السبت, أبريل 27, 2024
مقالاتطريق الدموع: قصة تهجير الشعب الأحوازي

طريق الدموع: قصة تهجير الشعب الأحوازي

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

«كان جدي يحكي لنا عن الطريق ما بين الأحواز إلى طهران كم كان يمثل له رعبا. [فقد قال لنا يوما]: إنه طريق الدموع الذي إنْ سلكته مرة أخرى استذكرت لكم قبر كل حبيب فقدته فيه أين يقع». هذه جملة من حكاية عادل، حفيد أحد المئين من العرب، الذين هُجروا إبان ظهور رضاخان في العام 1306[1927] هجرانا لمّا يزل مطبوعا في ذاكرة هذا الشعب، بعد مرور العقود عليه، تتناقل مآسيه الأفواه جيل يخلف جيل. التهجير هي رواية تعذيب وضيم أُنزل بهذا الشعب. رواية تحكي نهب الممتلكات، وأَسْر المئات، وهتك أعراض النسوة والبنات المقيدات. إنها رواية لا يزال ظلامها يخيّم على غيابة الماضي المهدوم. لكنها رواية تبدو بعيون البعض بزوغ الحداثة، وهي لدى «الآخر» فقد كانت طريق الدموع.

ويأتي ضمن ما ذكره عادل: «كنا نظنه في لحظة من اللحظات إنه مجرد تهجير، لكنه في الحقيقة كان أكثر من ذلك. فقد شهدت ميسان، دون باقي المناطق، شهدت تهجرين». ولعل في رواية الدكتور عباس الطائي، قافلة الحب والموت، وهي رواية شعرية عن لسان أحد الناجين ما يجب نقله هنا: «كلما أذكره هو صبيحة ذلك اليوم، حين كنا جلوسا أنا و أختي سميرة نستظل إحدى النخيل حتى أفزعتنا أصوات تفجيرات متعاقبة. ولما رمقنا السماء وإذا هي كظيظة بالمقاتلات العسكرية ترمي القرى بوابل من صواريخ. وقد صحبت هذه المقاتلات قوى عسكرية مترجلة ضربت طوقا، هي الأخرى، على قرانا هذه. وسميرة فقد هرعت سيمرة نحو البيت، راكضة عجلى، فتسارعت حتى تغيبت مع الدخان، فطارت حتى نأت عنا إلى اليوم فلم نراها.

يقول العباسي: في غمرة من الخوف وأنا تائه بين غيوم الدخان ولهيب النيران، وبينما لم ألهج إلا باسم سميرة، كنت أبحث عن طريق الخروج يعود بي نحو البيت. وكان النهر قد احمرَّ بدماء الجاموس المقتول. لقد كان مَعْلم الطريق، العابر من ألسنة النيران وطبقات الدخان، الدم، وأناس مخضبين معفرين، ونسوة ضممن أطفالهن صدورا جرداء أردن لها حجابا يحشم الأطفال من رصاص ومدافع وصواريخ أمطرتها السماء. كلما تقدمت إلى الأمام ملئت خوفا. سميرة… عيوني لا تراها سميرة. سميرة.. سيمرة.. وإذا بانفجار رماني أرضا، وإذا بشظية تطايرت منه فأوقعت بي وكبلتني عن أية حركة».

وفي تلك الفترة أذاعت وكالة أسوشيتد برس للأنباء، وقد كانت البصرة مقرها، أذاعت خبرا سريعا يتعلق بهجوم للجيش [الإيراني] شاركت فيه مقاتلات عسكرية. وقد ذكرت سبب الهجوم أيضا، السبب الذي رواه زائر صافي، أحد الناجين من القتل والتهجير، بتفصيل أكثر. لقد كان الحكم العسكري المفروض من قبل الجنرال زاهدي، القائد العسكري المفوض من قبل رضا خان في المنطقة، كان قد أمر بتسليم السلاح، وتغيير الزي العربي إلى الزي الحكومي الفارسي. ولکن لما لاقت الأوامر هذه «الرفض» منا جميعنا، لم تقابلها قوات القزاق إلا بالعنف، بعد أن دعمت مواضعها بعدة معسكرات، لم تمنع من اندلاع مصادمات؛ ففي إحدى الانتفاضات والخروج هجمت الناس على معكسر المفاتيل، فقتلت أحد القواد فيه باسم غفوري. ولم تعقب هذه الحادثة أياما قلائل حتى أتى ذلك الهجوم العسكري، فكان التهجير.

لقد ألقى الحكم العكسري القبض على تسعين من الشيوخ والعوام من أهل الحويزة والبسيتين والخفاجية والقرى المجاورة، ممن كان صنفهم مشاركين في ذلك الهجوم ضد المعسكر ذاك، وأمر بتهجيرهم إلى طهران. وهذا هو التهجير الأول. ولكنه تهجير لم يستطع وضع خاتمة على الخروج والتمرد؛ ذلك أن أُسر المهجرين استمرت في الخروج مطالبة بعودة المهجرين من ذويهم، خروج لم ينتهي إلا بتهجير الأسر هذه ذاتها إلى طهران بأمر مباشر من سلطات طهران. وهنا تهجرت جموع الأسر والأهالي.

يقول الطائي في كتابه عن ذوي المهجرين: لقد استمرت قوات القزاق بنهجها السابق العنيف في تعاملها مع أسر المهجرين، فأقدمت بقوة السلاح والترهيب والمهانة على جمع الأسر، بأطفالها ونسوتها وشيوخها، في مكان واحد، فنهبت جميع أموالهم، ثم سيرتهم مشيا نحو طهران. وقد مشت قافلة المهجرين من البسيتين حتى السوس، ثم دخلت جبال الصالحية («أنديمشك»): وهناک عند الجبال تمظهر هول المصاب: رياح شتوية قارسة، وثلوج متراكمة، مما لم يجربه أيا من أَسْرى القافلة هذه وسباياها. وبينما كانت قوات رضا شاه من القزاق تمتطي الخيول، لم يكن أيا منا نحن راكبا، حتى تمزقت أحذيتنا، وأخذ الكثير منا يسير حافيا. ولما وصلنا مركز مدينة الصالحية ظن الناس هناك أننا مصابين بالجزام، فطالبوا الجنود بأن يبعدونا عن مدينتهم، ثم رامَوْنا بالحجارة وشتمونا وسبّونا ليجبرونا على الابتعاد. وعلى طول ذلك الطريق الشتوي، هلك عدد كبير من الشيوخ والأطفال باشتداد المرض والمسغبة. وقد هلكن بعض النسوة، من الحوامل، هلكن هن وأطفالهن ساعة المخاض.

أجل جد عادل الذي بدأنا قولنا بروايته، فقد كان من بين القافلة الثانية من المهجرين هؤلاء. وقد كان جده حينذاك شابا تولى هو وعدد من أصحابه دفن الهالكين من المهجرين؛ ومن هنا كانت الرحلة تلك تعني له طريقا للدموع والموت، أو طريق الدموع والموت بعينه: ما من محطة فيه إلا سقتها الدموع، وما من قبر إلا روته المقل. وفي عُرْضِ هذا الطريق بالتحديد تحصل جد عادل، أول سجل إيراني رسمي له باسمه، يهبه جنسيته الإيرانية.

ولما وصلنا إلى مدينة أراك مكثنا ليالي فيها، ورقدنا عندها للاستراحة. ولكنه عند اليوم الثاني من مكوثنا أمرونا فأجمعونا في مكان واحد، مطوقين بجنود على جميع الجهات. فوجدنا كرسيا موضوعا أمامنا، يجلس عليه قائد عسكري، وإلى جنبه أحد العسكريين المرافقين لنا. فقام باستدعائنا، فردا فردا، ثم أخذ يقوم بعمل الترجمة بيننا. وكان كل من ذهب إليهم منا، يعود بورقة يحملها بيده، حتى وصل الدور إلي. تقدمت إلى الأمام. سئلوني عن اسمي، فأجبت بمجيد. ثم توجه نظره إلي فقال كلاما لم أفهمه. لكن المترجم ذاك أوضح لي أنه تم منحي كنية هي عبابوش. فسألت: وماذا تعني؟ فشرح هو، فضحكت. وكان هذا هو الرَسل، كلٌ يمنح كنية جديدة، كانت تجلب لنا، على طول الطريق، دعابة تسبب الضحك والمزاح؛ فقد كنا ندعو بعضنا بهذه الكنيات الجديدة فنضخك. ثم منحوا كل واحد منا ورقة علمنا أن لها أهمية كبيرة، ثم عرفنا فيما بعد طبيعتها.

لقد مكث جد عادل في طهران حتى خُلع رضا شاه هذا، فما كان منه بعد ذلك إلا المسارعة بالعودة لموطنه. ويذكر عادل أن جده لم يكن يرغب في الحديث عن مجريات هذه الحوادث، فقد كان الحديث ذلك صعبا عليه حزينا، جعله يقول عنه على الدوام «ماذا ينفعكم حديثي عن ذلك المصاب، حتى جعلتم تسألوني صباح مساء عنه». ولكن عادل يهتم بذلك كثيرا، ويقول إنه ما إنْ علم بقصة كنيته، حتى جعلته ينفر منها ويعدها أجنبية عليه: كنية عبابوش كانت تؤرقني، حتى صرفت شهرين من الزمن لتغييرها، ثم اخترت اسم جدي كنية لنفسي، فصرت عادل المجيدي.

أما عباس الطائي فهو يروي في كتابه قافلة الحب والموت حكايات أخرى عن لسان الزائر صافي، أحد أسْرى القافلة تلك، قوامها كلها مزيد جزئيات ومزيد دموع وإرهاب. من ضمنها:

خرم آباد

لقد هلك الكثير من أسرى هذه القافلة بردا ومسغبة واشتداد مرض وإهماله، في منعرجات الطرق وعلى سهول جبال خرم آباد. فعند وصول القافلة إلى أعتاب مدينة خرم آباد، رموقنا أهالي المدينة تلك، فراعهم هزل حالنا وانهيارنا ومرض أبداننا وبَلْيِّ ثيابنا، حتى تعالت أصوات القوم هنالك. ولما تسآل الناس من أهل تلك القرى عنا، فعروفونا عربا تأسروا على هذه الطريقة الوحشية غير البشرية، لم يلبثوا حتى احتجوا ضد ذلك. فأخذوا ينعتون قوات القزاق بالمغول، حتى هتف بعض منهم مسائلا عن ذنب هؤلاء النسوة والأطفال وسبب دفعهم ثمن أخطاء ملأئهم. أما البعض الآخر منهم فالتف حولنا، فصرخوا بعويل مواساة لنا، وسارعوا إلينا بمياه ومأكول. لا أستطيع قط نسيان كل تلك المواساة من أهل خرم آباد. ولكن لما عمد هؤلاء إلى جمع الصدقات، ولما سمعت أصواتهم تنادي لمساعدتنا، فقد شعرت بلاعج حزن: فنظرت والحيرة تغمرني إلى جباه الشيوخ المأسورين من رجال القافلة وإذا بنفس الحزن يغطيهم جميعهم جراء هذا الذي شهدوه: رجال أحرار أكماء أجبلوا على البذل وعلى سخاء يسع حدود إيران بما رحبت وضاقت، وقد قُيدوا بمهانة واستكانة على حين غرة، حتى جُعلوا محل ترحم المارة يجمعون لهم صدقات يشفقون بها عليهم وهم موجعين عُزُل منهارين.

القرط الذهبي

وعلى طول الطريق بامتداده لم ينقطع عويل النساء ونحيبها. وإني لأذكر جيدا مَنْحَ قوات القزاق إحدى النساء الحوامل اللاتي لم ينقطع نواحها بغلة عثورة تحتضر: ماتت بعد مرور بضعة أيام فقط. وما إنْ ماتت البغلة حتى تسارع عدد من القزاق يطالب مغرمة لموتها من المرأة تلك متهمينها بالإضرار بأموال الشاه. وهذا خلق تمعرا بين أصحاب القافلة حتى تسبب بتمردهم، تمرد لم يخمد إلا بإطلاق النيران التحذيرية واشتداد السياط. وبينما كان التمرد على أشده، سقط خمار هذه المرأة، فلمع قرطها الذهبي المتدلي من أسفل أذنيها، ينأى عن جيدها الناصع بياضا والممتشق عن كاهلها، ما كان لمثل القزاق أن لا يراه وهو جيد يدنو لمعانه البعيد إلى القريب، حتى طلب القرط مغرمة لموت البغلة المحتضرة. فخلع القرط الأيسر خلعا، والأيمن فقد وهبته المرأة بنفسها اتقاء لملخ أذنها على يديه الكبيرتين الخشنتين، بعد أن سالت الدماء على طول جيدها نهرا أحمرا يتدفق من سهل الإذن ليشق طريقة عبر وديان جيدها الممتشق فيجري حول رغبتها ليرقد في صدرها.

الحب المستحيل وكوابيس لا تكاد تفارقني

إني هرِمْتُ. ورغم هرمي هذا ومرور الأزمان عليّ فما زلت أفيق الليالي بكوابيس ملؤها أصوات رصاص ودماء تسيح على الأرض. فقد أَستيقظُ في بعض الليالي بصراخ إمراءة قُدَّ خمارها من كل جانب. إني على يقين أن هذه ليست مجرد كوابيس بل هي رواية لما وقع في حياتي: من بقايا قصة سلمى وسلمان.

قصة مطبوعة في ذاكرة كل من تبق من هذه القافلة منذ يوم علموها وقد كانت حديث الجميع، بكل جزئياتها وملابسات مجرياتها الملفقة بالوجع والحرمان. قصة فرَضَ الموروث العربي وحدوده الحمر الواسعة طوقا من التعتيم عليها فجعل الناس لا يذكرونها علانية بالرغم من طغيان حضورها على ملكوت الضمير. لقد كان سلمان ينتمي إلى عشيرة سلمى ذاتها، اقتراب نسب جعلهما متقاربين حياة من بعض منذ نعومة الأضْفار، فقد عاش هذان الشابان في منعرجات الأهوار وسعف النخيل قصص حب ولحظات خيال، جعلتهما يبنيان منها صروحا تسع تمام موطنهما الذي ولدا فيه. ما من شاب في قريتنا إلا كان عليما بقصة حبهما. وقد فرض القدر عليهما أن يكونا من أهل قافلتنا تلك: قافلة الحب والموت.

وقد ابتدأ كل شيء من لحظة هيام أحد قوات القزاق التابعة لرضا خان بسلمى مذ رأها أول مرة، ولم يرعوي من إظهار ذلك علانية أمام الكل بكل وقاحة: أمام مسمع ومرأى جميع فتيان القافلة، المكبلين كالأسود المقيدة فاقدة الحيلة. ولما كان الوصول إلى جبال إيذه، وبينما الجميع رقود من شدة ما لقوا من إعياء ونصب، تقدم هذا الضبع الشؤم إلى سلمى، وهي نائمة إلى جوار أمها وأخواتها، فقيد يديها وفمها، فسعى في لمسها والاعتداء عليها. وبصراخ سلمى استفاق الجميع، فما كان من سلمان إلا أول من فزع بنفسه نحو ذلك القزاق، فأوسعه ضربا بيديه العاريتين، حتى تعالى صوت طلقة بندقية، فكان إعلان لختام هذا الحب.

وما إن هدأ صوت الرصاصة حتى تعالى عويل سلمى، وبصحبة نساء القافلة ورجالها، جعل الجبال ترتج من تحتنا، وجعلنا جميعا نمر بحزن ما بعد حزن، لموت سلمان وختام قصة حب كتب له أين يكون مستحيلا.

لقد وارينا سلمان التراب بالمكان الذي فيه قتل، ثم عدنا لسيرنا مترجلين. وسلمى لم تعد سلمى التي عرفناها، بل تحولت لثكلى ذهب عقلها بذهاب حبيبها، وحزن يكبر الجبال التي تحوطنا حملته حتى أثقل قلبها. وفي إحدى الليالي الشاتيات استفقنا على صراخ سلمى يدوي بين الجبال، وقد رمقناها معتلية هامة الجندي الذي قتل سلمان، والدماء تجري من حواليها، تبرحه ضربا بشدة حزنها، فجعلت رأسه هشيما بصرخات كانت هي سلاحها الذي به تتقوى. وفي مشهد يثلج الصدر قوامه هلائل النساء وزغاريدهن، حدث صمت مدوي عند ما قيدوا سلمى، وصوت الضابط الذي يتوعد بجعلها عبرة لكل من تغريه نفسه بالتمرد من أفراد القافلة.

أما سلمى فقد وقفت أمامنا كالجبال الراسيات بيدين مقيدتين، كأنهما التفاف الصخور في القمم، وعينين محجوبتين يرهب سنا برقهما الأعادي، وقفت أمام الرصاص فتلقتها بإباء دون صراخ، إلا ما كان من ضجيج زغاريد النساء وهتاف الرجال، وهي قد رفعت هِممهم،  وشرّفت حجور طَهُرت.. واريناها الثرى لتطوى صحيفة حب تجذر ونمى في أرض الوطن، في منعرجات مزارع الرز، ومروج حقول النخيل، وذَبُل فمات في زمهرير جبال الغازي وظلمته وقسوته.

إلى يومي هذا وأنا أستفيق بواكبيس ذلك اليوم. والمرأة تلك.. التي قد قُدّ لباسها، أو هي التي تمزق خمارها… أجل تلك المرأة هل يمكن أن لا تكون سلمى بنفسها؟

الوصول إلى ورامين ولقاء الأحبة

بعد شهرين من طي الجبال وصلنا إلى بروجرد. وهناك أجمعت قوات القزاق الأهالي وسط المدينة، فأخذوا يخطبون بالنساء والرجال والأطفال يحكوا لهم بأننا خونة للبلاد والشاه، حتى طافوا بنا مقيدين كالأيامي والعبيد بين أحياء المدينة هذه. وهنا فار دم المهجرين المحتضرين فخاضوا تمردا آخرا. في عقيب قمع التمرد في أراك، أعلن رجال القافلة إضرابا عقيب صلاة الصبح مباشرة، فذهب أحد منهم، ينوبنا جميعا، إلى قائد قوات القزاق، فأعلمه ببدأ الإضراب. وقد كان الجميع توافق على أن الموت بعزة أهون من كل هذا الإذلال، وأن الموت إلى جانب الأبناء والزوجات هو الخيار الوحيد. وبعد أن رأت القوات ثبات الرجال على ما يقولون، توافدت حافلات الجيش، ونقلوا المهجرين بهذه المركبات نحو طهران، حتى كان التوقف في منطقة اسمها ورامين. وهنا أمرنا قائد القزاق بالترجل، وبعد ترجل الجميع أخذ يقول: هنا سيكون مخيمكم، فهنا محل قراركم بصوط الملك وسيفه. لا تنسوا بنادقنا المتلهفة لفتح النار على صدوركم، فاحذورا أية خطئية.

وما أن مضت يومين من استقرارنا هنا، حتى أتى أحد جنود القزاق حاملا خبرا سارا معه. فقد أخبرنا القزاق البهلوي هذا عن لقاء سيجمعنا بمن هُجر قبلنا من شيوخ وزعماء من أهلنا. لقد كانت لحظات قاسية وموجعة، فبعد شهور من الفراق والسير لمسافات طويلة وشاسعة وتجربة عناء ومصاعب جمة، ها هو القدر يجمعنا بذوينا. لقد كان يوما مرا مُزج بالعبرات والدموع والشجن. فكم من أطفال ماتوا، وكم من نسوة هلكت وأُيمت بفقدان أزواجها في ذورة شبابها، وكم من أحبة تباعدوا وتفارقوا إلى الأبد. كانت عيون كل منا تبحث عن قريب لها فقدته. وهنا أقيم مجلس عزاء لجميع من فُقد من أهل هذه القافلة. وهنا سأل أحد الرجال، وهو أحد أقربائي، سأل أحد الشيوخ المهجرين التهجير الأول عن المآسي التي مرت بنا هل سمعوا عنها شيئا؟ أخبرونا عنكم أنتم وعن أحوالكم.

فأجابه أبي: إننا بمعاناة كبيرة ومهانة لا تطاق جربنا السجن في مناطق مختلفة، من ضمنها قلعة تدعى فلك الأفلاك (وهي قلعة غير مسكونة في خرم آباد) ذات الظروف القاتلة. ثم نقلونا إلى سجن قصر (وهو اصطبل كبير قاجاري تحول إلى سجن في العهد البهلوي) يقع في وسط طهران. وفي هذا الفترة مررنا بتعذيب نفسي متنوع. ففي إحدى المرات أطصفونا على طوابير لنرى بالعين المجردة تنفيذ حكم برؤسا عشاير البختيارية رميا بالرصاص. وبعدها ببضعة أيام أخبرونا نستعد لتنفيذ حكم مماثل. وبينما كنا جميعا نصطف في طابور الرمي بالرصاص، وبينما كان الجنود على استعداد لتلقي أمر فتح النار، تبين بالوقت نفسه وصول أمر من رضا شاه يأمر بوقف التنفيذ. وفي ذلك اليوم عدنا أدراجنا للسجن ليتم بعدها نقلنا لمدينة الري.

تمرد مسـتأنف وتهجير معاد

وبعد فترة قصيرة نقلوا قافلتنا نحن أيضا من ورامين إلى الري، حيث قضينا كلنا ثماني سنوات عجاف مميتات. مكثنا هناك حتى طفح الكيل بنا جميعا، وأصبحنا لا نحتمل حياة هذه ظروفها؛ واقع جعل الجميع يفكر في خروج آخر. وفي هذه الأوضاع استقر رأي الكبراء على إرسال كتاب بسيط يحتج على هذه الظروف يخاطب رضا شاه نفسه، بتوقيع من الشيوخ مطالبا إياه الموافقة فورا على عودتنا للوطن. وبينما تواصل إرسال الكتابات تواصل التصادم ضد قوات القزاق؛ حتى اطصفت صبيحة يوم من تلك الأيام السود ناقلات الجند العكسرية أمام مخيمنا، ثم تم إخطارنا بعدها بالموافقة على عودتنا للأحواز [العاصمة] وإن هذه الحافلات فهي جاءت تنقلنا للوطن.

وما هي لحظات حتى ملئت العيون دموعا متشوقة للعودة إلى الوطن متسارعة لإعتلى الحافلات، وفي الخلد تدور صور الوطن ونخليه وأهواره وحقوله ومروجه. وبعد ما تحركت بنا هذه الناقلات أدركنا من معالم الطريق أنه ليس بطريق الوطن، بل إنهم ذهبوا بنا إلى شمال إيران.

ولما وصلنا هنالك فلم يكن منهم إلا مقابلة غضبنا بالضرب المبرح والشتائم. لم يسلم حتى الأطفال من هذا الضرب الشامل والمسبة المخزية. وهنا صرخ قائد القزاق بصوت ممزوج بالغضب والكراهية: أنتم هُجرتم إلى شمال إيران. فأمر القائد هذا بتقسيم القافلة إلى مجموعات، كل مجموعة تتكون من أسرة  وأقاربها الأدنيين. وبعدها وُزّعت هذه المجموعات، بضرب وإذلال، على مختلف الشمال الإيراني من جرجان وباقي المناطق.

قلمي لا يسعفني على رواية الظلم والطغيان والجور والعدوان الذي حل بنا هنا.

ففي هذه الفترة الصغيرة قد فقدنا كل ما نملك حتى أضطررنا، بعد مضي فترة، العمل كمزارعين مسخرين في حقول الآخرين من أهل هذه المناطق. لن أنسى ما حييت هذه الأيام المذلة. لقد عملنا كالعبيد في حقول ماكان، لقاء أجور متدنية جدا، في ظروف جد قاسية حفيلة بالإزدراء والتمييز.

العودة إلى الأحواز

وها هو القدر وقد ترحم بعد طول انتظار بعويل الأمهات وثبورهن، ومهّد الطريق أمام عودتنا للوطن. فقد اشتعلت في تلك الفترة الحرب العالمية الثانية، حيث وقفت إيران إلى جانب ألمانيا وحلفائها، حتى منيت ألمانيا بالهزمية فدخل الروس إلى شمال إيران، وفر إثرها أهالي تلك المنطقة من مدافع الروس، فاحتموا بالغابات، بينما ثبتنا نحن هناك لم نريم فلم يكن لدينا ما نخسره. وعند وصول الروس إلى وسط المدن الشمالية، روينا نحن جميع ما حلَّ بنا إلى القيادات الروسية، وقد رد علينا القائد الروسي بأني مصدقا جميع ما قلتموه؛ فإذا شئتم نقلتكم إلى طهران، فكان هذا وكان وصولنا إلى طهران. لكن طهران كانت على غير ما تركناها، فحل الجنود البريطانيين بدل قوات القزاق فاستقبلونا لأسابيع، حتى أخبرونا بالقرار الأخير القاضي بإمكانية رجوعنا إلى الوطن.

وهكذا تحقق في الواقع حلم العودة إلى موطننا، حلم لم نكد نصدقه، لا نحن ولا أهلنا الذين كانوا في انتظارنا، وقد لاقوا من بعدنا المرائر، فاستقبلونا بعيون في إحداها فرح وفي أخراها دموع. دموع تنهمر لفقد من راح، وفرح يفيض على من عاد.

ليلا بيت سياح

المصدر: موقع المجلة على التلغرام

تنوية: تم ترجمة المادة من الفارسية الى العربية من قبل كادر معهد الحوار للابحاث والدراسات وتم الاعتماد على اسم الأحواز بدل من العرب نظرا لسياسات المعهد.

                                  

     

المصادر والهوامش

يعتبر كتاب قافلة الحب والموت قصيدة لهذا التهجير القسري وله بعد أدبي ثري. ما يستخدم في هذا المقال هو ترجمة حرة لأجزاء من هذا الكتاب.

** كُتب هذا المقال بناء على مقابلات مع أحفاد بعض الناجين من هذه الواقعة وتم استخدام المصادر التالية فيه:

كتاب قافلة الحب والموت للدكتور عباس الطائي

مخطوطات المرحوم كشكول بن الشيخ حسين بن الشيخ علي بن الشيخ شرهان الطرفي. (كان اسيرا في هذه القافلة مع والده)

  – كتاب “تاريخ بني طرف” للحاج عثمان بن زاير علي الطائي

– كتاب “المنجور” أو المنيور تأليف حميد الطرفي

                       



error: Content is protected !!