السبت, نوفمبر 23, 2024
دراساتالإرث الاستعماري الفارسي: دراسة نقدية للسياسات الإيرانية وتأثيراتها على الأحواز

الإرث الاستعماري الفارسي: دراسة نقدية للسياسات الإيرانية وتأثيراتها على الأحواز

التاريخ:

إشترك الآن

اشترك معنا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد.

  

المقدمة

 

 ربيع العام القادم يُكمل الاحتلال الإيراني للأحواز مئويته الثقيلة والقاسية بكل تفاصيلها بدءاً من المؤامرة الدولية لاحتلال الأحواز مروراً بممارسات المحتل في التفريس وطمس الهوية العربية الاحوازية وانتهاءً باستمرارية القمع التي لم تنقطع منذ قرن من الزمن الثورات المتعاقبة والمطالبات بحق تقرير المصير لشعب مازال مؤمناً بقضيته العادلة التي تقرها المواثيق الدولية وحقوق الإنسان. لذلك، قد يكون من المناسب تسليط الضوء على نتائج هذا الاحتلال وما جلبه على الأحواز في مختلف جوانب الحياة: البيئية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، والسياسية. هذه الجوانب العامة تكشف عن طبيعة التعامل الفارسي مع الأحواز فيما يتعلق بوجوده، وعروبته، وتاريخه، وهويته، ومستقبله، بأسلوب عنصري قائم على الدمار الشامل لكل ما يتعلق بالأحواز.

 

 

فعند النظر إلى الأوضاع البيئية، تتجلى الآثار التدميرية التي خلّفها الاحتلال بتحويله البيئة الأحوازية إلى بيئة مدمرة. فقد اتبع الاحتلال سياسة ممنهجة لتدمير البيئة، لم تستهدف فقط القضاء على الحاضنة الطبيعية، بل سعت إلى تحويل الأحواز إلى منطقة غير صالحة للعيش، في إطار إنكاره لحق الأحوازيين في الحفاظ على موطنهم وبيئتهم.

 

 

أما فيما يتعلق بالسياسة الاقتصادية للاحتلال الإيراني في الأحواز، فقد كانت استعمارية بكل معنى الكلمة، حيث عمد النظام إلى نهب الثروات تحت ذريعة الإعمار، تاركاً أصحاب الأرض يصارعون مخلفات مشاريعه الاستعمارية. وبينما يعتمد الاقتصاد الإيراني على الأحواز بنسبة كبيرة جدا، حيث تُمَوَّل كافة المشاريع العمرانية الكبرى في إيران، من بناء المفاعل النووي، وتعزيز قوات الجيش، وتنفيذ مشاريع عمرانية ضخمة، وغيرها، بتكاليف باهظة مصدرها الأحواز، إلا أن نصيب الأحواز من خيراتها لا يزال الفقر والتهميش والتخلف العمراني. 

 

 

ونفس السياسة تكررت في المجال الاجتماعي، وهي سياسة الانصهار المجتمعي، حيث عمد النظام في إطارها إلى التفريس وإنكار الهوية العربية بين الشعب الأحوازي، وتعزيز النزعات القبلية، وغير ذلك من السياسات التي عملت على تذويب الهوية العربية من جهة، وذلك من خلال الحرص على إبقاء الأحواز في حالة من التخلف ومنعها من التقدم والحداثة. كما تم منع الفئات المجتمعية من الخروج من نطاق الجماعات ما قبل الدولة الحديثة، مثل العشائر ونحوها، والوصول إلى تكوين شعب عربي موحد له تطلعات قومية وقضية تحرير في مقدمة أولوياته، والنضال لاستعادة سيادة الدولة من جهة أخرى.

 

 

ومع ذلك، لم تقتصر سياسة إبادة الهوية الأحوازية على المجال الاجتماعي فقط، بل تجلت بشكل أوضح في المجال الثقافي. ففي هذا الإطار، سعى النظام إلى تشويش الهوية الأحوازية عبر إنكار عروبتها، وتغيير الأسماء العربية، وبث روح الازدراء، وتزوير التاريخ. وقد كان لهذه السياسة الثقافية تأثير كبير على زعزعة ثقة الشعب بوعيه الضروري لتحقيق أي نهضة، وكذلك في استشعاره للظروف التاريخية التي يمر بها. 

 

 

أما على المستوى السياسي فشهدت هذه الساحة، من جهتها، عبثا من النظام: فأولا قتل النظام الإيراني المجتمع المدني الأحوازي وقضى على معظم معالمه، وجعل الشعب مجموعات تقليدية غير متمتعة بالأفكار الحديثة والأفكار المتداولة في العالم والأوطان الأخرى، كما منع الشعب من إدراك ضرورة صناعة الأمة الأحوازية، خاصة لدى نخبها الذين انتشر الضعف فيهم لدرجة وصفوا أنفسهم بمفاهيم نظير «عرب إيران» كمحاولة فاسدة متنصلة من التاريخ الأحوازي وعروبته وعلاقته بالاحتلال المفروض عليه. 

 

 



الإبادة البيئية

 

 

تُدرج هنا السياسات الإيرانية تجاه البيئة في الأحواز ضمن مفهوم “الإبادة البيئية”، لأنها تتطابق تمامًا مع هذا المفهوم القانوني. وتُعد الإبادة البيئية، وفقًا للقوانين الداخلية والدولية، خاصة محكمة الجنايات الدولية، جريمة يرتكبها الأفراد أو الأنظمة السياسية ضد البيئة، وتتسبب في أضرار تستهدف الطبيعة بهدف إرباك نظامها أو تدميرها. وتتميز الجريمة البيئية بخصوصية تختلف عن الجرائم التقليدية الموجهة ضد الأفراد مثل القتل، أو ضد الممتلكات مثل السرقة، حيث إنها تقع على المحيط البيئي الخارجي عبر الإضرار بتوازنات البيئة وتهديد أمن واستقرار الكائنات البشرية والحيوانية ومستقبلها. وتُعرف الجريمة البيئية بأنها كل فعل عمدي أو غير عمدي، مباشر أو غير مباشر، يصدر عن شخص طبيعي أو معنوي ويستهدف البيئة، مُحدثًا أضرارًا بموارد البيئة الطبيعية.

 

 

ويؤكد خبراء القانون الدولي أن الإبادة البيئية تندرج ضمن اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية، وهي تُصنف كجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب. كما نص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أن تعمّد شن هجوم مع العلم بأن هذا الهجوم سيؤدي إلى خسائر تبعية في الأرواح أو إصابات بين المدنيين أو يتسبب في أضرار واسعة النطاق وطويلة الأمد وشديدة للبيئة الطبيعية، بحيث تكون تلك الأضرار مفرطة بالمقارنة مع المكاسب العسكرية المتوقعة والملموسة المباشرة، يُشكل جريمة من جرائم الحرب التي تدخل ضمن اختصاص المحكمة. بناءً على ذلك، فإن الجريمة البيئية تُعتبر جريمة حرب ترتكب عند تنفيذ فعل غير مشروع صادر عن فرد باسم الدولة وبرضاها أو بتشجيعها .

 

 

وبناء على ما تقدم فإن رصد التصرفات الإيرانية ضد البيئة الأحوازية يتكفل تماما بإثبات ممارسة السلطات الإبادة البيئية تجاه الطبيعة الأحوازية، بناء على الأصعدة التي يتم عدها فيما يلي:

 

 

 

كان أول هذه السدود سد «كارون»، ثالث أكبر السدود في العالم، بسعة تخزينية كبيرة تبلغ 3 مليارات متر مكعب . منع هذا السد هذه الكمية من المياه من الوصول إلى مجراه الطبيعي في النهر لإكمال دورة الطبيعة الإلهية وري الأراضي الأحوازية. كما منع سد الكرخة، الذي يُعد أكبر سد في العالم وأكبر سد في الشرق الأوسط بسعة تخزينية تتجاوز 7 مليارات متر مكعب ، المياه عن جميع الأحواز، مما تسبب في الجفاف، وخاصة في  أهوار الحويزة والفلاحية. هور الحويزة، الذي تتجاوز مساحته 120 هكتارًا، تحول بسبب منع المياه عبر هذا السد إلى صحراء قاحلة تتطاير منها الرمال وتنتشر نحو جميع مناطق الأحواز، مما أدى إلى ظهور ظاهرة الكثبان الرملية. أما هور الفلاحية، الذي تبلغ مساحته 400 ألف هكتار، فقد تحول معظمه إلى أراضٍ جافة، واستغل النظام الإيراني هذا الجفاف ليقتطع أراضي منه ويخصصها لمشاريع مثل بناء معسكرات لقوات الحرس الثوري أو شركات التنقيب عن النفط والغاز، في استخفاف تام بحياة البيئة وسكانها الأحوازيين.

 

 

  • الأرض: بينما كانت سياسة النظام تهدف إلى تدمير الأراضي الزراعية الخصبة، فقد عمد إلى سلب أراضٍ أخرى وتحويلها إلى مشروع مدمر وعامٍ ضخم أطلق عليه مشروع قصب السكر، الذي يمتد على مساحة تتجاوز 120 ألف هكتار، ويحيط بالعاصمة الأحواز من جميع جوانبها، شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً. أصبح هذا المشروع وطرق الحصاد المرتبطة به من أكبر الأسباب التي تؤدي إلى تلوث الهواء والمياه القليلة المتبقية. من حيث تلوث الهواء، تسبب الحصاد عبر حرق المزارع في تلوث عام خلال جميع الفصول، مما أدى إلى أنواع مختلفة من الاختناق للأفراد. كما أن الاضطرار إلى غسيل التربة في مختلف أوقات السنة أصاب المياه العذبة بالملوحة، بالإضافة إلى تلوث باقي التربة القريبة منها وتسرب المياه المالحة إليها.

 

إنَّ حجبَ المياه عن الأراضي الأحوازية لم يترك سوى آثار مدمرة. فقد أُخرجت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية في الأحواز من دائرة الاستخدام الزراعي، مما أدى إلى تفشي البطالة والفقر بين أعداد كبيرة من المزارعين. كما تسببت موجات الجفاف في أضرار جسيمة أدت إلى تلف الأراضي بشكل كامل، وأصبحت العديد منها غير قابلة للاستصلاح. ومن أبرز مظاهر هذا الجفاف موت النخيل التي تشتهر بها المنطقة، حيث بلغ عدد الأشجار الميتة في بعض السنوات إلى أكثر من 5 ملايين نخلة. . إلى جانب ذلك، منعت السلطات الإيرانية المزارعين من زراعة بعض النباتات بحجة منع هدر المياه، بينما كان النمط الزراعي السائد لقرون هو زراعة الحنطة والبقوليات وأنواع الخضروات. وبعد هذا المنع المفروض، تُركت الأراضي الزراعية لحالها، وأصبحت الأراضي الخصبة مدمرةً يعصف بها الجفاف.

 

 

إلى جانب كل ذلك، كان نصيب المواشي أيضًا النفوق والموت نتيجة انعدام المياه الجارية في الأنهار القريبة من أماكن تربيتها. كانت تربية المواشي، مثل الجاموس والغنم والأبقار، تتم بالقرب من الأنهار، وكان المزارعون يختارون نمط حياتهم بما يتلاءم مع تربية المواشي. لذلك، كانت معظم القرى الأحوازية تقع بالقرب من الأنهار الكثيرة فيها. لكن جفاف هذه الأنهار أربك النظام المعيشي الريفي التاريخي تمامًا، مما جعل معظم المزارعين المعتمدين على المواشي في ضائقة وأزمة. وقد شهد العقد الأخير، وبالأخص بعد اشتداد الجفاف وظهور تبعات سنوات عديدة من سياسة مصادرة المياه، زيادة ملحوظة في نفوق الحيوانات والأنعام، حتى تحولت هذه الظاهرة إلى سمة من سمات الحياة القروية، حيث تموت الحيوانات يوميًا من شدة الجفاف. ولعل قصة نهر المالح في مدينة السوس هي الرواية التي اختصرت معاناة أهل المواشي لشهرتها ولأخذها حيزًا إعلاميًا . ومع ذلك، كانت هذه الحالة تمثل معظم أنحاء الأحواز وأهاليها، حيث اقتربت مهنة تربية المواشي من الانقراض، وأصبحت الأحواز تبحث عن احتياجاتها من اللحوم والألبان وما ينتج عن المواشي من الخارج، بعد أن كانت مصدرة لهذه المنتجات ومكتفية ذاتيًا.

 

 

الهواء: ولعل أخطر التبعات التي نتجت مباشرة عن جريمة النظام الإيراني في تدمير البيئة هي مساهمته في تلويث الهواء، مما جعل هذه الجريمة مكتملة الأركان. لقد أدى انعدام المياه في الأهوار الشاسعة وأراضيها المترامية إلى تحويل الأراضي إلى صحاري قاحلة، ليس فيها إلا كثبان جافة لم يصلها الماء منذ سنوات، مما سهّل تطايرها في الهواء بفعل الرياح. وتحولت بذلك إلى كتل كثبانية جوالة، تحمل معها جزيئات الرمل إلى كافة المدن والقرى المجاورة والبعيدة.

 

 

وهنا أصيب النظام الطبيعي بضربة كبيرة، بعدما تحولت هذه المدن إلى أكثر المدن تلوثًا في العالم بفعل هذه الجزيئات ، ناهيك عن النشاط البتروكيماوي الذي سيتم ذكره لاحقًا. ونتيجة لذلك، زادت نسبة الأمراض السرطانية بشكل هائل، مثل سرطان الجلد والرئة والكلى، وأصبح الربو وضيق التنفس من الأمراض الأكثر انتشارًا بين جميع الأحوازيين . كما انخفض معدل الخصوبة بين الرجال والنساء، بالإضافة إلى جميع أشكال تلوث الهواء الممكنة. إن تلوث الهواء لم يترك أثره فقط على الصحة العامة وتدهور الوضع الصحي، بل باتت الأحواز تسجل درجات حرارة مرتفعة لم تشهدها من قبل. إن انعدام المياه التي كانت تحيط بها من جميع الجهات ساهم في ارتفاع درجات الحرارة، وأثر على تكرار السموم خلال جميع الفصول، حيث لم يعد الأحوازيون قادرين على تحمل درجات الحرارة التي تشهدها مدنهم. ذلك لأن هذه المنطقة لم تكن معتادة على ارتفاع درجات الحرارة إلى هذا المستوى. ورغم ذلك، فإن تسبّب ارتفاع درجة الحرارة نتيجة العبث بالبيئة حول الأحواز، بحسب بعض الدراسات العالمية، يجعل المنطقة تقترب من أن تصبح غير صالحة للحياة.

 

 

التهجير القسري

 

 

لقد قامت الأنظمة والحكومات الإيرانية المتعاقبة بتنفيذ سياسات استعمارية عديدة تحت مسميات مختلفة، وكانت جميعها تهدف إلى الاستيلاء على أراضي الأحوازيين. وكانت آخر حالة من حالات مصادرة الأراضي تتعلق بمصادرة واسعة النطاق لأراضي الأحوازيين في منطقة الجفير، بالقرب من مدينة الحويزة.

 

 

أعلن رئيس منظمة الجهاد الزراعي في الأحواز العاصمة مجيد نبي بور في شهر سبتمبر العام الحالي، عن إصدار قرار حكومي يقضي بمصادرة 40 ألف هكتار من الأراضي الزراعية الواقعة في منطقة الجفير التابعة الى مدينة الحويزة غرب إقليم الأحواز، وتخصيصها إلى مشروع أطلق عليه اسم “خطة جفير الزراعية”. ويقضي هذا المشروع بمصادرة هذه الأراضي الزراعية التي تعود ملكيتها إلى عشرات السكان الاحوازيين من القرى الواقعة في هذه المنطقة وتخصيصها إلى مؤسسات الحرس الثوري، وتوزيعها على أعضاء المتقاعدين من الحرس الثوري، ومنحهم موارد مادية من أجل الاستثمار عليها.

 

 

وتفيد تصريحات النظام بأنه سيتم توزيع هذه الأراضي على 13 منظمة تعاونية للإنتاج الزراعي والتي تدار من قبل أعضاء المتقاعدين من الحرس الثوري ومسؤولين جدد، كلها تعمل ضمن فعاليات الحرس الثوري الاقتصادية، وهي منظمات ذو طابع اقتصادي أمني بغلاف مشاريع زراعية  لا تخضع لرقابة الحكومة الإيرانية، وتتبع مباشرة مؤسسات الولي الفقيه.  

 

 

وعلى الرغم من ابتعاد الإعلام الإيراني عن ذكر ملكية الأراضي هذه، ولكنها أراض تعود ملكيتها تماما إلى أصحابها الاحوازيين السكان القرى الذين يعانون التهميش والتفقير و محرومين من أبسط الخدمات المعيشية كحق التوظيف في  شركات النفط أو الحصول على مياه الري لزراعة أراضيهم.  يعود كل شيء بخصوص أراضي الجفير وأهلها إلى أيام الحرب الإيرانية العراقية. فمنطقة الجفير، كما جميع المناطق الأحوازية الحدودية المحاذية للعراق، تجد امتدادها مع العراق في كافة المستويات، القومية والثقافية والقبلية والاقتصادية. وعند نشوب الحرب الإيرانية ضد العراق، لجأ معظم أهالي الجفير إلى ذويهم على الطرف الآخر من الحدود. ولما انتهت الحرب عادت السكان المنكوبين والمهجرين نتيجة الحرب إلى موطنها، وأراضيها وبيوتها. وهنا بالتحديد اشتعلت روح النظام الإيراني انتقاما وتأديبا، حيث استقبل أهل الجفير بأنواع النكران وعدم الاعتراف. فتارة سجنه كثير منهم  و تاره أسقط جنسياتهم، وتارة سلب ممتلكاتهم المنقولة، وتارة حجب عنهم جميع الخدمات الضرورية في الحياة، حتى مياه الشرب وري الزرع. لا لشيء، سوى لأنهم اتهموا من قبل النظام الإيراني بالتعامل مع العراق ونظام البعث. ومن جملة هذه السياسات التأديبية الإنتقامية كان قرار مصادرة الأراضي إبان نهاية الحرب مباشرة و تعتبر سياسة مصادرة الأراضي بقوة القانون الجائر هذه  نواة سياسة السلطات  الإيرانية ضد المواطنين الاحوازيين تحت ذرائع مختلفة.

 

 

وعلى الرغم من مرور ثلاث عقود على إقرار هذا المشروع، بيد أن الأوضاع السياسية والاقتصادية لم تسمح بتنفيذه. وذلك لأنه قرار له تبعات اجتماعية وأمنية كبيرة، ما جعل النظام يتهاون في تنفيذه، بل يتناساه في معظم الأوقات.

 

 

كان هذا الحال إلى أن جاء اكتشاف الحقول النفطية في معظم أراضي الجفير، وكان العمل على تنقيب النفط وتصديره بعد فترة من الكشف، حيث وضعت مشاريع النفط العملاقة النظام الإيراني أمام خيارين: إما إسناد عمليات التنقيب وإدارة الشركات النفطية العملاقة والمربحة إلى العرب، وهم الأغلبية المطلقة في منطقة الحقول النفطية المجاورة للعراق. وإما تكرار دورة النهب الذي يتقنها الفرس أفضل إتقان. فكان الخيار الأخير. 

 

 

الاقتصاد الاستعماري

 

 

واتساقًا مع جرائم النظام البيئي وطبيعة تصرفاته تجاه البيئة، اتبعت السياسات الاقتصادية للنظام الإيراني النهج ذاته في نهب الثروات وحرمان أهلها منها. إذ تحولت الأحواز إلى مصنع وورشة إنتاج تُدر العوائد على النظام الإيراني، وتُعتبر مصدرًا لجني أكبر حجم من الأرباح. وبما أن النظام يدرك نفاد مصادر الخير والثروة، فإنه سارع إلى امتصاص جميع الخيرات، مُهملًا تمامًا جميع التبعات التي قد تترتب على هذا الإنتاج المسعور، من النفط والغاز والبتروكيماويات والثروة الزراعية، والمياه الوفيرة.

 

 

لقد كانت التصرفات الإيرانية في الساحة الاقتصادية استعمارية، لأنها تمت بالمبررات نفسها التي استخدمها المستعمر القديم في القرون الماضية، حيث يبرر النظام برجاله مشاريعه الفارسية الاقتصادية بأنها تعمُّر وتقدُّم. ومن الملاحظ أن هذه السياسات الاقتصادية لا تشبه الاستعمار الجديد وتعقيداته، بل تأتي في صور جلية تعتبر الأرض التي تحتلها جزءًا منها، لها الحق والمشروعية في التصرف بها.

 

 

وعلى الرغم من أن النظام الإيراني يتصرف اقتصاديًا بخيرات الأحواز باعتبارها أرضًا من أراضيه، إلا أن معاينة تلك التصرفات وبحثها قليلاً يُظهر بما لا مجال للشك فيه أن صانع القرار يأخذ بعين الاعتبار إمكانية انفصالها، ويدرك احتمال تحريرها من إيران يومًا ما. وبناءً على هذا المعتقد الخفي، خاصة لدى النخب وصنّاع القرار من الصف الأول، لا تجد الكثير من التصرفات الاقتصادية تفسيرًا يبرر هذا التصرف القائم على النهب إلا بأن النظام الإيراني يريد امتصاص كل الخيرات ما دامت سيطرته مستمرة، حتى انفصال الأحواز وثرواتها على يد شعبها. ولذلك، لا يمكن تفسير هذا التصرف القائم على النهب الشامل، وعدم الاكتراث بماء الأحواز وأرضها وهواها، إلا بهذا المبرر.

 

 

على العموم يمكن رصد أخطر تصرفات الاحتلال الإيراني، بعد مضي قرن منه، في الجوانب المهمة التالية: 

 

 

  • نهب الثروات الطبيعية: لقد ارتكزت السياسة الإيرانية في بداية الاحتلال على الاقتصاد، وحظي هذا الجانب باهتمام كبير. فالأحواز معروف بغناه بمختلف الثروات الطبيعية من نفط وغاز وبتروكيماويات وغيرها من الثروات الطبيعية. حيث توجد في هذه المنطقة حقول نفطية كبيرة تُعد من أكبر الحقول النفطية في العالم، مثل حقل «أهواز»، وحقل كجساران، وحقل مارون، وحقل أزادكان، وحقل أغاجري، وحقل التميميه (رك سفيد)، وغيرها، جميعها تقع في جغرافيا هذه المنطقة العربية . وبينما تدر هذه الحقول مليارات الدولارات على النظام الإيراني، حتى أصبح يعتمد عليها كل اقتصاده بنسبة 85% أو 90% حسب تصريح رئيس إيراني سابق، إلا أن نصيب المناطق الواقعة فيها الحقول اقتصر على التلوث والدمار.

 

 وأقرب مثال على ذلك هو مدينة الغيزانية، التي تحتوي على 600 بئر نفطي عامل، ولكن النظام لم يمد هذه المدينة الغنية بمياه صالحة للشرب، وهو أدنى متطلبات الحياة، مما جعل أهلها يعانون من انعدام المياه الصالحة . ومثال صارخ آخر لتلك السياسة هو هور الحويزة، حيث جاء تجفيف الأهوار بعد اكتشاف حقل أزادكان النفطي الكبير مباشرة. كان بدء تشغيل هذا الحقل هو فاتحة جني الأرباح الكبيرة للنظام الإيراني، تاركًا مواطني تلك المنطقة يعانون من البطالة والتلوث بسبب جفاف الهور وتحوله إلى كثبان طائرة.

 

 

  • تحويل الأحواز إلى مصنع: بينما استمر نهب الحقول وترك أهل الأرض يعانون من التلوث وما ينتج عن صناعات النفط من تدمير شامل للبيئة، عمد النظام الإيراني إلى استجلاب أعداد كبيرة من الفرس من المناطق الإيرانية الأخرى وتوطينهم، وكلفهم بإدارة الشؤون النفطية، بالتزامن مع منع الأحوازيين من التوظيف في شركات النفط العملاقة والمصانع النفطية الكبيرة. وبالتالي، اكتمل اقتصاد الاستعمار القائم على نهب ثروات الأرض، وجلب فئات كبيرة من المستوطنين الذين أسندت إليهم مهمة الحفاظ على هذه الصناعات واستمرار هذا النظام الكولونيالي. ومن البديهي أن أهل الأرض العرب كان نصيبهم الفقر والبطالة، بعد تجفيف مصادر أرزاقهم التقليدية وإحلال صناعات نفطية حديثة حُرموا منها ومن الاستفادة منها. كما سنستعرض تبعات ذلك في الأقسام التالية، ولكن فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي، فقد أحدثت هذه السياسة مجتمعاً منقسماً بين مستوطنين أغنياء يمتلكون النفوذ والسلطة، وعرب مواطنين من أصحاب الأرض يعانون من الفقر والبطالة والتهميش.

 

 

لقد تحولت الأحواز وجميع مناطقها النفطية إلى مصانع تجلب الأموال الطائلة. ما يُلاحظ هو أن المستوطنين لا يسكنون على هامش الحقول النفطية، بل يأتون إليها من مناطقهم المرفهة في قلب المدن الأحوازية، ولا يذهبون إلى هذه الحقول إلا في أوقات العمل، ثم يعودون بعد انتهاء العمل إلى أحيائهم المرفهة. يعود ذلك إلى أن المناطق المجاورة للحقول، مثل عبادان والخفاجية والسوس، وهي مناطق عربية عريقة في القدم والحضارة، تعاني من تلوث الهواء. كما أن المستوطنين لا يفضلون العيش في هذه الحواضر التي تكون أغلبيتها عربية، بل يفضلون الذهاب إلى تلك الأحياء التي تهتم بلديات النظام وإداراته المحلية والمركزية برفاهيتها واستقرار الأمن فيها. ولهذا، تحولت المدن المجاورة للحقول، بالإضافة إلى كونها مصانع تدر الأرباح للنظام والمستوطنين، إلى أكبر الأحياء من حيث عدد الوفيات والأمراض وانعدام الصحة. كما تبرز التبعات الاجتماعية والثقافية السلبية، مثل تدهور التعليم، وارتفاع الأمية، وزيادة الجريمة، والتخلف المجتمعي، نتيجة التخلف الاقتصادي المتعمد.

 

 



  • ممانعة تكوين اقتصاد عربي أحوازي: وكل تلك السياسات والمشاريع ذات الطابع الاستعماري، تجتمع في السياسة الاقتصادية العامة لدولة الاحتلال التي عرقلت التقدم الاقتصادي الأحوازي، وما ينتج عن ذلك من ميلاد فئات وطبقات مجتمعية، مانعته من التدرج في سلم التقدم البشري كما يحصل في جميع مناطق العالم. وتتجلى هذه الممانعة على ثلاث مستويات:  

 

 

  • البيروقراطية: يُعدّ النظام البيروقراطي في إيران، وكذلك في الدول المماثلة، أحد الأدوات الخاصة التي تفرض بها الدولة هيمنتها على القوى المجتمعية والمجتمع بشكل عام. كما يُعتبر النظام البيروقراطي في الدول التي تتحكم في الاقتصاد مصدراً للحصول على الثروات. لذا، فإن النظر إلى النظام الإداري القائم في الأحواز يكشف بوضوح عن وقوعه بيد المستوطنين بشكل شبه كامل، حيث تحوّل هذا الجهاز الواسع إلى آلية يدير بها المستوطن شؤون الأحواز العامة، وأبرزها الحفاظ على السياسة العامة للنظام الإيراني الرامية إلى منع الشعب الأحوازي من الدخول في هذا النظام.

 

 

ومن الملاحظ أن النظام الإداري الإيراني يعتمد على الولاء والامتيازات، حيث لا يتم توزيع المهام والمناصب بناءً على الجدارة والتخصص، بل على أساس الولاء، من خلال غربلة الأفراد المخلصين وتحديدهم. ومن جهة أخرى، فإن هذا النظام قائم على الإعانات والهبات، حيث لا يكون مقدار الدخل محدداً على شكل مرتبات ومستحقات، بل يُمنح الأفراد إعانات بناءً على مستوى الإخلاص والوفاء. ولذلك، فهو نظام يتميز بشكل خاص بوفرة الموارد الموزعة بشكل كبير على الموالين.

 

 

 

وبناءً على ذلك، فإن إبعاد الشعب الأحوازي عن الدخول في مثل هذا النظام يُعَد تنفيذًا لسياسة التفقير الممارسة ضده، مما يجعل تلك العملية ممنهجة وتتم عبر آليات حديثة وأذرع الدولة. وهذا يعني من جهة أخرى حرص النظام على منع ميلاد طبقة من الموظفين والعمال، التي ستشكل قوام الطبقة الوسطى الأحوازية. كما يشير هذا الطرد والنبذ إلى الحرص على أن تبقى مصادر الرزق غير مشروعة، مما يجلب معه نمط حياة شاذًا، لا تعترف به الدولة ولا تعالجه، مما يؤدي إلى تكرار تلك الأعمال واستمرارها. ويتجلى هذا الأمر في شتى صنوف المظاهر المتكررة في المجتمع الأحوازي، مثل بيع المخدرات، وذهاب الناس إلى الدول الأخرى بغية الحصول على لقمة العيش، وظاهرة التهريب من العراق، وغيرها.

 

 

 

القروض: من أكبر مظاهر سياسة النظام الاقتصادية هي ظاهرة القروض، حيث ينعش الاقتصاد القائم على الدولة تمامًا عبر القروض التي تقدمها لمختلف الفئات النشطة والأفراد الذين يستوفون شروط منح القروض. فهذه الموارد تمثل مساهمة اقتصادية من الدولة في إنعاش النشاط الاقتصادي، ومساعدة للنشاطات الصغيرة في الاستمرار وزيادة الإنتاجية. ومع ذلك، يلاحظ أن الشعب الأحوازي لا يحقق الشروط المؤهلة للحصول على القروض تلقائيًا، لافتقاده مصدرًا مستقرًا كموظفين، ومن جهة أخرى، لأنه لا يمتلك نشاطات معترف بها من قِبل النظام تسمح له بالتقدم للحصول على القرض. ومن هنا نشأت تلك الظاهرة التي أطلق عليها الشعب “ظاهرة القروض الأسرية”، حيث تقوم عدد من الأسر بتخصيص مبلغ معين كقرض، ثم تحدد مقدار تقسيطه، وعبر القرعة الشهرية يتم توزيعه على الأفراد المشاركين فيه.

 

 

الأسواق: من هنا، ومن إبعاد الشعب عن الدخول في الاقتصاد الذي تشرف عليه دولة الاحتلال وعلى خيراته المسلوبة، لجأ الشعب الأحوازي إلى السوق والنشاط الحر بعيدًا عن سطوة الدولة. والملاحظ في نشاط الأسواق هو بقاؤها في دائرة الآخر العربي المحتل. فعلى سبيل المثال، بقيت هذه الأسواق العربية، مثل سوق عبد الحميد وسوق “کیان” في الأحواز العاصمة، بعيدة عن النظام، ولا يعترف بها أو يدعمها. وعند النظر إلى هذه الأسواق مقارنةً بالأسواق الفارسية المجاورة، أي أسواق المستوطنين، نلاحظ فورًا الفوضى العمرانية، حيث إن هذه الأسواق تقليدية الشكل، تفتقر إلى الانضباط العمراني أو التخطيط الحديث. كما يلاحظ أيضًا ابتعادها عن منطق الأسواق الحرة، حيث تتم المعاملات والقروض بين الأفراد  بشكل ودي  بناءً على الثقة فقط، مما يجعلها أسواقًا تقليدية لا تشبه الأسواق الحديثة. ولكن بغض النظر عن كل ذلك، فإن أهم ما يميز الأسواق العربية في ظل قرن من الاحتلال هو إهمال النظام لها، وهو إهمال ذو حدين يمكن النظر إليه كفرصة، كما يمكن اعتباره عرقلة لعمل الأسواق العربية في الوقت ذاته. تأتي الفرصة من كونها متحررة من سطوة النظام الإيراني وبعيدة عن سياساته الهادفة إلى تهميش الشعب العربي، وكأنها نشاط يضمن الكثير من التقدم الاقتصادي الذي لطالما منعه النظام. ومع ذلك، فإن هذا الإهمال يجعلها غير متمتعة بالدعم الذي يأتي من سلطة عليا، مثل الدولة، سواء كان دعمًا ماليًا أو تشريعيًا أو أمنيًا، مما يؤثر سلبًا على نجاح النشاط التجاري بشكل عام.

 

 

الإرباك المجتمعي: سلطة الطوارئ

 

 

لقد تعامل النظام الإيراني مع المجتمع الأحوازي من خلال سلطة الطوارئ، حيث كان التعامل مع الفئات المجتمعية العربية المختلفة والوحدات الاجتماعية المتنوعة يتم من خلال زاوية واحدة، وهي زاوية الطوارئ، أو بتعبير آخر، زاوية الخطر الذي تشكله هذه المجاميع، وهذا المجتمع برمته، ضد «الدولة الإيرانية» القائمة، والشعب الفارسي صاحب الأمة.

 

 

وترتبط فكرة الطوارئ هذه ارتباطًا عضويًا بفكرة العدو المتخيل، حيث تستمد تلك الفكرة معناها من هذه. فعندما يتم تصور وجود عدو محدق، سواء كان واقعًا أو خيالًا، فإن السلطة وممارستها تصبح ذات أفعال تتناسب مع هذا الواقع المتصور، بغض النظر عن موضوعيته أو وهمه. وهنا، وعند افتراض وجود حالة طارئة، يصبح الفعل السلطوي الخاص بصاحب السلطة والدولة مشروعًا، ولا تصبح جميع التصرفات قانونية ولها الحق في التنفيذ فحسب، بل إنها تصبح منعتقة من جميع الضوابط الأخلاقية والقانونية التي عادة ما تحد من الأفعال وترسم ضوابط للسلوكيات.

 

 

وكانت أولى النتائج الناجمة عن هذه الحالة المفترضة هي تقسيم الناس الذين يعيشون في الأحواز إلى أصحاب حق (وهم المستوطنين الفرس) ومعتدين ضد ذلك الحق (وهم العرب أصحاب الوطن). أو بعبارة أخرى، ينقسم الناس إلى من لديه حق الحياة ومن يجب أن يموت. وتفترض هذه الحالة توزيع الناس على أنواع بشرية في مجموعات، وتقسيم السكان إلى مجموعات فرعية. ويتم تحديد هذه المجموعات على أن وجودها بحد ذاته هو محاولة اعتداء على الحياة، وتهديد مميت أو خطر مطلق، لا مخلص منه إلا عبر القضاء عليه وسحقه. وبعد ذلك، بات أي تمظهر عربي محل تهمة وإدانة، وبات الجميع تحت خانة العدو الذي يجب التخلص منه عند أدنى سلوك ينبثق عن عروبته، بجميع حمولاتها الاجتماعية من زي وعادات وتقاليد ورسوم.

 

 

ومن البديهي القول إن دائرة القضاء على الوجود في الحالة الأحوازية وعلاقته بنظام الاحتلال لم تقتصر على الحذف الفيزيولوجي فحسب، ذلك لأن مثل هذا الحذف يتطلب قتلاً وتنفيذاً للسلطة على شكلها العاري وعبر القوة العارية، بل إن ذلك الطرد والتهميش الوجودي اتخذ أشكالًا مختلفة يتم رصدها فيما يلي:

 

 

تعزيز القبلية: لقد وجد النظام الإيراني، ودولة الأمة التي بناها الفرس بنخبهم في العصر البهلوي الأول، في القبيلة، وهي أولى الوحدات الاجتماعية، تتقاطع مع مصالحها القومية العليا. وذلك لأن أول ما أثبتته القبيلة في الأحواز هو حرصها على إبقاء العرب مجرد مجموعات تنشطر على شكل قبائل، لكل واحدة منها حيزها الخاص وعالمها الخاص الذي لا يتصادم ولا يعترف بغير له إلا عبر قبيلة عربية أخرى تجاورها. إن هذه الصفة الرئيسية في النظام القبلي، والتي تعني عدم اعترافها إلا بقبيلة أخرى على سبيل التصادم أو التنافر أو التحالف، كانت كفيلة تمامًا بإبعاد وجود آخر يرتقي إلى مستوى شعب، هو الشعب الفارسي، يمكن أن تنظر له منافسًا، أو محاربًا أو معاديًا أو محتلاً. وعلى الرغم من ضيق الأفق الظاهر في هذه النظرة القبلية، إلا أنها كانت أولى الدعائم التي وجدت النخبة الفارسية فيها، بدولتها وسلطانها، عاملاً مساعدًا على إبعاد شبح مقاومة تعيق إتمام مشروع بناء الدولة الأمة التي بدأت توطيد دعائمها إبان الاحتلال . وعند قيام الجمهورية الإسلامية، التقت القبيلة مرة أخرى مع هذا النظام المحتل الذي تغلف بكساء ديني هذه المرة، وأبقى على احتلاله مستمرًا، حيث كان ملتقى القبيلة والنظام الإسلاموي هو التقليدية وقدسية السنن والنظرة الماضوية التي تقدس الماضي وتجعله فردوسًا مفقودًا.

 

 

 

والخطير في كل ذلك هو هذا الإصرار على اعتبار الشعب الأحوازي مجموعات عشائرية قبلية، وما يعني ذلك من تصنيفه على يد النظام وفق هذا المعنى والاصطلاح، والابتعاد عن الاعتراف بكونه شعبًا وقومية وأمة عربية، لها الحقوق القومية كافة، وعلى رأسها الحقوق السياسية في تقرير المصير. وبغض النظر عن المعاطب الموجودة في القبلية، من معاداتها للحداثة والفردية وتبنيها للتراتبية والماضوية والعنف والتشرذم، فإن المهم هو هذا الدور الذي وجد النظام الإيراني في القبيلة كأداة لتقزيم الأحواز من أمة عربية وشعب عربي إلى مجموعة عشائر وقبائل، لكل واحدة منها استقلالها وعلاقاتها المتخاصمة مع الأخرى(1).

 

 

  • إزاحة العرب إلى الهامش: من الخطأ الظن بأن سلسلة سياسات الطوارئ اقتصرت على جعل الأحواز مجموعات متشرذمة يطلق عليها قبائل، بل إن وجوه الطرد والنبذ والقتل الوجودي الصامت أخذت أشكالا مجتمعية أخرى. فبينما أخذ النظام الإيراني يتقدم في بناء دولته عمرانيا، عبر برامج تحديثية كبيرة منذ ما يقارب القرن، كان نصيب العرب من كل تلك البرامج التحديثية هو الحرص على استمرارهم في الحالة القديمة التي لم يبلغها تحديث ولا تمدين. فعلى الرغم من جلب مستوطنين بأعداد هائلة إلى مختلف المدن والأمصار، ظل العرب أكثرية السكان، بيد أن ذلك لم يشفع لهم بالقدوم إلى الحياة شبه الحديثة التي كانت دولة الاحتلال تحرص على تنفيذها بين المجتمع الإيراني، ولذلك ظل الشعب الأحوازي جاثما على الأطراف، إما في قراه لا يعلم من أمر الاحتلال شيئا، وإما في أطراف المدن التي تحولت إلى مدن للمستوطنين وحواضرهم. أما مصير العرب الذين سكنوا منذ القدم في المدن الكبيرة، فكان التخطيط المدني لهم في المرصاد حيث تعمد التخطيط العمراني بأن يجعل هذه الأحياء هامشية، عبر ارتكازه على أحياء المستوطنين وتخصيص الميزانيات البلدية إليها ومنع وصولها إلى الأحياء العربية. وربما خير دليل على ذلك هو الأحواز العاصمة التي لن تجد فيها مشفى واحدا يقع في الأحياء العربية في العاصمة، ناهيك عن المكتبات والجامعات والمنتزهات؛ حتى مراكز الشرطة هي الأخرى لم تبنى في الأحياء العربية، بعمد، لأن النظام بذلك أراد بث حالة من الفوضى وانعدام الأمن في الأحياء العربية والحفاظ على روح التخاصم بين القبائل التي يشتد لهيب مخاصمتها في حالة انعدام قوة فائقة من الشرطة تمنع الاقتتال بينها.

 

  • التفقير: وفي الساحة المعيشية تكررت سياسة الطوارئ التي هي بحق سياسة قتل خفي وصامت. فهنا منع النظام الإيراني الشعب الأحوازي من تكوين حياة اقتصادية تسمح بتجاوز ضروريات الحياة لصعود سلالم أعلى تتجلى في الإبداع والميل نحو الحرية والكرامة ونزع الاعتراف. لقد دأب النظام الإيراني منذ تاريخ سلطته على الأحواز على منع شعبها من الرقي عن الحاجات المعيشية الاقتصادية، وأبقى جميع الفئات، إلا في حالات نادرة نظير الأسواق التي تمت الإشارة لها، أبقاها تجدُّ يوميا في سبيل توفير لقمة العيش وتلبية أبسط متطلبات الحياة. وفي حالة توفير مصدر مستمر و مستدام للفرد، نظير المعلمين والموظفين من الدرجات الدنيا، ظل دخل هؤلاء لا يفي بتكاليف حياتهم، حتى بات شراء شقة سكنية وسيارة حلم جل الشعب الأحوازي وأكثريته الساحقة. 

 

 

هناك نقطة نفسية بالغة الخطورة تتعلق بمأسسة الفقر وتوطيده في نفسيات الأفراد. والمقصود بذلك هو أن الأحوازي، الذي اعتاد على ظروف الأجيال المتعاقبة من الاحتلال بالعيش في الهامش والأطراف، أصيب بفقدان مصادر رزقه التقليدية، مثل الأرض والزراعة، من دون إحلال مصادر حديثة بديلة لها. وبعد أن تعمد النظام إبعاده عن الدخول في البيروقراطية التي تضمن له مصدر رزق ثابت، أصبح ينظر للعالم من منظور فقره وفاقته، ولم يتمكن عقليًا ونفسيًا من التفكير في مشاريع اقتصادية بسيطة، ناهيك عن الكبيرة. ظلت طموحاته لا تتجاوز الراتب الزهيد أو الحصول على منزل يمتلكه في أطراف الأحياء الاستيطانية الباهظة الثمن.

 

 

ولم تقتصر تبعات ذلك الفقر النفسي على هذا الحد فحسب، بل جعلت العربي يزدري نفسه ذاتيًا أمام المستوطن الغني. ومن هنا توطدت ثقافة الازدراء اقتصاديًا، وأصبح الشعب ضعيف الذات محقّرًا أمام المستوطن، ينظر إليه بكل نظرات التبجيل والانبهار، وأيضًا الدونية والنقص في ذاته.

 

 

ومع اشتداد الأزمة الاقتصادية إثر العقوبات المفروضة على النظام الإسلامي الإيراني، كانت الوطأة مزدوجة، وازداد الفقر. ذلك لأن المستوطن وجد بعد العقوبات نفسه أمام مدخرات لجأ إليها، وبات يعالجها أو يستثمرها للتكيف مع العقوبات والاقتصاد المتأزم، بينما الأحوازي الذي لم يجد من المدخرات الاقتصادية ما يتعامل به مع هذه الأزمة غير المتوقعة، كان يبذل ما يحصله يوميًا، كونه يعيش براتب يومي في أغلب الحالات.

 

 

  • إرباك التعليم وتفشي الأمية: لعل أكبر الضربات الحضارية التي وجهها النظام الإيراني ضد الشعب العربي الأحوازي هي ضربة في مجال التعليم. تفيد المعلومات الرسمية للنظام بوجود 650 ألف أمي في شمال الأحواز، معظمهم من البنات والنساء . تعاني المنظومة التعليمية من نقص حاد في المرافق الضرورية للتعليم، بما في ذلك عدد المدارس والمعلمين والمكتبات والكوادر المختصة، وجميع المتطلبات التي تجعل التعليم مستدامًا بشكل معياري. كما أن سيطرة المستوطنين على الإدارة العامة للتعليم وضعت هذه الدائرة الحضارية الحيوية في مهب الرياح العنصرية التي يمارسها المستوطنون ضد الأطفال بهدف طمس الهوية العربية منذ سن مبكرة. ويقوم هذا الأمر على تفضيل توظيف المستوطنين وأنصاف المتعلمين منهم على حساب العرب، حتى لو كانوا مؤهلين ويحملون شهادات علمية مرموقة.

 

 

ولكن من جهة أخطر، فإن ممانعة التعليم باللغة الأم قد شوّهت الحواس الإدراكية والفهم باللغة العربية وضربته في مقتل. حيث تشير الدراسات المختصة إلى أن التعليم بغير اللغة الأم يشوه عدة مستويات في الطفل: منها تشويه السمع، والتأثير السلبي على القدرة التواصلية، والنيل من الثقة بالنفس في التعبير عن المعارف والعواطف، وانفصال الطفل عن أبويه في المنزل، وازدواجية التعامل الاجتماعي بين المدرسة التي تعتمد لغة مغايرة والأسرة التي تتحدث باللغة الأم، بالإضافة إلى المشكلات الأخرى التي تتولد نتيجة فرض اللغة الفارسية على الأطفال وقطع صلتهم ببيئتهم الثقافية واللغوية.

 

 

وإذا كانت المشكلات المذكورة سابقًا، مثل ضعف البنية التعليمية وتدهور مرافقها العامة، قد أودت بالتعليم المعياري، فإن الأهم في كل ذلك هو الإصرار على فرض اللغة الفارسية كلغة رسمية للتعليم في كافة مستويات الدراسة. إن هذا الإصرار هو السبب الرئيسي للتدهور، حتى أصبحت بعض فئات المجتمع ترى في التعليم ضررًا للأطفال، بدلاً من النظر إليه على أنه بوابة لفهم العالم، والتفاعل مع الآخرين، والتقدم في الحياة.

 

 

  • قتل الطبقة الوسطى: لا يمكن بأي حال من الأحوال إهمال هذا الجانب في احتساب التبعات التي أتى بها الاحتلال، والمقصود به المحاولات الحثيثة لقتل الطبقة الوسطى الأحوازية الناشئة . فقد صبت جميع الخطوات والسياسات والمشاريع التي نفذها النظام الإيراني مجتمعيًا لصالح تذويب الطبقة الوسطى، وقتلها عمدًا، ومنع توطيدها ومأسستها. وذلك لأن النخبة الإيرانية أدركت بوعي أن لا خطر بعيد الأمد يهدد استمرار الاحتلال أكثر من هذه الطبقة الوسطى، وما تحمله من إيديولوجيات وتطلعات قومية عربية ستصب منطقيًا في صالح العروبة والنزوع نحو التحرر من الاحتلال الذي سيجد نفسه حتمًا يناقض وجودها القادم من خارج النطاق القومي الأحوازي العربي.

 

 

إذا ما تم احتساب أبرز المحاولات الهادفة إلى القضاء على الطبقة الوسطى، نجد على رأسها تدمير التعليم وتدهوره، كما تم شرحه في الفقرة السابقة. تبع الاحتلال هذه السياسة بتدمير المدينة والمدنية ووأد مظاهرهما في مختلف المدن والأمصار والضواحي، وذلك عبر تحويل المدن العربية إلى مدن تشبه الأرياف والقرى، وبث الروح القروية والقبلية بينها، حتى صارت المدن أشبه بالقرى المنتمية إلى العالم القديم بدلًا من المدن التي تنشأ في العالم الحديث. خير مثال على ذلك هو “حي إرفيش” الشهير في العاصمة الأحوازية، وهو من أقدم الأحياء المدنية في جميع الأحواز. فقد كان حي إرفيش في مطلع الستينات والسبعينات حاضنة للثقافة العربية الناشئة، ومظهرًا من مظاهر مدنيتها، وتحولها إلى حي يحتوي على القوى العربية الحديثة. كان في هذه المدينة الموظفون والأساتذة والكتاب، وكان جوها الثقافي العام يشهد ميلاد الإيديولوجيات التقدمية الحديثة، من اليسارية والليبرالية والقومية. وكان عموم الناس في المقاهي والمحافل يستمعون إلى أخبار صوت العرب ويتحدثون حول القضايا السياسية التقدمية، حتى أمكن بوضوح رصد ميلاد ساحة عامة ، كان يمكن أن تتحول إلى النواة التي ستوطد أفكار الطبقة الوسطى وتجذب إليها فئات مجتمعية أخرى، لتصبح بذلك أكثرية مجتمعية تتقدم نحو الحداثة. ولكن على خلاف ذلك كله، جاء النظام وحوّل هذا الحي إلى وكر لتجار المخدرات والمشروبات الكحولية، ثم لما بات بؤرة تؤرقه أمنيًا، حوله إلى سوق لعرض المأكولات الرخيصة، وقضى عليه بذلك قضاءً مبرمًا.

 

 

 

عزز الاحتلال، خاصة في عهد الجمهورية الإسلامية، القبلية وجعلها الثقافة العامة للشعب، ووطد مختلف سلوكياتها على كافة الفئات، عبر ذلك التلاقي التاريخي الخطير الذي التحمت فيه التقليدية الموجودة في النظام الديني مع التقليدية المتوارثة في القبيلة، ليصب ذلك في صدفة تاريخية غير مباركة لصالح تعزيز القبيلة. وهنا تم قتل ما كان في الثقافة من فردية، وتم القضاء على الجدارات وتبجيل العلم بالتزامن مع تفوق الشيوخ والأعيان على الجميع بنقاوة الدم وشرف البيت. تزعزعت مكانة التفكير في الأمة الأحوازية لصالح الانتماء للقبيلة، حتى باتت قضية الانتماء المصيرية تتعلق بالانتماء العشائري الفئوي. وهكذا انقلبت فكرة الأحواز رأسًا على عقب، وأصبحت النخب القومية محل سخرية من القبليين وأكثرية الشعب، ومحل ريبة وخوف منهم.

 

 

وبعد كل ذلك، تابع النظام مساعيه في القضاء على الطبقة الوسطى، وذلك من خلال ضرب الدخل الشهري الثابت لها. إذ إن حرمان الفئات الوسطى من الدخل الشهري يعني مباشرة تذويب اهتماماتها وشؤونها المتعلقة بالثقافة والعلم والقضايا المجتمعية والأفكار التقدمية، وكل ما يشكل هوية الطبقة الوسطى. وبهذا يتم تحويل كل تلك الاهتمامات إلى الكدح والمثابرة والجهاد من أجل الحصول على لقمة العيش، وإنهاك المجتمع بأسره بقضايا لا تتجاوز غريزة البقاء والحاجات الأساسية. يؤدي ذلك إلى نسيان الشؤون العامة، مما يفضي في النهاية إلى تقزيم التطلعات بحيث تقتصر على امتلاك سكن وعلاج، كأنها الغايات القصوى التي سيتفاخر الأفراد بتحقيقها طوال حياتهم.

 

 

 

سياسة الانصهار الثقافي

 

 

 

لقد كان التوجه الثقافي الذي حكم النظام الإيراني عشية الاحتلال هو الانصهار الثقافي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، والقضاء على العروبة بكل حمولاتها ومظاهرها. ويعني مفهوم الانصهار الثقافي مسخ اللغة وإحلال أخرى بدلاً عنها؛ والقضاء على الثقافة، بكل حمولاتها من العادات والتقاليد والقيم، وإحلال ثقافة أخرى بعاداتها وتقاليدها وقيمها بديلاً لها(2) . ناهيك عن التمظهرات المجتمعية والبنى الاجتماعية النابعة من التاريخ الذي خلفته تلك الثقافة. إنها عملية شاملة تتضمن كافة التجليات الخاصة بوجود قوم ما في نطاقه الجغرافي المحدد له والمتوارث إليه منذ أقدم العصور.

 

 

 

وفي الحالة الإيرانية ضد الأحواز، كان ذلك يعني إحلال الثقافة الفارسية بدلاً عن العربية بكل تجلياتها، وفق ما تبين أعلاه. وقد تم هذا التوجه الثقافي عبر قرن من الاحتلال في الساحات التالية:

 

 

 

  •  التفريس: كتب حاج عبد الغفار نجم الملك، الرحالة الإيراني الأشهر بين الأحوازيين، ومن رجالات البلاط القاجاري البارزين في رحلته الشهيرة إلى الأحواز، “رحلة إلى عربستان”، ما مضمونه: إن شدة نفور العرب هنا في «عربستان» بلغت غاية جعلت العربي يستغرب من رؤية فارسي يضع على رأسه الطاقية الفارسية، ليفر منه سريعاً ولا يكلمه. إن هذه البقعة بالاسم إيرانية، وفي الواقع أجنبية. ولذلك وجب إرسال آلاف من الفرس إلى هنا على هيئة تجار وصنّاع وحدادين، ليختلطوا معهم، ليخففوا من عروبتهم، حتى يتم رويداً رويداً القضاء على العربية التي جعلتهم لا يروننا مواطنين لهم، ولا صلة بيننا.

 

 

والغريب في ذلك هو تحول هذه المشاهدات والتوصيات العامة إلى توجه محل إجماع بين النخب الإيرانية، حيث حاول جميعهم التنظير لها، والسير وفقها، والسعي لتحقيقها. وقد شكلت الدولة الإيرانية على يد الشاه رضا خان فرصة سانحة لتنفيذ هذا التوجه الثقافي، وتأطيره نظريًا. وكان خير معين في ذلك هو النظام التعليمي الإيراني وفرضه اللغة الفارسية كلغة تدريس لجميع الشعوب التي احتلتها إيران ، وفي مقدمتها الشعب الأحوازي. 

 

 

ولكن إذا كان النظام التعليمي هو البداية، فقد كان الاستيطان ذروة هذا التوجه، حيث بات الفارسي مجاورًا للعربي الأحوازي في كافة المدن والأحياء، بعد تنفيذ توصية نجم الملك. ناهيك عن مجاورتهم في النظام البيروقراطي والمدارس والجامعات والأماكن العامة؛ حتى أصبح بعد ذلك العربي يستسيغ الفارسية التي تعلمها في المدرسة، وتحولت إلى لغة الدولة المحتلة. لذا اضطر الأحوازي للتعاطي مع اللغة الفارسية اضطرارًا لتسيير الأمور اليومية، ولأنها لغة السلطات التي يكون الشعب تحت سلطانها، حيث ارتبط الحصول على ضروريات الحياة، مثل الرواتب والتأمينات والسجلات المدنية والجنسية والأرقام الوطنية وشهادات الوفاة والميلاد وغيرها، بالتحدث بالفارسية ومتابعة الشؤون العامة عبر استخدامها.

 

 

 

ولكن إذا كان ذلك سائدًا فقط في المدن الكبيرة التي طالتها يد الاستيطان، مثل الأحواز العاصمة وعبادان والسوس والعميدية ومعشور، حيث كانت مدن مثل الخفاجية والحميدية ودارخوين وغيرها خالصة عربية، فإن بث روح الازدراء بين العرب جعلهم لا يحتاجون إلى التعامل مع المستوطنين لترك لغتهم العربية، بل تحول الفرد ذاتيًا إلى محتقر لعروبته بفعل الحملة الشاملة التي تحط من قيمة العروبة.

 

 

 

  • بث روح الازدراء: في هذه الجزئية، صُوِّر الفارسي المحتل باعتباره صاحب الإعلام والكتب والمجلات والمنشورات عمومًا، وصاحب النخب الفارسية التي تستفرد بالأغلبية العربية. تم تصوير العرب على أنهم مرتبطون بالانحطاط ورعي الإبل والوحشية والعدوان وقبح المنظر، وتم اختصارهم في كلمتين: “فقدان الحضارة.” إذا نظرنا إلى أولى الإنتاجات الفكرية والتاريخية للنخبة الإيرانية، المتمثلة في فتح علي آخوندوف وكرماني، نجد أنهم جعلوا “الآخر” والعدو التاريخي طوال تاريخ إيران هو العربي بشكل عام، والعربي الأحوازي تحديدًا. توالت هذه الأفكار القومية المتطرفة في مختلف العهود الإيرانية، وفي كل منها كان العربي يحتل موضع العدو الذي جلب الدمار والانحطاط لإيران منذ دخوله تحت راية الإسلام واحتلاله لإيران.

 

 

قد يجد القارئ غير المطلع غرابة في تصوير العرب بهذا الشكل، إذ يتم تحميلهم مسؤولية الانحطاط الإيراني. ولكن هذه الصورة هي السائدة في الإنتاج الفكري والتاريخي الإيراني منذ قرنين. وقد بلغت هذه الصورة ذروتها على يد ميرزا آخوند كرماني، الذي كان يقول إن العرب هم سبب الانحطاط الحضاري لإيران، وإنهم شوّهوا المظهر والشكل الإيراني، أي الفارسي. فقبل قدوم العرب، كان الآري الإيراني طويل القامة، أخضر العيون، أبيض البشرة، صحيح المزاج. ولكن بعد مجيء العرب، أصبح الإيراني أسود البشرة مثلهم، قصير القامة، معتل المزاج، سيء الطباع.

 

 

 

إثر هذه القناعة التي صورتها النخبة الإيرانية، تم التعامل مع الشعب العربي الأحوازي بناءً على خيارين: إما الإقرار بأنهم عرب، وبالتالي عليهم تحمل جميع الصفات السلبية التي رسمتها النخبة الفارسية، أو إنكار عروبتهم للتخلص من هذه “التهمة” بالعروبة التي فرضتها النخبة والنظام الإيراني المحتل. ومع ذلك، كان الشعب الأحوازي يميل دائمًا إلى التمسك بعروبته، ولذلك كان عليه تحمل التبعات التي تنتج عن ذلك، وأبرزها الازدراء والنظرة الدونية تجاههم. 

 

 

 

  • تزوير التاريخ العربي: ومن صور هذا الازدراء شَنُّ حملة شاملة إعلامية وتاريخية ونفسية إلخ، تهدف إلى القضاء على جميع المعالم العربية في الأحواز، وتحويلها إلى محافظات فارسية منذ القدم ، وبث فكرة أن الشعب الأحوازي ليس عربياً، بل إن مجاورته للبلاد العربية حوَّلت لغته الخوزية إلى العربية(3)، في تزوير صريح لعروبة هذا الشعب وتاريخه العريق المليء بالعلماء والأعلام والحروب والحكومات الأحوازية. وكانت من ضمن هذه المحاولات تغيير الأسماء العربية للمدن والمعالم والأعلام. ومن هنا تم تغيير اسم الخفاجية إلى «سوسنكرد» والفلاحية إلى «شادكان» والمحمرة إلى «خرمشهر» وزيغورات إلى «جغازمبيل» والسوس إلى «شوش» وغيرها من المدن.

 

أما على صعيد الدول العربية(الاحوازيه) التي أُقيمت في هذه المنطقة، فقد كان تعامل المؤرخ الفارسي على الدوام هو تزويرها لصالح الحضارات والدول الفارسية، إذا كان ذلك ممكناً، أو تشويه الصورة العربية إذا كان التزوير مستحيلاً. وبناءً على ذلك، تم تصوير الإمارة الأحوازية في عهد الأمير خزعل على أنها مجرد مشيخة قبلية كانت خاضعة تماماً للشاهنشاهية القاجارية، وأن الأمير لم يكن أمير بلاد، بل مجرد شيخ قبلي تغلب على بعض الشيوخ وكانت له السيادة عليهم. ناهيك عن الطعن في أخلاقه وسمعته وإنجازاته الأخرى.

 

 

 

 

 

  • الهوية والوعي: لا شك أن كل تلك التوجهات الثقافية تركت آثارًا كبيرة، على الرغم من جميع المقاومات والمساعي الجبارة على مر التاريخ للحفاظ على الثقافة العربية وكل ما يتعلق بها. ومن أولى هذه الآثار الناتجة عن ثقافة الانصهار، هو تعرض الشعب الأحوازي لأزمات هوياتية متعددة الأوجه والتوجهات. فمن جهة، يلاحق سؤال عروبة الأحواز جميع النخب باستمرار، ليس من حيث التشكيك بأنهم عرب، لأن ذلك التشكيك غير موجود على الإطلاق، وكل عربي في الأحواز لا يرتاب بعروبته. بل إن مصدر التشكيك يتعلق بالسؤال الزائف الذي يقول: هل الأحواز عربية مستقلة، أم أنها عربية إيرانية؟ وهو سؤال ولِد من نخب معينة اضطرت في فترة من فترات الحكم الإيراني إلى فبركة مثل هذا العنوان الهوياتي، بهدف تحقيق مكاسب سياسية إبان الحكم الإصلاحي. ولا يمكن إخفاء تناقض هذه العبارة، “العربي الإيراني”، من حيث العقبة التاريخية والتطلعات السياسية الموضوعية والغايات النضالية. فمن الناحية التاريخية، عروبة الأحواز غير قابلة للنقاش، إذ لا يمكن الجمع بينها وبين الفرس تاريخيًا. ومن الناحية السياسية، لا يمكن لأي سياسي عاقل أن يتغافل عن القضاء على الحكم العربي، والدول العربية الأحوازية عبر التاريخ، على يد الفرس وتصنيفهم كقوة احتلال قانونيًا. ومن الناحية النضالية، فإن الإقرار بعروبة إيرانية يعني التنصل من تاريخ طويل من القتل والدمار الذي جلبه المحتل، وتم سرد بعض وجوهه هنا. لكن وجوه الأزمة الهوياتية لا تقتصر على هذه الجوانب فحسب، وذلك لأن حملة التفريس التي يقودها النظام الإيراني أطاحت ببعض الفئات العربية في فخ الفارسية، حيث تحولت بعض الأسر، وهي قليلة على كل حال، إلى الفارسية، وباتت أجيالها المتعاقبة لا تنطق بالعربية ولا تتقنها. وليس هذا فحسب، بل تعتبر نفسها فارسية غير عربية. ولولا أن هذا التفريس يحدث بين الأسر الميسورة والغيرالمتعلمة أكثر من غيرها، لما كان له أهمية تُذكر. ولكن لأن هذا التفريس يحدث بين فئة متعلمة، فإن تبعاته تكون حضارية أكثر منها كمية.

 

 

 

السياسة: الاستبداد القومي 

 

 

 

إذا أراد مختص جاد صك مصطلح للدولة الإيرانية الحديثة المركزية منذ تأسيسها قبل قرن، فلن يجد بدا من استخدام مصطلح “الدولة القومية”، وتحديدا “القومية الفارسية”، رغم تغيير أنظمة الحكم فيها. وهذا يستدعي فصلًا بين الدولة ككيان وبين أنظمة الحكم أو شكل الحكومات، سواء كانت ملكية أو جمهورية أو برلمانية إلخ. وهذا يعني أن طبيعة الدولة في إيران هي دولة قومية، سواء كانت قومية ملكية في وقت ما، أو جمهورية إسلامية قومية كما هو الحال اليوم. فالحكومة الحالية، رغم تلبسها باللباس الديني، إلا أن قوميتها تتغلب على جانبها الديني، حيث تُقدّم المصلحة القومية على المصلحة الدينية . إذ ظلت المصلحة القومية هي البوصلة التي توجه تعاملاتها مع الدين ومع الشعوب الأخرى، ومع كل مستجد يواجهها.

 

 

 

بناءً على ذلك، يتم التعامل مع الأحواز على أنها جزء من إيران القومية، بالمفهوم المذكور، أي أنها منطقة فارسية وسكانها فرس، ويجب عليهم الانصهار ضمن الشعب الإيراني الفارسي حصرا. ولذلك، سعت الدولة القومية الإيرانية المحتلة إلى القضاء على الأحواز في الساحة السياسية من خلال عدة مستويات:

 

 

 

 

 قتل المجتمع المدني : وهذا من أبرز المساعي لقتل السياسة في الأحواز. فإذا اعتبرنا المجتمع المدني جزءًا من الطبقة الوسطى، كما في المفهوم السابق، فمن الطبيعي أن يكون هو المستهدف. المجتمع المدني هو حاضنة الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية السياسية، وهو المكان الذي تتوالد فيه التوجهات السياسية العربية التي تصطدم منطقيًا بـ التوجهات القومية الفارسية. كما أن توطيد المجتمع المدني في الأحواز يعني الخروج من الوحدة القبلية إلى الوحدة المدنية. وهذا ما أشار إليه الجابري بقوله إن سطوة القبيلة في التاريخ العربي أنتجت معطيات جعلت التاريخ العربي مصطبغًا بالقبلية، ولذلك إذا أرادت الأمة العربية التخلص من القبيلة والانتقال إلى العالم الحديث، فلا بد أن يحل المجتمع المدني محل القبيلة .

 

 

وبينما تكمن أهمية المجتمع المدني في كونه حيويًا، فإن النظام أصاب هذا المجتمع الناشئ بمقتل، عندما تعامل معه بتوجه أمني ضاغط، حيث أطاح بكل مثقف أراد العمل على التنظير لهذا المفهوم. كما تعامل بنفس النهج الأمني مع الحركات السياسية والثقافية التي سعت إلى تمهيد الطريق لهذه الظاهرة، وبات مصيرها السجن والإعدام والتهجير. حتى أصبحت الساحة اليوم خالية من أي مؤسسة ثقافية، أو حركة سياسية، أو تجمعات نقابية، أو منشورات فكرية مدنية.

 

 

منع ميلاد مفهوم الأمة الأحوازية: من أجل ذلك، وبعد القضاء على جميع قوى المجتمع المدني، تخلفت الأحواز، شعباً ومجتمعاً ونخَباً ومفكرين، عن صناعة مفهوم الأمة الأحوازية. وهذا التخلف هو خلاصة جميع المظاهر التي تم التطرق إليها أعلاه: فالتخلف عن صناعة مفهوم الأمة يعني البقاء في الحالة القبلية، كما يعني اشتداد أزمة الهوية، ويعني أيضاً نجاح التفريس وزعزعة العروبة، ويصيب كل ما يمت بصلة إلى الأحواز تاريخياً وحاضراً ومستقبلاً. إن صناعة مفهوم للأمة يعني أن الشعب يلتحم كله في الجماعة والهوية العربية الأحوازية التي يُعرّف بها الأحوازي نفسه، ويحدد هويته القومية العامة والنهائية، ويشير إلى وجود وطن محدد المعالم، تنتهي إليه الهوية والتاريخ والثقافة والأدب والإنتاج والمستقبل. وفوق هذا وذاك، يتحدد به الفاصل بين الأحوازي وبين جميع العالمين من غير الأحوازيين، أي من غير الشعب الأحوازي. 

 

 

 

إن التخلف عن انبثاق هذا المفهوم يعني الاستمرار في التأرجح بين الانتماء لإيران، وبين الانتماء للعروبة بشكلها الفضفاض، والانتماء إلى المواطنة العالمية حسب الموضة الراهنة السائدة بين بعض المتعلمين الأحوازيين. ومن أجل ذلك، فإن الفريضة الواجبة سياسياً هي العمل على هذا الصعيد، من حيث الإنتاج التاريخي والمجتمعي والسياسي والأدبي، بوصفها الحقول التي يُحدد فيها مفهوم الأمة الأحوازية وفرديتها وتمايزها.

 

 

منع تشكيل الأحزاب والحركات السياسية: وما دام المجتمع المدني عليلاً وفي غيبوبة، والنخب عاجزة عن صناعة مفهوم الأمة الأحوازية، ظل النظام الإيراني متفرداً بالحركات والأحزاب التحررية، يبطش بها ويفصلها عن قاعدتها المجتمعية كلياً. من أجل ذلك، من أجل نجاح الاحتلال في فصل الحركات التحررية عن قاعدتها المجتمعية، تمركزت تلك الحركات في خارج الوطن، وبات نشاطها في الداخل فردياً، غير قادر على إحداث موجة مجتمعية تتحول إلى حركة مجتمعية قومية. إن ذلك التخلف في الحركات التحررية إنما هو نتاج كل تلك التبعات التي أتى بها الاحتلال الإيراني ضد الأحواز، وحيّد مناضليه عن الحاضنة المجتمعية التي يجب أن تتفاعل معهم. 

 

 

 

 

الختام

 

 

تم في هذه الدراسة رصد أهم التبعات التي تسبب بها نظام الاحتلال الإيراني، حيث يمكن كتابة عشرات الصفحات حول مختلف هذه الفقرات التي رصدت سريعًا جرائم النظام الإيراني ضد الأحواز. 

 

 

وكانت بداية جرائم النظام في البيئة، حيث مارس ضدها الإبادة البيئية، عبر تحويل الأحواز إلى أكثر المدن تلوثًا على المستوى العالمي، وأكبر المدن دمارًا للطبيعة والبيئة. أما اقتصاديًا، فكانت سياسة النظام تماثل السياسة الاستعمارية التي مورست من قبل المستعمرين الأوروبيين في يوم من الأيام، حيث يأتي النظام إلى الخيرات الأحوازية فينهبها ويخلف من وراءه دمارًا لا يبالي بمستقبل المنطقة، لأنه أتى لينهبها ويذهب، لا ليعيش فيها ويحافظ عليها للأجيال القادمة. وكان نتاج كل ذلك النهب للثروات هو تفقير الشعب ومنع الثروات عنه. 

 

 

أما على المستوى المجتمعي، فتتلخص سياسة الاحتلال في سياسة الطوارئ التي جعلت التعامل مع أي ظاهرة عربية خطرًا على الفرس ودولتهم، مما جعل البطش ضد العرب، الشعب الأحوازي، مشروعًا، سواء من خلال القتل بلا محاكمة، أو السجن مدى الحياة، أو التصدي لأي محاولة عربية على أنها جريمة تستحق القتل. 

 

 

وفي الساحة الثقافية، مارس النظام سياسة الانصهار ومحاولة قتل العروبة، واندثار عاداتها وتقاليدها وتاريخها العربي، سواء عبر بث روح الازدراء، أو التعامل مع العرب بحقارة ودونية، أو عبر تغيير الأسماء العربية للمدن والمعالم. 

 

 

وختمها بسياسة قومية استبدادية كانت البوصلة فيها الحفاظ على النظام الإيراني، عبر قتل المجتمع المدني الأحوازي، ومنع الشعب من التحول إلى شعب وأمة عربية أحوازية، والقضاء على كافة الحركات التحررية وفصلها عن حاضنتها العربية.

 

 

 

رحيم حميد، باحث في معهد الحوار للابحاث والدراسات

 

 

الهوامش:

1: .ولعل من الملفت في هذا السياق القول بأن باقي الشيوخ الذين ينتمون إلى قبيلة الأمير خزعل قد نظروا وقد فهموا الإطاحة بحكمه الإطاحة بحكم شيخ أخذ السيادة عليهم، لا الإطاحة بأمير إمارة كانت على مشارف تحولها إلى دولة. وجميع الوثائق المكتوبة المتبقية، إلى جانب الشهادات الشفهية، تثبت أن النظرة الغالبة على القبائل وشيوخها كانت هي هذه النظرة تجاه الإطاحة بالحكم العربي من قبل الفرس. 

2: أنظر في ذلك في الحالة الإيرانية ضد الأحواز إلى: رضا ضيا إبراهيمي، نشوء القومية الإيرانية: العرق وسياسة التهجير، دار نشر اختران، طهران 2016.

3: أنظر لمحاولة المؤرخ الإيراني الشهير أحمد كسروي في كتابه: خمسمائة عام من تاريخ خوزستان.

 

"الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لموقع معهد الحوار للأبحاث والدراسات"



error: Content is protected !!