الجمعة, يوليو 18, 2025
دراساتجغرافيا التمايز وتمدين الازدراء: نقد المدينة في إيران الحديثة

جغرافيا التمايز وتمدين الازدراء: نقد المدينة في إيران الحديثة

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

بقلم الدكتور عماد المزرعاوي

(نقلا عن مجلة النوابت، ترجمة رحيم حميد، باحث في معهد الحوار للأبحاث والدراسات)

 يتناول الكاتب في هذه الدراسة تاريخ تكوين المدينة في الأحواز. فالمدينة لا تعني، كما يبين الكاتب، مجرد تخطيط مدن وعمارة وبناء وتمدين. بل المدينة الفارسية الحديثة التي أنشئت مباشرة بعد احتلال الأحواز على يد الدولة الأمة الإيرانية الحديثة، كانت بمثابة إعادة صياغة للفرد الأحوازي والشعب الأحوازي برمته. ولكنها كانت إعادة صياغة هوياتية بالدرجة الأولى، خفية، ظهرت على شكل إعادة إعمار البيوت، وتخطيط الأحياء المدنية، وتحديد الأحياء التي تعد مدنية مقابل الأحياء التي لم تبلغ مستوى المدنية ولم تحرز صفات الأحياء الحضرية. ومن هنا بالتحديد يتدخل الكاتب بقوة، ليفصح خفايا هذه التخطيطات الحضرية التي بدأت بريئة، ومجرد تصنيفات في علم تخطيط المدن، عارية عن أية أحكام قيمة، أو توجهات إيديولوجية. 

دراسة الدكتور عماد المزرعاوي، التي نشرها أول مرة في مجلة النوابت الأحوازية، باللغة الفارسية، ويعيد نشرها معهد الحوار للأبحاث والدراسات، وهذه المرة عبر ترجمة رحيم حميد لها إلى العربية، تكشف تلك الحمولات الهوياتية والسيكولوجية والسلطوية الثنوية خلف تاريخ المدينة في الأحواز، لاستكناه منطق الحركة التاريخية للمدينة الفارسية. 

 لقد تدرج التخطيط الحضري الصادر عن سلطة الاحتلال في الأحواز، أولاً من شطب الأحياء المدنية الحضرية القديمة، مثل العامرية والخزعلية وآسية والعبارة وإرفيش، ثم حل محلها «كيانبارس» و«زيتون كارمندي» و«كلستان» و«كورش». بعد ذلك، قام هذا التخطيط بتصنيف الأحياء العربية بشكل بريء، وصَمَّها بأنها تقع على الهامش، وفقًا لمعايير علم تخطيط المدن والجغرافيا المدنية، مقارنةً بالأحياء الحضرية الحديثة ذات التأسيس الجديد التي تعتبر المركز. 

  ومن هنا بدأت رواية الحدود والتمايز، وذلك عند ما مثلت تلك الأحياء عالمين منفصلين: عالمًا معياريًا حديثًا وجديدًا، وعالمًا شاذًا قديمًا ومتخلفًا. وهكذا، أخذ الأنا الجغرافي المدني يمثل الخير، والآخر يمثل الشر. ومن هنا نشأت حدود الخجل المتخيل، ومن هنا بدأت مكافحة الآخر في سبيل تخفيف وطأة آخريته(otherness)، والسعي نحو الوصول إلى الأنا. لقد تزامن نشوء المدينة الحديثة مع فرض اللغة الفارسية كلغة للمدينة. ولأن المدينة كانت تضم حيزًا للأنا المتقدم، والآخر المتخلف، فإن الخروج من الآخر إلى الأنا كان يعني للأحوازيين الانتقال من العربية إلى الفارسية، صاحبة ذلك الحيز الخالي من الخجل الموهوم المفروض من الحدود الموهومة.

المقدمة

 من نهاية حي «كيان» إلى «أول نادري»، حد يفرض اجتيازه على الشباب في «سليم آباد»، والصياحي، والمندلي، والملاشية(1)، ضرب من تغيير السلوك. إن مصاحبة هؤلاء الشباب في رحلتهم من أحيائهم إلى «أول نادري» كفيل بإظهار ذلك التغيير، الذي سيبدو عليهم عند اجتيازهم هذه الحدود؛ تغيير في طبيعة مزاحهم، ونبرة أصواتهم، وطريقة مشيهم، ونظراتهم، بل في تصوراتهم أيضًا.

 وإذا كانت المسافة الفاصلة بين هذه الحدود أقل من أن تُذكر، كالمسافة بين زاوية العجرش و”سوق زيتون”، فهي تملك، رغم قصرها، من السلطة ما به يُمكن أن تصنع التمايز وتُفرض الاختلاف. وذلك لأنه حول التمايزات تتشكل هويات الأمكنة وهويات سكانها؛ وإلى هذه الهويات تعود صياغة الرغبات والمشاعر والأحاسيس، والرؤى والآمال والسلوك والأفعال. إن انغلاق أمكنة نظير الزاوية هو في الوقت ذاته انكشاف لها، انكشاف فرضه ذلك التمايز الذي جلب معه التقوقع على الهامش. ولقد طُبع هذا التمايز على ذات كل شخص، حتى حمل عبئه في كل مكان، وأخذ يفرض عليها التستر والأقنعة.

ومثل هذه الحدود في الأحواز العاصمة كثيرة: من «الخروسيه» إلى «سي متري» ومن الخزعلية إلى «سقاخانه» ومن السيد خلف إلى «كيانبارس» ومن الجنيبة العليا إلى «كلستان» إلخ. إني أطلق على هذه الحواجز والحدود الجغرافية اسم حدود الخجل المتَخَيَل؛ حدود تبدو جغرافية، مُلئت بالخجل، وطُبعت بنيويا في الذوات. إنها حدود تفصل بين الأمكنة وإنْ تقاربت، إنها حدود باعدت بين أمكنة ليس بينها حواجز أو مسافات. ثم إن ما أشرت إليه من خجل، هو خجل غير واقعي موهوم أولا، غير مشتق عن بؤس سکان الأحياء التي سُميت بـالهامشية ثانيا. كلا هو ليس كذلك، إنما هو خجل صنعه الخطاب في بطانته، وقام بتوزيعه ضمن نطاقه، حتى قلّفه بمبادئ علمية وقيم أخلاقية وقواعد استطيقية(جمالية)، ليجعله محل الحقيقة.  وبهذا الخجل، يُرتَهن ظهور ذلك الخطاب، إذ إن تكوين كل خطاب، قبل كل شيء، يتوقف على تحديد علاقة الأنا بالآخر. ففي عملية تشكيل الخطاب، يُصور الأنا على أنه حامل الخير والفضل، والمتقدم في التحضر والأخلاق والعلم والجمال، في حين يُوصف الآخر بأنه موضع الشر والضعة والتخلف والقبح، وغيرها. لكن، في الواقع، لا يعلم الآخر سبب إدانته ونبذه أصلاً، كما أن سكان الأحياء المنبوذة يجهلون تمامًا ما هو، بالتحديد، وجه التمايز بينهم وبين سكان المدينة.

ويشكل حجم التمايز وطبيعته، وآليات التمييز والتفريق، وكيفية إقصاء هذه الأحياء وكبتها، محطات من هذا النص، نقف عند كل واحدة منها لنعاين ما فيها. وقبل بدء البحث، أريد التذكير بنقطة هامة تتعلق بالبحوث الجمة حول ما يسمى الأحياء والفضاءات الهامشية، ضمن أدبيات علم المدن، وعلم الاجتماع الحضري، والتخطيط الحضري، في اللغة الفارسية. إن تلك الدراسات الجمة كلها — وأعني كل تلك التحقيقات — حتى لو افترضنا أنها تدعم ما يسمى سكان الهامش، فإنها دارت في سياق إعادة إنتاج السلطة، والإقصاء والكبت.

وأبرز دليل على ذلك هو الكم الهائل من الوصمات والملصقات، كـ”الهامش” و”السكان الهامشيون”، التي جاءت فيها لترسيخ خطاب المدينة الحديثة، وإعادة إنتاجه، وتوجيه مزيد من الكبت والإقصاء ضد الأحياء الموصومة بالهامش. وبناءً على ذلك، لا يمكن اعتبار مصطلحات مثل العشوائيات، والهامش، والمناطق السكنية غير المخططة، وغيرها، إلا اعترافًا بكونهم “آخرين”، ومصادقة على عملية صناعة الآخر، بوصفه الأجنبي النكرة.

إن المفاهيم المذكورة لا تتحول إلى موضوع دراسة إلا في نطاق خطاب المدينة الحديثة، حيث تصنف مبادئ التخطيط الحضري هذه الأحياء على أنها غريبة، وشاذة، ومشكلة، ومعضلة، تحتاج إلى مزيد من الدراسة. وهكذا، فإن وضع الملصقات على الهامش يُعد بمثابة مصادقة على كونها غريبة ونكرة، تتولاها علوم سلطوية إقصائية، بالإضافة إلى تعميق التشققات داخل المدن، على الرغم من أن هذه الدراسات قد تكون بدافع الدفاع عن تلك الأحياء.  وهذا ما وقعت به أدبيات الاقتصاد السياسي والماركسي حين أرادت فضح التمييز أو التهميش. 

إن التسميات المشار إليها هي دوال أتى بها خطاب المدينة الحديثة، حيث لا تكتسب تحديدا وتعينا إلا داخل نطاقه. لقد فَرضَ خطاب المدينة الحديثة دال الهامش والعبارات القريبة منه، على فضاءات خاصة بوصفها مدلولات، دون علاقة ماهوية بين دال الهامش ومدلوله. وتجنبا للوقوع في مثل هذا الشَرَك، يجب استخدام تركيبات نظير الأحياء المقاومة، أو الأحياء العربية. ويبدو أن مصطلحات نظير الأحياء المحرومة، والأحياء القليلة التنمية، والأحياء المقصية عن التنمية، تعكس نسبيا الواقع أكثر من باقي المصطلحات. 

الجغرافيا المتَخَيَلة: الهجرة وتزوير هوية الأمكنة

ضمن المخطط الهيكلي الشامل لمدينة للأحواز في عام 1963، قام شخص يدعى دكتور أديبي بعرض أول خريطة افتراضية لمركز مدينة الأحواز في العقود الأولى من القرن العشرين. والواقع هو أن هذه الخارطة كانت تعرض خارطة جغرافية غير موجودة، إلا في أذهان وخطاب من رسموها والعاملين على تنفيذها. لقد شطب المخطط الهيكلي الشامل أحياء موجودة فعليا على الأرض، منها العبارة و«الخروسية» والزويه، والجنيبه، و«حصيرآباد» إلخ. وفي مقابل ذلك رسم أحياء افتراضية نظير «كيانبارس» و«زيتون كارمندي» و«كوي ملت».(الخارطة رقم 1) 

(الخارطة رقم 1)

في عام 1968 كانت خارطة الأحواز المقترحة خالية عن أحياء نظير «كيانبارس» و«زيتون كارمندي» و«كوي ملت» و«كلستان». (الخارطة رقم 2). وتفيد المقارنة البصرية الخاطفة بين الخريطتين بوجود جغرافيتين، جغرافيا واقعية وجغرافيا موهومة ملؤها التمايز. لقد كانت الخارطة رقم واحد عبارة عن سطو على تاريخ الجغرافيا، ومثال صارخ على تجاوز الخارطة على التاريخ وتزوير الجغرافيا الخاصة به (التاريخ). وذلك يتبين أولا من مسح الأحياء الحية (نظير «الخروسية» والعبارة والزوية و«حصير آباد») ليس من على الخارطة فحسب، بل من التاريخ أيضا. فيما مططت الخارطة تاريخ «كيانبارس» و«زيتون كارمندي» و«كورش» على هيئتها الراهنة (من تخطيط وشوارع منظمة) لتصل بها إلى بدايات القرن العشرين. وهكذا قضى ترسيم الخرائط على وجود الجغرافيا الواقعة الحية، وجعل المستحيل من الجغرافيا ممكنا. 

(الخارطة رقم 2).

إن الخرائط المشار إليها هي انعكاس لميتافيزيقا مدينة الأحواز وفق خطاب إيران الحديث. فقبل أن تكون هذه الجغرافيا المعروضة جغرافيا الواقع الأحوازي، أو واقع جغرافيا الأحواز، كانت ترجمة أماني من رسمها وتطلعاته وغاياته. إن الرؤية التي يعرضها أول مخطط هيكلي شامل لمدينة الأحواز يظهر هجرة الجغرافيا، يزول ضمنها الواقع ويحل محله الأمر الذاتي من جهة، ويتم عبر رسم الخرائط تزوير هوية الأمكنة من جهة أخرى. 

إن اقتصاد الأشياء والهويات عبارة عن آلية متقومة بالانتظام والمنهجية وإقامة الحدود فيما بين الأمكنة، ليتولد في النفوس عن ذلك معتقد يصنف الفضاء المألوف إلى فضاء النحن، والفضاء الغريب إلى فضاء يقع خارج فضاءنا نحن، ما يمثل فضاءهم هم. ويرى إدوارد سعيد أن هذه الاستعارات الفضائية هي من يحدد هوية الأمكنة. وإلى الاستعارات الخاصة بالنظم والتخطيط يعود الفصل بين الأحياء والأمكنة، لتكون أحياء وأمكنة الأنا، وأحياء وأمكنة الآخر. تمنح عبارة نظير الفضاء المنظم، أو الفضاء المخطط مسبقا، أو التراتبية المكانية إلخ، من يسمعها أو يجربها الشعور بالاطمئنان والأُلفة، وإنْ لم يراها. أما الفضاءات التي تقابل الفضاءات المنظمة هذه، فإنها لا شعوريا ستعني الفضاءات الشاذة، فضاءات الخوف، وانعدام الأمن. وهذا هو ما نرصده في الخريطة المشار إليها، حيث تقع أحياء نظير الجنيبه العليا، والجنيبه السفلى، والسيد خلف و«الخروسیة» خارج نطاق الأنا؛ ويتم التعامل معها لغاية اليوم (في مختلف الدراسات) وعلى الرغم من مجاورتها وقربها من الأحياء المقبولة، بوصفها أحياء الرعب والجريمة والعنف. إن قرب المسافة فيما بين هذين المكانين، كقرب زوية عجرش من «زيتون كارمندي»، وإن تقلص حتى لا يكاد يُرى، يجسد حدود حقيقية تفصل بين حيز الأنا وحيز الآخر، المتخيلين. وهذا بالتحديد هو ما أطلق عليه إدوارد سعيد اقتصاد الأشياء والهويات.

 

إن الخجل، كما جاء في المقدمة، شعور وإحساس حقيقي يكتنف كل فرد يقطن في الأحياء «الهامشية» يشعر به بشكل يومي. لقد حقنت هذه الحدود الأفراد بكونها حقيقة، وبمشاعر جعلتهم عاجزين عن فهمها كمجرد حدود متخيلة. وهذه الحدود هي التي صنعت جغرافيا الخجل والشعور بالعار في عالمهم اليومي المعيش. وهذا العام بكل ما يحمله من خجل وحدود موهومة، لكنها تبدو حقيقة عند من يقف أمامها، هو ما يمكن تسميته طوبوغرافيا الهوية. فكما تتبين في الطوبوغرافيا نتوءات الأرض على شكل جبال ووديان، تُحدد الخريطة الطوبوغرافية للهوية تلك الجغرافيا التي تُرْسَم نتوءاتها على شكل هوية الأمكنة والأفراد. فهنا تتموضع بعض الأمكنة موضع قمم المدينة، ويقطن بعض الأفراد هناك في الأعالي، بينما هناك من يكافح، بكل جهد، في سبيل الخروج من السهول ونطاق الخجل. إن توزيع التصنيفات الهوياتية في المدن ذات الهوية اللغوية والعرقية الواحدة (المدن العربية والتركية والكردية واللرية والبلوشية) لم يزح الأمكنة إلى الهامش فحسب، بل إنه كَسَفَ الهويات القومية واللغوية أيضا. وذلك لأن المدينة الحديثة في إيران هي فارسية التأسيس، بينما كانت الأحياء المقصية (أي الفضاءات ما قبل الحديثة) غير فارسية. ولذلك قام الأفراد بإطلاق الأحكام على بعض وتقييم البعض بناء على التموضع المكاني القائم. وهكذا أدركوا أن اللغة الفارسية هي من ثوابت معالم المدينة الحديثة وأسسها. ومن أجل ذلك بالتحديد تحولت اللغة الفارسية إلى صفة المدينة الحديثة ومؤشرها. ومن أجل ذلك تجلى تقدم فضاءات المركز على باقي الفضاءات، على شكل تفوق اللغة الفارسية؛ وأخذ الناس يدركونه على هذا الأساس. وبتأثير من ذلك، حين أراد بعض الأفراد إظهار أو إثبات مدى تحضره، اجتهد في إحكام اللغة الفارسية، وضبط لهجتها حتى، تماهيا مع سكنة المدينة المُثْبِت لتحضره

لقد تطلب تكوين هكذا جغرافيا هوياتية تحشيدا عاما، مما جعلها غير محصورة بمؤسسة أو دائرة. وقد كانت الجامعات السباقة في منح الفضاء هوية. وكما يؤكد إدوارد سعيد فإن منح الهوية وتحديدها لا يتم إلا عبر صنع المتمايزيين والآخرين، وهذا يعني خوض صراع تصطف فيه مؤسسات وأفراد كثر. كما يعني منح المدينة الحديثة هوية في إيران، أنها دعوة أشهرتها المؤسسات المختلفة ضد المدن والفضاءات ما قبل الحديثة. وهكذا أباح المشرع، بناء على تشريعات البلديات في عام 1966 المادة 111 و33، قانون التحديث والإعمار الذي منح البلديات حق تملك فضاءات النسيج القديم، وهي عبارة عن المدن القديمة، وشراء البيوت والأراضي القديمة في الأحياء القديمة بغية تحديثها، بناء على تشريعات البلديات. حلت في العام 1973 وزارة الإسكان وتخطيط المدن، محل وزارة الإسكان والإعمار، وتم تشريع قانون الأراضي الموات لتخصيصها للإسكان، يتم توزيعها على شكل قطع كبيرة، ليتعبد الطريق أمام بناء المدينة الحديثة ومسح الفضاءات القديمة من الجغرافيا. وفي الخطة الإعمارية الثالثة (1963-64) شمل قسم الإسكان الحضري، لأول مرة، فصلا تحت اسم بناء البيوت والعمارات، وخصصت له ميزانيات خاصة؛ حيث تقرر فرض رقابة الدولة على النشاط المتعلق بتوفير السكن في المدن. وفي الخطة الرابعة (1969-51) خصصت ميزانيات لتوفير البيوت على يد أصحاب الصناعات، كان الهدف منها بصراحة هو «القضاء على الهوامش والعشوائيات»، أي القضاء على الآخر الذي يقف أمام المدينة الحديثة الإيرانية. 

وفي بدايات السبعينات تم تدوين مخطط هيكلي شامل لأكثر من 37 مدينة في إيران، وكانت نتيجتها كلها، كما هو الحال في الأحواز، تحديد جغرافيا الأنا عن جغرافيا الآخر. ولكن هذه الفضاءات (جغرافيا الآخر) كان عليها أن تُصنف وتحمل أسماء، لتتحول إلى موضوع يستميل العلوم المختلفة. وكما هو الحال مع موضوع المجانين (فوكو) أو موضوع الشرق (سعيد) أو موضوع السود (فانون) يستحيل ممارسة السلطة على الآخرين دون تحويلهم إلى موضوع. وهكذا في عام 1973 ومع تحديد الآخرين بـالهامش، بدأت عملية تحويل جغرافيا الآخرين إلى موضوع، على يد مؤسسة الدراسات الاجتماعية في جامعة طهران. وفيما يلي سنرى كيف سعى خطاب تخطيط المدينة الحديثة الإيرانية في تنفيذ غايات المخطط الهيكلي الشامل لمدينة للأحواز.        

جغرافيا التمايز: صناعة الآخر والإقصاء

ظهر في عام 1973 لأول مرة مصطلح الهامش في أدبيات تخطيط المدن في إيران. حيث وضعت في جغرافيا تبريز وطهران والأحواز، لأول مرة، حدود بين المدينة والهامش. وتبنت منظمة التخطيط والميزانية في عام 1972، مشروع دراسات حول سكان الهامش في كل من مدينة تبريز وطهران والأحواز، وأسست مؤسسة العلوم الاجتماعية في جامعة طهران من أجل القيام بتلك الدراسات. وبينما قد يتبادر إلى الأذهان وقوع أحياء الهامش في جغرافيا خارج المدينة ونموها خارج النسيج المركزي، تظهر خارطة مشروع تنظيم الهامش في الأحواز أن تلك الأحياء لم تقع خارج المدينة فحسب، بل إنها كانت في قلب المدينة ومركزها، خاصة إذا قورنت بالأحياء التي أنشئت فيما بعد. لقد ألقى سوء الطالع، في عام 1972، بأحياء نظير «الخروسية» وإرفيش والعبارة و«كوي يوسفي» و«حصيرآباد» و«جهارصد دستكاه» خارج المدينة، في حيز الآخر، وتم تصنيفها أحياء هامشية. وفي هذا السياق أتت عبارات نظير المدينة واللامدينة. والملفت هو أن تحديد الهامش كان من نصيب تلك الأحياء التي شطبت قبل عشر سنوات من الخطة الجامعة لدكتور أديبي في العام 1963. ويعني ذلك بعبارة أكثر وضوحا أن مشروع سكان الهامش قد أتى ليبرر الإقصاء والشطب الذين طالا تلك الجغرافيا. فقد حكم على تلك الأحياء قبل عقد بالشطب والعدم، وهذا استغرق عشر سنوات، إلى عام 1973 (وبروز مشروع سكان الهامش) ليشتد عود السكن الحديث ويقوم هو بدور الفاعل الذي قام بالإقصاء والنبذ. 

نقرأ في مقدمة مشروع سكان الحاشية: «إن طبيعة السكن ومظهره الخارجي هو معيار تحديد انتمائه للهامش، حيث يعد أصحاب المساكن المغايرة للسكن السائد في المدينة، من الهامش». ولقد كان مفهوم المدينة، في خارطة مشروع سكان الهامش في الأحواز، يعني تلك الفضاءات التي حددها المخطط الشامل (1968) بأنها فضاءات منظمة ومخططة. أما الفضاءات المغايرة للمدينة هي تلك الجغرافيا المقصية عن المخطط الشامل، التي رُسمت على شكل خطوط سوداء غير قابلة للقراءة مشوشة. ويستأنف مدونو مشروع سكان الهامش في الأحواز كلامهم هكذا: «لم يتغير حجم أسر سكان الهامش في مدينة الأحواز منذ عام 1960 لغاية 1973 حيث كان ثابتا تقريبا. ولا يعني ذلك عدم التحاق أسر أخرى بسكان الهامش، بل يعني انضمام بعض الأسر من سكنة الهامش إلى سكان المدينة، عبر تجديد بناء بيوتهم وتبديله إلى وحدات سكنية مطابقة للمعايير المتعارف عليها». 

في كل خطاب تحظى عملية تحديد الآخر بأهمية تفوق أهمية تحديد الآخر ذاته، ذلك الآخر الذي يجب إقصاؤه ونبذه. وذلك لأن عملية الإقصاء هذه يجب أن تتم على صور لا يشعر بها الفرد المقصي والجماعة المقصية ذاتها، بل إنهم يقتنعون بضرورة تنفيذها، ويصادقون على أن تفريق الفضاءات ووضع حدود مجتمعية في المدن هو قضية طبيعية وواقع بديهي. لا يمكن أن تتمكن المعرفة من الهيمنة إلا إذا كانت السلطة التي تمارس الإقصاء خفية وناعمة، تجري بشكل لا يشعر الآخرين بخطرها شعورا مفضيا لردود فعل، بل أن يتحولوا إلى عمال الخطاب ذاته في خدمة نواياه، يساندون الخطاب من أجل تمكينه من ممارسة سلطته عليهم. ومن أجل ذلك يحدد الخطاب نوع السكن كدال مركزي لتمييز المدينة عن الهامش، ليتجنب بذلك أي ظن أو تهم، ويهيب بالآن ذاته بالآخرين وبمحض إرادتهم، كما يبدو، ليقدموا على التغيير. 

وهكذا ابتدأت عملية صناعة الآخر والإقصاء في المدينة الحديثة الإيرانية عبر وضع السكن كمسبار ومعيار لتمايز المدينة عن اللامدينة. وهكذا أصبح، لعقود، السكن مؤشرا على تمايز الأنا المركزية عن الآخر المركزي. وقد أحيط السكن بشبكة معقدة من معارف/سلطات خطاب إيران الحديث. وفي غضون ثلاثة عقود (1941 لغاية 1971) أسست شبكة من المؤسسات والدوائر والقوانين المتعلقة بالإسكان: تبني مشروع الأراضي الموات لتأمين أراضي سكنية بسعة كبيرة، تأسيس البنك العقاري لتنفيذ بناء القطع السكنية بالطريقة الحديثة، تأسيس لجنة الرقابة على العقارات الرخيصة، تفعيل نشاط البنك الرهني (بنك المسكن الراهن) الإيراني بهدف بناء 400 وحدة سكنية رخيصة في طهران وباقي المحافظات، تبني مرسوم البناء، إلخ، وهي نماذج من هجوم الحداثة ضد جغرافيا ما قبل الحداثة. وقد سعى هذا الهجوم الحداثي إلى ملء الفضاءات بوحدات سكنية جديدة. 

ومنذ العقد الخمسين، كانت القطع السكنية، في مرمى معرفة/سلطة خطاب المدينة الحديثة. وقد سهَّلت قابلية ظهور السكن ومرئيته طرق التدخل فيه، والسيطرة عليه وترويضه. كل بناية وسكن لم يشيد بالخرسان والطوب والحديد، ومكونات كهذه، فهو ليس من المدينة، غير مدني لا يحق له استغلال مرافق المدينة. لقد تمكن تخطيط المدن من تعميم نطاق سلطته، فيما بعد، ليشمل الداخل السكني، إذ فوضت البلديات بصلاحيات تمكنها من مراقبة، إقرارا ورفضا، أي تغييرات داخل المنازل، مما أدى إلى تقييد حرية الملاك في إجراء تعديلات أو البناء داخل منازلهم. لم يكن من المسموح تصنيف بيت ضمن تصنيف المدينة الحديثة ما لم يحز قبليا معايير السكن المقبول وطرائق تخطيطه. من غير المسموح أن يتهرب شيء من نطاق الخطاب، وعلى التصميم والخرائط السفور أمام عيون الخطاب، ليرى المهندسون كل خفاياها ونتوءاتها. فقد البيت هكذا أمام سلطة الخطاب المحدقة قوة الصمود، وكشف عن كل أسراره وخفاياه. لقد صار كل من تخصص في العمارة وتخطيط المدن كطبيب تُكشف أمامه العورات أملا في الشفاء. وهكذا وجب على جميع زوايا البيت، السلالم والمخزن والغرف والفنا، المطابقة مع رغبة الخطاب وذوقه، ومن لم يلتزم بذلك وأخفى ما في داخله، سيلاقي المادة 100 ويجرم بموجبها، وعليه تسديد غرامة لتجاوزه على أمن الخطاب واستقراره. وأما تلك البيوت والمساكن التي لم تجدد طوبها وخرسانها، فعليها أن تكون مستعدة للذهاب إلى حيز القرويين، وتقصى إلى هنالك. وعلى طول طريق الإقصاء نحو حيز القرويين، يرمى هؤلاء المقصيون، بشتى الملصقات، ويبؤون بإثم المدينة، على يد عمال الخطاب من باحث ومخطط ومسؤول مدني: سكان العشوائيات، سكان الأكواخ، أحياء الصفيح، سكان بيوت الحصير، سكان الأطراف، المساكن غير المخططة، الأحياء الهشة، الأحياء المتصدعة، كلها من صنع خطاب المدينة الحديثة، التصقت على جباه الآخرين المتمايزين، أولئك المستعدون لاغتراف جرائم نظير العنف، وبيع السجائر، والأبوية، والجريمة. إنهم أخلاف قابيل سكنة الأحياء الهامشية. ولقد كشف بعض علماء المدينة، بوعي منه أو دون وعي، أستار نوايا التفريق بين الفضاءات، حين أقر بأن جريرة سكان الحاشية هي آخريتهم وتمايزهم: إنهم مختلفون لأن حياة سكان الهامش تختلف عن أسلوب الحياة في المدينة والقرية والرحل؛ إنهم مختلفون بأنهم مسندين بأسلوب حياتهم المحلي والقومي؛ إنهم مختلفون لأنهم أناس يقطنون المدينة بالتزامن مع احتفاظهم بثقفاتهم؛ أناس يتقوقعون على هامش المدينة لكنهم يحيون بثقافتهم القروية؛ إنها أسلوب حياة يختلف سياسيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا وهيكليا وإداريا عن الأحياء المجاورة لها. وبناء على ذلك فإن تحديد الأحياء بالهامشية، لم يكن نتيجة لبعدهم الجغرافي عن المركز، ولا بسبب نوعية مساكنهم، بل إنهم هامشيون لأنهم مختلفون عن ثقافة المركز وأسلوب حياته. إنها أحياء ذات طابع محلي وقومي قبل أن يظهر عليها الطابع الوطني والمركزي. وهنا تبتدئ اللعبة الثنوية التسلطية(2) في جغرافيا الآخرين الأقل شأنا. ولما تنتهي اللعبة الثنوية هذه، حيث لا تكف عن استنطاق الآخر وإدانته ودراسته، إلى أن يظل إلى نهاية العمر يبذل الجهود الرامية إلى إعادة تأهيل ذاته وتغييرها. وفيما يلي سنرى كيف تحول خطاب تخطيط المدن في إيران الحديثة من كبت المسكن وأشكال البيوت، إلى كبت المجتمع والأفراد. 

جغرافيا قابيل: الإمبراطورية النصية وإعادة تحديد الآخر

يبدو أن ظاهر البيوت والوحدات السكنية هو الاهتمام الذي ملك خطاب تخطيط المدن في إيران الحديثة، خطاب اجتهد بإشفاق في سبيل تعديل هيكل البيوت، وفق ما ارتضته أدبيات أصحاب مشروع سكان الهامش. ولكن بناء المدينة الحديثة استوجب على معرفة خطاب إيران الحديث، تحديد كافة الأبعاد الهيكلية والمجتمعية والاقتصادية والثقافية إلخ، الخاصة بالمدينة ما قبل الحديثة، حتى يتاح له عبر ذلك تصورا تاما عنها. وهكذا وعقب تطويق هيكل الجغرافيا، المتمثل بالبيوت والمسكن، استهدف ذلك الخطاب، في العقود المقبلة، الطابع الاقتصادي والمجتمعي والثقافي والنفسي الخاص بالأفراد القاطنين في تلك الجغرافيا، وشدد من الطوق حتى بلغ النطاق الفردي الضيق. وهكذا تم تحشيد معارف كالعمارة، وتخطيط المدن، والجغرافيا، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والحقوق إلخ، من أجل اكتشاف كل ما يتعلق بالهامش والمعرفة به. أقول اكتشاف لأن تلك الدراسات الأولية حول الهامش قد كانت اكتشافية. فقد كانت الأحياء الهامشية بعيون تلك الدراسات تشبه قبائل غابات الأمزون ملؤها الغرابة، تستلزم قراءة أنثروبولوجيا كشفية. لقد كان كل باحث في دراسات الأحياء الهامشية محققا جنائيا، والأحياء متهمة. يمكن النظر إليها من كل زاوية، شريطة أن تنتهي نتائج التحقيق إلى أنها مناطق تمثل الجغرافيا الشاذة. لا فرق بين مَن ينظر وبين زاوية النظر لأن الكل سيرى مشهدا واحد هو عبارة عن نقاط سوداء في جبين المدينة. 

وهكذا صاغ خطاب تخطيط المدينة في إيران الحديثة جغرافيا قابيل وبَنْيَنَها. ولكن لماذا قابيل؟ لأن النصوص التي روت قصص تلك الجغرافيا، كانت مُشَرْعَنَة بالطابع العلمي، وكان هذا كافيا لأن يُنظر لتلك النصوص كنصوص مقدسة يجب أخذها على محمل الجد كل الجد؛ ولأن تلك الجغرافيا صُوِرَتْ على أنها مصدر كل الخبث البشري (حسد قابيل وجريرته في القتل). إن تلك الأحياء كأنها مغناطيسا اجتذب جميع المرذولات والشرور، كل قبيح مستباح فيها، مما يستوجب صون باقي أحياء المدينة منها. يبين فوكو في كتاب له عن السكسواليته كيف أقدم الناس على نبذ المثلية واقصائها، في عهد الملكة فيكتوريا، لا عبر فرض الرقابة والتستر عليها، بل عبر إفشاء الحديث عنها. تماما مثلما تم اقصاء المجانين، في القرن العشرين، عبر إشاعة الحديث عنهم. وهكذا توجه الحديث عن الأحياء الهامشية نحو إعادة تحديدها وتبنينها حول تمايزها وشذوذها. هذه هي الغاية التي بررت دراسة كل شاردة وواردة في هذه الأحياء كموضوع لمختلف العلوم. فظرف عقدين فقط (1997 لغاية 2017) أصدرت 255 مقالة علمية محكمة، وأكثر من 70 كتابا، ومئات المقالات الصحفية، ومئات المشاريع الدراسية حول هذه المواضيع التي تصنف الآخر مختلف التصانيف. لقد تمكن خطاب مدينة إيران الحديثة عبر مراقبة الآخرين والحديث بالنيابة عنهم من كبت الجغرافيا الموجودة قبليا وتطويعها. إني أتحدى من يمكنه أن يقارن حجم الكتابات التي كتبت عن الهامش، في هذه الفترة، بالدراسات التي كان موضوعها الأحياء المركزية والمرفهة ذات الأسوار والأبواب. كم دراسة كتبت عن منطقة «كيت بوستان» وکم من بحث تجده عن «شهرك نفت» وكم كتب عن «شهرك ملي حفاري». إني لم أعثر على شيء كهذا، لأنه من المسلم أن هذه الأحياء هي معيارية طبيعية ومثالية خالية عن أية مشاكل تستوجب دراستها والحديث عنها والبحث فيها. ولا يعد ذلك استنتاجا عبقريا إنْ قلنا إنَّ ذلك يعني أنَّ جغرافيا الخجل لا تمثل ولا تشمل غير الزوية و«الخروسي» والجنيبة، وغيرها من الأحياء العربية. وهناك كثرة من الأساتذة وأهل الفضل، والمثقفين من لم يتجاوز هذه النظرة الملوثة والقناعة المعطوبة، بوعي منه أو من دون وعي، وعمل على إعادة إنتاجها وبثها: «الأحياء والأزقة الوسخة في المدينة»، «النظام العاجز عن الالتحاق بالاقتصاد والاجتماع الرسميين»، «تصادم الأجيال والثقافة الأبوية التسلطية المحزنة»، «الورم المدني الواجب استئصاله بغية نجاة المدينة من شقاء تلك الأحياء»، «الأحياء الكسولة وبؤر الجريمة»،«سرطان الأحياء المدنية والهامش المتخثر»، «أحياء الأمية والجريمة والشذوذ النفسية»، «العاملين في العمالة اليومية وباعة السجائر والمخدرات»… كل تلك غيض من فيض عملية إعادة التحديد لهذه الأحياء وتصنيفها. لقد صُور سكان الهامش على أنهم أصحاب عنف، وشاذين، ومجرمين، وغير قابلين للثقة، من «يجب على الدولة التصدي لهم بوليسيا وبقوة غاشمة، للمحافظة على باقي سكان المدينة»، و«يجب على قوات الشرطة أن تتدخل من أجل التصدي لهذه الأحياء حفاظا على كيان المدينة». هذه التصنيفات هي نبذة يسيرة من جملة الدراسات المدنية الحضرية الإيرانية، التي حولت حياة أحياء المدن الهامشية إلى جهنم، ووضعت وجودهم تحت قيد التهديد ووجوب الإعدام والتصدي. 

لقد صنعت المدينة الحديثة الإيرانية، منذ نشأتها عام 1921، من مدن الآخرين، أو الآخرين المدنيين، مرآة لتحديد نفسها، لتعثر على صورتها المثالية. الآخر الذي ركزت المدينة الإيرانية الحديثة عليه كل مناهضتها، ونسبت إليه كل مرذول إزاحته عن ذاتها. لقد تساوقت الحياة في الأحياء الهامشية، بوصفها فضاءات غير معقولة، مع تحديد التصور حول الفضاء المعقول، الظاهر في البيوت المعيارية، والشوارع المخططة، والأحياء النشطة، بسكانها الناجحين، الملتزمين بالقانون، كما يبدو. إن خطاب تخطيط المدينة في إيران الحديث هو حكاية هندسة إقصاء اجتماعي فضائي، يتم فيه إقصاء أمكنة وأفراد معينين عن أمكنة المجتمع الطبيعية، بمساعدة  العلوم الحديثة وتحولها إلى موضوع لممارسة المعرفة/السلطة. وبناء على ذلك يمكن القول إن جغرافيا الهامش المزعومة هي عبارة عن هوية ساهمت العلوم المختلفة في صياغتها. تماما مثل ما كان يطلق عليه إدوارد سعيد إمبراطورية النص، حين تمكن الغرب، عبر العلوم الخاصة به، من فرض ذاته على العالم. 

إن خطاب المدينة الحديثة في إيران قد امتلك الحقيقة، كما امتلك الفضاء والجغرافيا الذيْن كانا موجوديَن قبل مجيئه،. إنه الخطاب وحده من يسمح، بعلومه ودوائره وقوانينه المصنوعة، بالتمييز بين من هو مدني ومن يجب أن يبقى هامشي. ومن أولى تبعات إمبراطورية النص من دون شك، هو ما أُطلق عليه الارتباك المعرفي. ويعني الارتباك المعرفي، ذلك التوارد والامتزاج فيما بين جوهر الموضوع وأعراضه لدى الذات العارفة. تلك المعرفة التي تمتزج فيها خصائص الآخر كما هو، بتبعات الغيرية والإيقاف في حيز الآخر، حيث يكاد يستحيل فيها التفريق بينهما. فعلى سبيل المثال يتم في هذه المعرفة عد البطالة والأمية إلخ، كصفات الأحياء الهامشية، بينما هي تبعات الإقصاء إلى الهامش ونتيجة النبذ. إن عدم الميز فيما بين الصفات الجوهرية للأحياء الهامشية، وبين تبعات الإقصاء إلى الهامش، شكَّل معرفة مرتبكة، وغامضة، وسلبية بطبيعة الحال، عن تلك الأحياء. معرفة يتكون فيها تصورنا عن جغرافيا قابيل. وهكذا نصنف، بوعي أو من دون وعي، الأحياء الهامشية ضمن نطاق العدو المحتمل والتهديد القائم. يقل جدا في الوقت الراهن الموقف الإيجابي من الهامش، أو الموقف المحايد حتى. وهناك من النصوص والدراسات والتصورات المعادية الكثير مما لم يُسمح بنشره، ولا يُتداول إلا في الجلسات المغلقة للمسؤولين. وبناء على مثل هذه التصورات يقوم المسؤول باتخاذ القرارات وسن التشريعات. وعلى أساس تلك المعرفة المرتبكة يتم التساهل مع موت عدد كبير من الأطفال غرقا في عين دو و«كلدشت» والملاشية، وغيرها، وعليه يتم تخصيص الكهرباء وقطعها عن هذه الأحياء، وكم يُسمح لعدد المرضى فيها، وكم يكون حجم الشقاء والعذاب. إن الغاية من وراء تلك التشريعات ليس إيجاد حلول لمشاكل الهامش، بل جس نبض طاقة المهمشين في احتمال الازدراء والخجل. 

الخاتمة

إنه كما كانت السلطة التي أفضت إلى جغرافيا الخجل ذهنية ذاتية، فلا يبدأ التصدي لها والكفاح ضدها إلى من هنا من حيث الأذهان. إن المقاومة ضد الخطاب يجب أن تكون على مستويين فردي واجتماعي برأيي: 

ألف) ففي البعد الفردي يجب ممارسة التفكيك الهوياتي. يجب أن لا يسمح للخطاب التحدث نيابة عنا، وأن يحدد المعرفة بنا، وأن يصوغ هوياتنا. يجب رفض الانتماء إلى أي خطاب، والتشكيك بكل الأفراد والدوائر التي تدعي نيابتنا. يجب أن نتحلى بالزئبقية بحيث لا يتمكن أحد من تحديدنا، وامتلاكنا، أو تصنيفنا. 

ب) وفي البعد المجتمعي يجب أن نكون جينولوجيين، نعاند العلوم والوعي السائد، ولا يتأتى ذلك إلا عبر تفكيك المفاهيم، التي تبدو متصلبة ومتماسكة، وعبر جينالوجيا العلوم التي تبدو محايدة وعلمية. يجب أن نشكك بكل مفهوم ومعرفة، لا نخشى اختبارها. لنتحدث بمفاهيمنا، ولنعرض خططنا.  

المصادر الأساسية الدراسة  

إدوارد سعيد،  الاستشراق. 

إدوارد سعيد،  الثقافة والإمبريالية.

ميشيل فوكو،  يجب الدفاع عن المجتمع.

ميشيل فوكو، تاريخ الجنون.

ميشيل فوكو،  الانضباط والعقاب.

ميشيل فوكو، مسرح الفلسفة.

ميشيل فوكو، إرادة المعرفة.

هوامش إيضاحية من قبل المترجم:

  1. حي كيان: حي عربي، خالٍ من المستوطنين، يُسمّى باسم فارسي، ويقع بالقرب من حيّ الثورة في مركز الأحواز، سليم آباد، والصياحي، والمندلي، والملاشية: أحياء عربية مهمشة، تقع في مركز مدينة الأحواز، تعاني من الفقر وعدم توفر الخدمات المدنية، سوق نادري: يُعتبر سوق مدينة الأحواز، الذي غيّر الاحتلال اسمه من الناصرية إلى نادري، سوقاً رئيسياً يُتاجر فيه المستوطنون الفرس، حيّ العجرش العربي خالٍ من أيّ تنمية، بينما تُعتبر مستوطنة زيتون كارمندي نموذجاً للتنمية والتقدم.هذه الأحياء العربية تُصنّف على أنها “متخلفة”، بينما تُقابلها مستوطنات فارسية “متقدمة”.
  2.  “الثنوية”(Dualism) كلمة متعددة المعاني. في سياق الأديان والفلسفة، تعني “الثنوية” الاعتقاد بوجود قوتين متضادتين، غالباً ما تكونان الخير والشر، النور والظلام، أو إلهين منفصلين.
  3.  الجينيالوجيا تعني البحث عن النشأة والتكوين والوقوف عند الأصل، فالجينيالوجي يصغي إلى تاريخ النتاجات الثقافية، ليكشف عما وراءه من صراع بين قوى فاعلة مثشبثة بالحياة وقوى انفعالية تحتقر الحياة. وفي ضوء هذه التراتبية بين القوى، نفهم أن الجينيالوجيا كما يراها دولوز هي فلسفة الاختلاف بين الأدنى والأعلى. ومن الجدير بالذكر ان استعمالها المعاصر تعدى البحث في أصل الأشياء ولذلك دخلت الكلمة الى الكثير من حقول الدراسة فهناك جينيالوجيا، السياسة، والحقيقة، والعنف، والدين.

  

  

             

  

"الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لموقع معهد الحوار للأبحاث والدراسات"

1 COMMENT

Comments are closed.