريس معالم تاريخية، وتزوير أسامي مدن إلخ؛ والساحة الثالثة: هي العروبة والهوية العربية، وما تحمله من مد حضاري تاريخي، وطرد ممنهج يومي، وتطلعات مستقبلية لعيش رقيد وكرامة لا تُمس وحريات لا تُطال.

وليس سرا أن محاولتنا هذه تندرج في سياق ضرورة ترتيب الأوراق، من الأحوازيين: أفرادا ومنظمات ومؤسسات ألخ، للخروج بشعارات رمزية تكون محل إجماع الكافة، ذات رمزية ثورية، تبعث على التمسك بها، وتعبر تعبيرا أكثريا عن واقع الحياة الأحوازية وتطلعاتها ومعتقدها.

3

الهوية

 نعنى بالهوية هنا العروبة، فنحن لا نمتري بأن مَعْقِد الهوية الأحوازية هي لغته العربية، وما نتج عنها من ثقافة ميزت الأحواز عربيا عن الفرس، وعن باقي الشعوب غير الفارسية في إيران. إن الملاحظ على اللغة العربية في الأحواز هو أن الاهتمام بها والمواظبة على استخدامها يرسخ وجودها، ويكتب لها الخلود، وعلى العكس من ذلك تتلاشى وتزول تلك اللغة إذا ما نبذها أبناؤها وجعلوها ورائهم ظهريا مستخدمين في بيانهم لغات أخرى غيرها. على أن الأخطر في كل ذلك، هو أن زوال لغة ما ينذر بزوال أمتها ومسخ هويتها.

إن العلاقة بين مفهوم اللغة والهوية من جانب، والتفريس من جانب آخر هي علاقة نقيضين، وذلك نتيجة التحولات الكبيرة في مجال التقنيات والانتشار السريع للمعلومات والمعارف، حيث برزت آفة التفريس كظاهرة مهيمنة أخذت تهدد مقومات الثقافة الأساسية في مجتمعنا الأحوازي المتمثلة باللغة والآداب والفكر والتاريخ والعادات والتقاليد، لتمتد بعد ذلك إلى أنماط العيش والسلوك.

ومن هذا المنطلق فإن التفريس أخذ منحنى خطيرا حيث ترك أثره السلبي على اللغة، ومن ثم الهوية الأحوازية، بهدف تهميشها، وانفصام عراها، وإحلال مشتركات جديدة فارسية لا تنتمي إليها. وهي بذلك تجتاح مكونات الشعب الأحوازي بدعوى ما يسمى «الانفتاح تجاه الثقافة الفارسية» وفي ظل التفريس. إننا لا نبالغ إنْ قلنا بأن لغتنا العربية وهويتنا الأحوازية تخوض حرب بقاء لمواجهة تحديات جسيمة من التفريس، تتطلب التشدد من الشعب الأحوازي في معارضة «ثقافة» التفريس ومقاومتها وفضح حقيقة سعيها لتدمير النسيج الأحوازي: لغة و هوية وعادات، وإبعاد الأحواز عن تاريخها العريق وتراثها التليد.

إن لغتنا العربية تمتلك، من دون شك، من الثراء اللغوي والكفاءة التعبيرية ما يجعلها قادرة على الوقوف في وجه التفريس ودعاته. وقد بات من المؤكد أن الخوف لا يختصر على لغتنا العربية من شبح التفريس فحسب، بل الخوف، كل الخوف، على أبنائنا الذين انخدعوا بالثقافة الفارسية الزائفة، حتى دفعهم ذلك إلى الانسلاخ عن هويتهم، والتنكر لثوابت مجتمعهم الأحوازي، واحتقار كل ما هو عربي أحوازي. إن إنكار الهوية الأحوازية من قبل شريحة من الأحوازيين يشكل خطرا جسيما، قبل كل شيء، يفوق خطر التفريس؛ ومن هنا يجب علينا إنصاف لغتنا وهويتنا كأحوازيين، والكف عن رميها بالتحجر والتخلف والجمود، والابتعاد عن اتهامها بأنها سبب من أسباب تخلفنا ومعوقا أمام قبولنا من المجتمع الفارسي ودولتهم.

وفي هذا السياق تقع على المرأة الأحوازية مسؤوليات جسيمة في الحفاظ على عروبة الأحواز. فيجب أن تعلم المرأة الأحوازية بأن اللغة التي تعلمها لطفلها، في المراحل العمرية الأولى، هي أساس بنائه المعرفي؛ ذلك أن إحكامه لغة الأم بالتزامن مع تعلم لغة أخرى هي الفارسية تضع الطفل أمام نظامين لغويين في عقليته وتفكيره، يؤثران سلبا على مهاراته في الاستماع والكتابة والقراءة والمحادثة باللغة الأم العربية أصلا. إن الشعب الأحوازي اليوم مطالب أكثر من أي وقت بفضح زيف دعاوى التفريس المشبوهة، والتصدي لها بتعزيز قيمنا الثقافية والأخلاقية، وحماية هويتنا الأحوازية ولغتنا العربية، والتمسك بإرثنا الحضاري الأحوازي، ومحاربة الاختراق الثقافي الفارسي بكل أشكاله.

وهنا يمكن القول بأن اللغة والهوية هما واقعا وإدراكا لبناء الشعب الأحوازي. لذا يجب الحفاظ على مكونات هويتنا لبقائها وصمودها مقابل التفريس. فقد كانت الضربات شديدة على اللغة، لأنها مدعومة بحكومات إيرانية فارسية متتابعة أدخلت الفارسية عبر مؤسسات إدارية ومجتمعية، حيث لا توجد وثيقة تختص بالمواطنين في الإدارات العمومية والمستشفيات والمؤسسات المدرسية إلا سُوّدت بلغتهم، لأنها اللغة الرسمية المفروضة، فأزيحت بذلك اللغة العربية، وحصرت في نطاق ضيق. ولكن بالرغم من ذلك فإن النظام الإيراني ليس المسؤول الوحيد عن تهميش اللغة العربية في المجتمع الأحوازي، بل المسؤولية تقع، سواء بسواء، على أولئك الذين يستخدمون الفارسية في حياتهم اليومية، ويدخلون عبارات فارسية إلى العربية، ممن تجدهم يُدخلون كلمات فارسية في أحاديثهم وحواراتهم. وهذا يشرح مدى تأثُّر مجتمعنا بالثقافة الفارسية، أمر يكاد يجعلنا ننسلخ عن هويتنا الأصلية.

وأما الثقافة فهي الوجه المميز الآخر لمقومات هوية الأمة التي تتميز بها عن غيرها من الجماعات، وبجميع مكوناتها من العقائد، والقيم، والمبادئ، والسلوك، والعادات، والقوانين، والتجارب. إن تعرف الجمهور الأحوازي بالإرث التاريخي والحضاري الأحوازي، كفيل بإدراكه أهمية الهوية الأحوازية وضرورة الحفاظ عليها من الاندثار. فعلى سبيل المثال تعد الأشعار والأمثال الشعبية الأحوازية من أهم أركان التراث الشعبي؛ وذلك لبلاغة التعبير في هذا الموروث عن مختلف تجارب الأمم المتبقية، وهو تعبير عن ثقافته وطرق عيشه ومختلف المعاملات والأخلاق الخاصة به دون غيره.

وعلى العموم يفيد تحليل ممارسات النظام الإيراني الفارسي، والمجتمع الفارسي بنخبه وعامته، يفيد بأننا أمام صراع وجودي لا مجرد طرد أو سياسة تمييز أو اختلاف رؤوى. ولذلك يجب العلم بأن الصراع الفارسي الأحوازي لا منتصر فيه إلا في حالتين: إماتة العروبة في الأحواز، أو دحض الاحتلال الفارسي، إذ لا يوجد بين تلكما البَيْنيْن بين. فاختلاف الرؤى عادة ما يختلق نزاعات على المصالح، نزاعات تدور على الحدود الفاصلة بين الشخص ومن ينافسه، أما في صراع الوجود فتكون الذات (الفردية أو الجمعية) هي المستهدف الأول؛ وتبعًا لذلك فإن إرادة البقاء هي المحرك الرئيس فيه. وإذا نظرنا إلى الصراع الأحوازي ضديد النظام الإيراني، وجدناه صراعا وجوديا، متجذرا في القدم وضاربا في الأعماق. فمنذ احتلال إيران الأراضي الأحوازية والصراع الوجودي هذا آخذ في الاشتداد، بدءًا من سن المحتل قوانين تجرم اللغة العربية، مرورا بعدم السماح بارتداء الثياب العربية المجسدة الثقافة الأحوازية وتفردها، وصولا بتزوير التاريخ ومصادرة التراث الأحوازي، وتتويجا بارتكاب مجازر بشعة بحق خيرة شبابه وشيابه؛ فضلا عن سياسة العنف القاشم الذي بطش بالشعب الأحوازي اغتيالا وإعدامات وأسر.

وإذا ما أمعنا النظر في سياسة التفريس هذه، وجدنا لها أدوات خطيرة: لها جوانب تاريخية وسياسية بيناها، و مجتمعية واقتصادية نشير لها هنا:

فمن حيث الجانب المجتمعي دأبت السلطات الإيرانية، خاصة الأمنية منها، على بث الفتن بين أبناء الشعب الأحوازي، واشغاله بصراعات جانبية، تفسح المجال واسعا أمام مضي السياسات الاستعمارية من جهة، وجعل الشعب مجموعة من القبائل المتناحرة والفئات المتشرذمة التي لا ترتقي إلى مستوى الأمة والشعب من جهة أخرى. ولم تكتف الحكومات الإيرانية بذلك فحسب، بل سعت في تنفيذ عملية تهجير للقبائل العربية الأحوازية إلى مناطق الشمال الإيراني واستجلاب سكان تلك المناطق إلى الأحواز واسكانهم فيها؛ وبناء مستوطنات كبيرة ومتقدمة من أجل توفير السكن الحافز لتلك الجموع الفارسية الوافدة على الأحواز استيطانا ونهبا.

أما من حيث الجانب الاقتصادي فإن الملاحظ على هذه السياسة أنها بدأت، سواء في العهد البهلوي أو الجمهوري الإسلامي، تسرع في عجلة سياستها العنصرية القائمة عل التهجير الجماعي القسري لسكان القرى الأحوازية، بعد سلب أراضيهم الزراعية ومنعهم من الفلاحة، وتجفيف الأحواز بسدود بُنيت على أنهره وحولت مجرى المياه إلى المدن والمحافظات الفارسية. لتسود هكذا حالة من التهميش المتعمد، والفقر المنتشر بين مختلف أبناء الشعب تجعلهم يعيشون على هامش المدن، يعانون من تدني مستويات الحياة.

4

الأرض

كثيرا ما تشدنا كتابات أدبية لأنها تتحدث عن الأرض التي ينتمي إليها الكاتب، وكم من أعمال تشكيلية عادت بنا إلى ذاكرة المكان والتراث الذي نمى فيه، فعبر عن هوية هي مبعث الاعتزاز بعالمية قيمها. فالفرد خُلق على صورة الأرض، مثل ما نقرأ في شعر غارسيا لوركا وبابلو نيرودا ومحمود درويش، وفي لوحات بابلو بيكاسو وإسماعيل شموط؛ فالأرض تعني قيمة الإنسان، عشقه لها الذي نبت في فكرة الهوية والاعتزاز والوطنية. وللأرض أهمية روحية وثقافية متجذرة،  للعديد من شعوب أنحاء العالم، بمن فيها الشعب الأحوازي.

وأهمية الأرض للأحوازيين متعددة الأوجه، تشمل الروابط الجسدية والروحية معا. فمن منظور مادي كانت الأرض توفر للأحوازيين الموارد اللازمة لاحتياجاتهم اليومية، مثل الغذاء والمأوى والأدوية، كما أنها توفر لهم شعورا بالهوية والانتماء، لأنها حاضنة تاريخ أسلافهم، و ازدهارهم فيها. فأرض الأحواز، بهذا المعنى، تضم لأهلها العرب (والسريانيين في مدن تستر والقنيطرة وارجان)، دون غيرهم، مواقع تاريخية وثقافية ذات أهمية عالمية عزيزة. ومن منظور روحي، فالأحوازي غالبا ما ينظر إلى الأرض على أنها كائن حي مرتبط بجميع الكائنات الحية فيمن حوله. يتمتع الأحوازيون باحترام عميق للأرض والبيئة، حيث يرون أنها جزء من وجودهم، ويعتقدون أن لها روحا قدسية يجب حمايتها. إن العلاقة بين الأحوازيين والأرض هي علاقة متبادلة، حيث توفر لهم الأرض، وهم بدورهم يحمونها ويعتنون بها. وغالبا ما تنعكس هذه العلاقة في ممارساتهم التقليدية، مثل الإشراف على الأرض، وممارسات الحصاد والصيد، والاحتفالات التي تكرمها لمواردها فتشكرها. وباختصار، الأرض جزء لا يتجزأ من الهوية الثقافية والروحية للأحوازيين، وهي ضرورية لأسلوب حياتهم.

ويمكن أن يكون لفقدان الأرض أو انعدام إمكانية الوصول إلى مواردها آثار عميقة على المجتمعات الأصلية، مثل المجتمع الأحوازي، بما في ذلك فقدان تراثهم الثقافي والروحي، وقدرتهم على إعالة أنفسهم وطريقة حياتهم. ويثبت التاريخ، مرة تلو المرة، أن صراع الأحوازي مع النظام الإيراني الذي يتقوم بالعقلية العنصرية و الفكر الكولونيالي، يدور على ساحة الصراع على الأرض، ويتركز حولها، ومن هنا أصبحت الأرض الأحوازية تشكل معالم الهوية الوطنية الأحوازية التي لا يملك المواطن سواها أرضا ووطنا، ولذلك أصبحت أرضنا هويتنا.

ولأن الهوية والأرض هي أساس الصراع والنضال للشعوب على طول التاريخ، اهتم بها الأدب العربي الثوري، ومنها نتذكر هذه الكلمات في قصيدة «سجِّل أنا عربي» لمحمود درويش. تقول الابيات:

«سجِّل

أنا عربي

ورقمُ بطاقتي خمسونَ ألفْ

وأطفالي ثمانيةٌ

وتاسعهُم.. سيأتي بعدَ صيفْ!

فهلْ تغضبْ؟» (أوراق الزيتون، 1964)

 قصيدة «سجِّل أنا عربي» سهلة وواضحة، شفافة من دون أي غموض، مفعمة بالأجواء الرومانسية تجاه الوطن. يطرح الشاعر في هذه القصيدة هُويته العربية، هوية فلاح فقير يعمل فيما تبقى له من أرض، أو عامل في محجر. وفي القصيدة أيضا وصف لشخصية هذا العربي المرتبط بالأرض الذي يحذر المحتل من غضبه. إنها قصيدة منبرية تماهى معها العرب في كل مكان، لأنها ترفع من معنوياتهم، وهذا ما كانوا بحاجة إليه. وبهذا انتشرت القصيدة واتَّسع مداها، وأصبح العربي يرددها في كل مكان، لأنه يعاني نفس معاناة الشاعر، ولذلك اعتبرها الكثيرون قصيدة مقاومة، ومدافعا عن الهوية العربية. ولنفس الشاعر قصيدة «سأكتب جملةً أغلى من الشهداء والقبلِ، فلسطينية كانت ولم تزلِ!» حيث يأتي في تأويل هذه القصيدة عن لسان إلياس خوري: «إن الاسم هو أرض الصراع بشأن الهوية، فالمرأة – الأرض – الوطن، لا تستعاد إلاّ إذا استطاع الشاعر أن يسترجع الاسم الذي يريد الاحتلال محوه. والاسم المستعاد هو عنوان معركة الوجود لصاحب الأرض الذي أُخفي تحت ركام النكبة ومآسيها».

أما في قصيدة فؤاد حداد «الأرض بتتكلم عربي»، التي غناها سيد مكاوي، يلامس النص معنى عميقا لمفهوم الهوية، فهو إذ يجعل الأرض تتكلم بلغة شعبها ومواطنيها، ينبش عن المعنى العميق للهوية وعلاقتها بالأرض. إن إحدى أساليب التشبث بالأرض هو الحفاظ على موروثنا الحضاري والثقافي، من خلال الاهتمام ونشر الوعي المجتمعي المعرف بالأحواز وإرثها وقيمها ومقتنياتها وكنوزها الحضارية التي تدحض المزاعم الإيرانية في طمس الهوية، وترفض مسلسلات التهجير الممنهج وتوثيقه بالأدلة الدامغة والشاهدة والمتعاقبة للأجيال حول أحقية الشعب الأحوازي بأرضه وإرثه التاريخي، كأحد أساليب الكفاح والنضال من أجل انصاف شعبنا الأحوازي وقضيته.

وتبرز الأرض في الأمثال الشعبية الأحوازية كوحدة غير قابلة للتجزئة، بحيث تشكل أي محاولة للاقتطاع منها تشويها لها، وأن جوهر هذه الوحدة هو التصاق الفلاح بأرضه وذوده عنها. على أن مشاهدة التاريخ الأحوازي، منذ الاحتلال لغاية اليوم، يظهر من جهة صراع الفلاح الأحوازي من أجل أرضه، وخوفه ووجله من جهة أخرى عليها، فما سبب ذلك؟ يعود ذلك الشعور المناقض إلى معرفة الأحوازي معرفة دقيقة من أن أرضه هي ما سيحاول المحتل، بفائق قوته، سلبها منه، بشتى الطرق وبكل السبل. إن سر استمرار الأحوازي في نضاله في سبيل أرضه ينبع عن أمله في استمرار أبنائه حراثة هذه الأرض وصيانتها. وقد استمرت الأجيال المتعاقبة بمسؤوليته، وفي أصعب الظروف، في الدأب على الكفاح في سبيل الأرض والوطن، لتصل الأرض هذه إلينا. ولذلك يجب على الأجيال المعاصرة أن تقدر تلك التضحيات وذلك الكفاح، وأن تكون واعية بما تحمله من مسؤولية كبيرة من أجل الحفاظ على الهوية المنبعثة عن الأرض.

لقد كانت ولاتزال الأرض ذات أهمية تاريخية للحركات الثورية والشعب الأحوازي، لأنها تمثل رمزا للإباء. وقد كان النضال من أجل حقوق الأرض والملكية في طليعة العديد من الحركات الثورية الأحوازية، بما في ذلك الحركات المناهضة للاستعمار الفارسي، ومواجهة الفلاحيين للسياسات الإيرانية التي حاولت الاستيلاء على الأراضي بحكم مشاريع مثل قصب السكر وغيرها.

وغالبًا ما ارتبطت فكرة الملكية الجماعية للأرض بفكرة تقرير المصير والاستقلال، حيث تعني السيطرة على الأرض جانبا مهما من جوانب القوة الاقتصادية والسياسية. وفي العديد من الحركات الثورية، ارتبط الكفاح من أجل حقوق الأرض بالنضال الأوسع من أجل العدالة الاجتماعية والمساواة. فعلى سبيل المثال نرى في النضال ضد الاستعمار في مختلف الدول، كان يُنظر إلى إعادة الأرض إلى الشعوب الأصلية على أنه وسيلة لمعالجة الظلم التاريخي، وإعادة الكرامة لمن جُردوا من أراضيهم ومواردهم.

وبالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما ترتبط الأرض ارتباطا وثيقا بالهويات الثقافية للناس وأنماط حياتهم. فبالنسبة للعديد من الشعوب الأصلية، فإن الأرض ليست مجرد سلعة يتم شراؤها وبيعها، بل هي مساحة مقدسة، وجزء لا يتجزأ من ممارساتهم الروحية والثقافية. وبهذا المعنى، فإن الكفاح من أجل حقوق الأرض لا يتعلق فقط بالملكية المادية، بل بالحفاظ على التقاليد الثقافية وأساليب الحياة.

وإلى جانب الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية تلك، هناك محاولات حثيثة لا تكاد تتوقف لتغيير الطابع العربي للأحواز وتاريخها، تتجلى علانية في تغيير أسماء المدن الأحوازية العربية ووضع فارسية بدلا عنها. وأحدث أمثلة لذلك، بغض النظر عن التزوير السابق المعروف، هي تغيير اسم قرية البناودة الى «بند قير» وقرية العلة إلى «عله بند قير» وقرية النزهة إلى «ولى آباد» وقرية بيت ازهيو إلى «زهو آباد» وقرية أخورشين إلى «سه بنه» (وتقع القرى هذه على أطراف مدينة تستر، من جهة مدينة ملاثاني). والجدير بالإشارة هو أن أهالي القرى الأحوازية هذه قاموا بإنزال اللافتات التي وضعتها السلطات بالأسماء الفارسية. على أن المعالم الأثرية، هي الأخرى، لم تنجو من التدمير والتخريب الهادف طمس هوية الأحواز، وإنهاء ارتباطها التاريخي بعروبتها وربطها بالتاريخ الفارسي المزور؛ فعمدت نخبة النظام الفارسي، وجامعات الدولة الإيرانية الفارسية، إلى تزوير التاريخ على نطاق لم يشهد التاريخ نظيرا له. وقد تمادت عملية التفريس التاريخي حتى وصلت الماضي بالحاضر وهكذا لم يسلم الأطفال من التفريس حين مَنع عنهم نظام السجلات الإيراني الفارسي الأسماء العربية ولم يعد من حق الأسرة تسمية أبنائها إلا بأسماء فارسية.

إلى جانب ذلك مارس النظام الإيراني سياسة الأرض المحروقة التي كان يتبعها الاستعمار، في عهد الاستعمار، فقام بتدمير القرى والمدن العربية الأحوازية، وأعدم الشباب الأحوازي دون محاكمات، وذلك من أجل إرهاب باقي الشعب.. وإلى جانب سياسة النهب الممنهجة قام النظام الإيراني بتقسيم جديد لما يسمى المحافظات اقتطع أجزاء من الأحواز وضمها إلى محافظات فارسية.

5

الماء

الماء ذو أهمية قصوى للشعوب الأصلية في جميع أنحاء العالم ومنها الأحوازي. وتتمتع الثقافة الأحوازية بصلات روحية وثقافية عميقة بالمياه، وتعتبرها عنصرا مقدسا. فبالنسبة للشعب الأحوازي، يُنظر إلى الماء على أنه قوة واهبة للحياة، تدعم مجتمعاتهم، وتوفر احتياجاتهم المادية والثقافية والروحية. إنه مصدر للغذاء والدواء والطاقة، ويستخدم أيضًا في الاحتفالات والطقوس الثقافية.

وعلاوة على ذلك، يكون الماء محوريا في التعبير عن هوية الشعب الأحوازي، فلدى العديد من مكونات الشعب الأحوازية، على رأسهم المندائيين الصابئين الأحوازيين، معارف وممارسات تقليدية تتعلق بديانتهم لا تتم إلا بالماء واستخدامها، وهي طقوس دينية تناقلتها الأجيال. وعادة ما يستخدم الماء في التطهير وطقوس التطهير في الديانة المندائية، وهي كانت الديانة الرسمية للأحوازيين قبل دخول الإسلام. ففي هذا الدين يستخدم الماء لتنقية الجسم والعقل، قبل الصلاة، إلى جانب استخدامه في التعميد الذي يرمز الى التطهير الروحي. وأيضا يشكل الماء حالة رمزية بدلالته في الموروث على الحياة والتجديد والبعث. وفي العديد من الأساطير القديمة الأحوازية، يرتبط الماء بالخلق وأصل الحياة، ويمثل الماء تدفق الحياة وعدم ثبات كل الأشياء.

وقد أصبح الماء في مختلف الطقوس والاحتفالات في الثقافة الأحوازية عاملا رئيسا لا مناص منه، فعلى سبيل المثال، يزور الناس أضرحة الموتى لأداء الاحترام، وذلك عبر غسل القبور بالماء، أو عملية الوضوء قبل إقامة الصلاة. والحالات المرتبطة بالماء بالثقافة الأحوازية وموروثها كثيرة، فنرى مثلا إذا ما سقط الطفل عند الغروب أو العشاء فيعمد الأهل إلى غسل وجهه بالماء، لطرد الأرواح، أو يتم رش باب المنزل بالماء كل صباح لجلب الرزق والخير.

لقد كانت المياه تعتبر من الشؤون المقدسة للأحوازيين قبل الإسلام، وعلى هذا الأساس، ارتبطت العديد من المواقع الدينية بالمياه، مثل الأنهار والينابيع. وعلى سبيل المثال يعتبر المندائيين نهر كارون في الأحواز محلا قدسيا خاصا، حيث يعتمدون على المياه الجارية كأساس للتطهير اليومي، تماما مثل الأحوازي المسلم الذي يعد المياه طهورا للوضوء خمس مرات باليوم.

وبالإضافة الى ذلك اعتمد المواطن الأحوازي، في شمال الأحواز وشرقها، على الاهوار كمصدر رزق، وعامل الاستدامة، حيث يرى المواطن المياه ضرورية للحياة، وقرت الثقافة الأحوازية في الشمال بأهمية الحفاظ على الأهوار والمحافظة على مياهها. وفي ثقافة الأحواز في الجنوب، عند مياه البحر والخليج العربي، يُنظر إلى الماء على أنه كنز، لابد من حمايته، فهو مصدر الرزق وكسب قوت اليوم. أما في الثقافة الأحوازية في الوسط، يعتبر الماء هدية من الآلهة التي أرسلت رزقها عبر الأنهار العظيمة، مثل كارون والجراحي (مارون) والكرخة والدز وغيرها من الأنهر، وبالتالي يُنظر إليها على أنه شيء يجب تقديره والحفاظ عليه، فهذه الأنهر هي التي جعلت الأراضي الأحوازية من أكثر الأراضي خصوبة. ويؤدي الماء عموما دورا حيويا في الثقافة الأحوازية، حيث يمثل النقاء والتجديد ودورة الحياة. إنه رمز لكل من القوت الجسدي والروحي، وهو متشابك بعمق مع معتقدات وممارسات الأحوازيين.

 ومع ذلك، غالبا ما يتأثر الشعب الأحوازي بشكل غير متناسب بتدهور تلوث موارد المياه بسبب الأنشطة الصناعية ومشاريع التنمية وتغير المناخ. وهذا لا يهدد سلامتهم الجسدية فحسب، بل يهدد أيضا ممارساتهم الثقافية والروحية.

6

الخاتمة

قلنا هنا، في الفقرة الأولى، عن أهمية الشعارات، ووجوب انبثاقها عن مطالبات أكثرية الشعب، كما قلنا عن ضرورة مواكبتها مختلف المراحل في ثورة تتفجر أو انتفاضة تندلع. وتبين في موضعه أن الحراك الأحوازي نجح في بعض شعاراته، خاصة تلك التي تتمسك بالأرض والهوية، وأخفض في البعض الآخر منها، خاصة تلك التي تنال من مكانة المرأة، وغفل عن دورها النضالي الحيوي.  وقد خرجنا عن هذه الفقرة بنتيجة مهمة، هي أن الشعب الأحوازي بحاجة إلى صناعة شعار رمزي عام، يكون محل إجماع الكافة، وتعبيرا شموليا عن الواقع المعيش الذي يعاني منه، وتحديدا لمتطلباته وتطلعاته المستقبلية بشتى ميادينها.

وأتينا في الفقرة الثانية فبينا أبرز مواقع الصدام والحرب بين الفرس، بنظامهم السياسي وكامل كيانهم، وبين العرب، بغية اشتقاق شعارات تكون مقولبة على أساس هذا الصراع، وهكذا تبين أن أبرز مواقع الصدام هي ثلاث: الماء والأرض والهوية.

إن أشد ما يواجه الفرد الأحوازي، منذ ليلة الاحتلال قبل قرن، هو محاولة النظام الإيراني طمس الهوية الأحوازية، وإنْ كانت الحقيقة الثابتة هي أن الأحواز بتاريخها وحضارتها العريقة، ممتدة في ملكوت ضمير الأحوازي، ولا يمكن القضاء عليها، وهي تشكل أحد المحاور الثلاثة في نضال الشعب.

أما الأرض فتشكل «الأمومة» للأحوازي أو الطبيعة الأم (تُعرف أحيانًا باسم أمنا الأرض أو أم الأرض).

لقد حمل الماء والأنهر والأهوار في الأحواز قصصا عن الأصل، ونشوء الحضارات، كحضارة عيلام وميسان… وحمل أيضا بتدفقه النضال، وخيبات الأمل، والبعث والتجدد والمعيشة. ولما كان الماء هو مصدر الحياة والعمران للوطن الأحوازي، فقد عمد النظام الإيراني الفارسي، بمشاريعه لنقل مياه الإقليم، إلى قطع شرايين الحياة عن هذه الأرض. لقد أدرك النظام الإيراني أن حرمان الأحوازيين من أية وظائف في صناعة النفط والغاز والبتروكيماويات، التي تقع في قلب أراضيه المحتلة، لا يكفي لجعلهم فقراء ولإجبارهم على مغادرة وطنهم وأرضهم، بل وجد أفضل طريقة هي القضاء على منبع الأمل بينهم، وهي اقتطاع الحقوق المائية الأحوازية، ومحاربة المواطن الأحوازي على كسب مصدر رزقه في المياه. على أن الأهوار والأنهار ليست مجرد ممرات مائية تنبع من مكان وتصب في آخر، بل هي شرايين الحياة فعليا، وليس مجازا.

إن التمسك بشعار الماء والأرض والهوية يعيد اعتبار أحقية الشعب الأحوازي بوجوده وكيانه وحقه، وهو معيار من المعايير الدولية لمطالبة الشعوب بحقوقها، وأصل لحل النزاعات، حيث إذا فقد الشعب أصل من هذه الأصول الثلاثة، يصعب عليه المطالب بحقوقه.

الشعب الأحوازي له تاريخ طويل من المقاومة والنضال لإحقاق حقه، وما زال متمسكا في أرضه ومياهه وهويته، ولذلك أصبح يدرك محاولة الاحتلال سرقة أعز ما عنده. ولذلك حرص المواطن الأحوازي على تعليم الأجيال، جيلا بعد جيل، على أن الماء والأرض والهوية، هي حجر الزاوية في بناء الوطن، وإعادة هويته الأحوازية.

وأخيرا نؤكد مرة ثانية أنه نظرا لأهمية ترابط أعمدة النضال الأحوازي ببعضها، يجب أن تحتوي شعاراتنا في أي حراك مستقبلي على كل مطالباتنا الشرعية، سواء ما تعلق بالأرض أو الماء أو الهوية، وكل تلك تعتبر العناصر الأساسية لأحياء الأحواز.

ليلى حسن، باحثة في معهد الحوار للأبحاث والدراسات. يمكنك متابعة الكاتبة على حسابها على تويتر  Layaliahwaz@

 

 



error: Content is protected !!